نموذج الأمن والاستقرار في المجتمع المدني

قبسات من أفكار المرجع الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: عندما يتحدث الواحد منّا عن حقوق الانسان والحريات الفردية والعامة، واحترام الآخر وغيرها مما يُعرف عنه اليوم بـ "المجتمع المدني"، لابد أن يقرن حديثه بأمثلة ومصاديق من الحياة السائدة في الغرب، حيث يسود القانون والنظام بما يخدم الانسان. ونفس الشيء يفعله عندما يشهر تذمره واستنكاره للأوضاع المزرية في بلادنا، من انتهاك للقانون وتجاهل لحقوق الانسان، وانتشار ثقافة اللامسؤولية، فيستذكر الواقع الحضاري الذي ينعم به الغرب حالياً، فيما يتخلف عنه المسلمون في غير بلد اسلامي.

ربما يندفع البعض الى اجترار التجربة الغربية في التوصل الى نموذج او صورة من "المجتمع المدني" للتخلّص من المستنقع الذي يعيش فيه، بيد إن وقفة تأمّل وتدبّر لتاريخنا، وتحديداً لسيرة الرسول الأكرم وايضاً سيرة أمير المؤمنين، صلوات الله عليهما، تعطينا إشعاعات باهرة عما نبحث عنه وسط الظلام. وهذا ما يشير اليه سماحة المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- في حديثه عن الرسول الأكرم، في ذكرى استشهاده، حيث يبين سماحته وجود "المجتمع المدني" قبل أربعة عشر قرناً، وأن الانسان قد جرّب العيش ضمن هذه المنظومة، مع اختلاف الظروف الزمانية والمكانية.

كيف حصل ذلك..؟

وهل ثمة معجزة في الأمر، وأن بيد النبي الأكرم ، كان ما يشبه "عصا موسى"، يحوّل بها المجتمع الجاهلي الى مجتمع مدني – متحضّر..؟

الإجابة تأتي من خلال الحديث الشريف: "يأبى الله ان تجري الأمور إلا باسبابها"، فهنالك جهود وتضحيات قدمها النبي وأهل بيته، لتقديم المصاديق الواقعية على الأرض لذلك المجتمع الذي ننشده اليوم، منها؛ قضية توفير أجواء السلم والاستقرار ونبذ العنف والفوضى. في ظل هذا المفهوم، حقن العرب دماء الآلاف من قبليتي الأوس والخزرج التي كان يفترض ان يستمرا في اقتتالهما ضمن مسيرة استمرت حوالي (300) سنة، إلا ان نهج السلم والاستقرار هو الذي وضع حداً نهائياً لهذه المعارك، والأهم من ذلك، استبصار المئات من القبيلتين بنور الاسلام، وقد شكلوا فيما بعد العمود الفقري لأنصار النبي في المدينة، ثم تحولوا الى أحد أركان المجتمع الاسلامي والأمة بأسرها.

بينما اذا ألقينا نظرة سريعة على تجارب أنظمتنا السياسية خلال القرن الماضي – على الأقل- نجد البعد الشاسع، ربما يكون بين السماء والأرض، حيث يصنع الحكام أعداء وهميين، مثل "الامبريالية" و "الاستعمار" وغيرها، في حين كانوا هم خير من يحفظ ويصون المصالح الاجنبية، فالشباب اليافع ليس أمامه سوى العدو الخارجي، وما عليه سوى التدريب على السلاح والتفكير الدائم بالتحديات الماحقة والحرب المصيرية...! أما الثروات والقدرات المادية والبشرية، فهي الاخرى تشكل حطباً في آلة الحرب الوهمية. لذا نجد الصدمة كبيرة جداً عندما تهاوت الأصنام العربية الواحد بعد الآخر، حيث اكتشفت الشعوب أنها دفعت ثمن مغامرات الحكام بدماء ابنائها ومصيرها ومستقبلها، ولم تجن سوى الحرمان والتخلف، الى جانب خسائر معنوية كبيرة، ليس أقلها، شيوع حالة الانهزامية النفسية والخذلان وعدم الثقة بكل شيء.

واذا نجد انتشار حالة القسوة والعنف في مجتمعات مثل المجتمع العراقي والليبي واليمني، فلأن السلم والأمن لم يندرج ضمن منظومة البناء الاجتماعي الذي اعتمده حكام الزمان الغابر، إنما كانت البندقية والسيف والخنجر هو سيد الموقف، وهو لغة الخطاب و وسيلة تحقيق الاهداف المنشودة.

إن فقداننا لهذا الركن المهم في البناء الحضاري، أسهم في خلق ظواهر اجتماعية شاذة ، ربما تكون اكثر خطورة وأفتك من الأوبئة المعدية، لأنها لا تعني بشخص واحد، انما تمد شعاعها في جنبات المجتع، منها: الإدمان على المخدرات، ونزعة الجريمة ، مثل السطو وعمليات الاختطاف والابتزاز.

ولمن يتحدث عن الغزوات والحروب التي خاضها النبي الأكرم وايضاً أمير المؤمنين، عليه أن يلاحظ الجو الاجتماعي السائد في تلكم الحكومتين، وهل إن الحروب تركت أثراً سلبياً على المجتمع آنذاك، كما تفعل الحروب ضد الاعداء الوهميين في بلادنا اليوم بالمجتمعات والشعوب؟ نعم؛ كان يسقط الشهداء في الحروب، بيد أن المجتمع على تماسكه وقوته، ونظاقته من أي ظاهرة شاذة مثل السرقة والسطو والاحتيال ، وأي نوع من انواع الارهاب الشائع اليوم.

وعندما نقرأ أن في حكم النبي الأكرم، تُصفر ديون المسلم، وتبقى أمواله وثروته ملكاً لابنائه، فمن المؤكد أن تسد حاجة العوائل المتضررة من الحروب والمعارك مع المشركين وأعداء الاسلام. ومعروفٌ أن هذه المعارك كلها كانت دفاعية، فلم يسجل التاريخ حرباً او معركة ابتدأها النبي الأكرم، او الامام علي، ضد الجانب الآخر. بمعنى حرص الاسلام على أن يعيش المجتمع فترة أطول في ظل السلم والاستقرار.

وبما ان الامن والاستقرار يشكلان قاعدة الانطلاق نحو البناء والتنمية والتطور، فان التجربة التي يشير اليها سماحة المرجع الشيرازي، وفرت للمجتمع المدني سبل العيش الكريم، ومهدت الطريق أمامه للعمل والانتاج، وهذا ما نلاحظه في تراثنا الذي ينقل صوراً مشرقة لكيفية توزيع "بيت المال" على المسلمين بالتساوي، ويستند سماحته الى مصادر معتبرة مثل "البحار" و "الكافي" و "من لا يحضره الفقيه"، بأن المسلمين في ذلك العهد الذهبي كانوا يحصلون على مرتباتهم بالتساوي، فلا يبقى محتاج ولا معوز إلا ويستلم حقه من "بيت مال المسلمين". ليس هذا فقط، إنما توفير أوليات المعيشة لكل إنسان، كالعمل، والمأكل، والملبس، والسكن، والزواج، والتعليم، والعلاج، كل حسب شأنه.

ومن الأمثلة على الريادة في المجتمع المدني، ذلك الفقير الذي كان يستعطي الناس، ولما وصل الى النبي الأكرم، اقترح عليه، صلى الله عليه وآله، العمل وأن يأكل من كد يده، فشكى فقره وانعدام رأس المال لديه، فأعطاه درهماً وقال له: ترزق بهذا الدرهم، فاشترى به مقدراً من الحليب، حوله الى لبن رائباً وباعه فربح درهمين، وكرر العملية فتضاعف ربحه وهكذا، حتى تمكن من افتتاح دكان له لبيع منتجات الألبان. أو قصة ذلك الفقير الذي جاء اليه، صلى الله عليه وآله، وشكى فقره، فجاء الاقتراح مفاجئاً وغريباً عليه وهو: "تزوج"..! فلما سأله ذلك الرجل عن كيفية الزواج وهو يشكو الفقر.. فأعاد عليه النبي القول بأن يطبق ما قال له ويرى النتيجة، وكان كما قال النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وهذا المثال بحد ذاته يؤكد للعلماء والباحثين أن مشروع الزواج، ليس بالضرورة أن يكون مستهلكاً للمال، كما يصوره البعض، إنما مشروعاً منتجاً ومثمراً بشرط أن يشتمل على مواصفاته وشروطه الصحيحة.

إننا نتحدث عن المجتمع المدني في العهد الذهبي الأول، وكيف أن النبي وأمير المؤمنين، كانوا يوفرون أفضل السبل الممكنة للحياة الهانئة والسعيدة للمجتمع، لنا أن نتساءل عن وضع المسلمين لو لم تُفرض الحروب الثلاثة على أمير المؤمنين من قبل معاوية وطلحة والزبير والخوارج..؟ ربما كانت الكوفة آنذاك، مليئة بالمتاجر والمباني العامرة، ولكل رجل رأس مال يكفيه لتوفير فرصة عمل في أرض زراعية او محل تجاري أو صناعة حرفية وغيرها، لما يحصله من التقسيم بالسوية وبالوفرة التي يتحدث بها التاريخ من الحقوق الشرعية التي كانت تصل الى مركز الخلافة، فقد كان عليه السلام، يكسر الذهب والفضة بسيفه ليوزعه على المسلمين.

إن قضية الأمن والاستقرار، تحولت اليوم الى ضالة الشعوب والبلاد الاسلامية، بسبب المطامع السياسية لدى اشخاص وجماعات، يفضلون الامتيازات والاموال والعقارات على أمن واستقرار البلاد والعباد، وهذا تحديداً هو الذي جعل الناس في بلادنا يحزمون حقائبهم ويحطمون الجسور من خلفهم ويتوجهوا نحو بلاد الغرب البعيدة ليجدوا هناك الحياة الآمنة، حيث فرص العمل والانتاج والابداع، وهذا ما يشير اليه سماحة المرجع الشيرازي في هذا السياق، حيث يشير ان مصدر ومنشأ النجاح الذي حققه الغرب ، يعود بفضله الى الاسلام، بمعنى أن المسلمين ليس فقط ابتلوا بالحروب والأزمات ، إنما خسروا تراثهم وتاريخهم ونماذجهم المشرقة التي اختفت خلف الغيوم السوداء على أمل ان تشرق علينا من جديد.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 11/كانون الثاني/2014 - 9/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م