سامراء ورسالة السلام والتعايش

في ذكرى استشهاد الإمام العسكري(ع)

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: يجمع المؤرخون والباحثون على أن التآلف الاجتماعي والتعايش السلمي، كان من أبرز سمات الأئمة المعصومين، عليهم السلام، كما هي سيرة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله. وبالرغم من لغة العنف والتنكيل والتشويه التي تعرضوا لها، إلا أنهم قابلوا هذا الجفاء وسوء المعاملة، بالعمل على تماسك المجتمع، والسعي لتطويره ونموه في المجالات العلمية والثقافية، بينما يلاحظ المطالع لتاريخنا الاسلامي، العكس تماماً في سيرة الحكام الذين عاصروا الأئمة، عليهم السلام، حيث جسدوا التفرقة والتشظي في كيان المجتمع والأمة.

فقد كانت سياسة "فرق تسد" متمثلة في نهج الحكام الأمويين والعباسيين، حيث كان الترويج لمصطلحات ومفاهيم توحي الى التمييز والتفريق بين أبناء المجتمع والأمة الواحدة، على أساس قومي أو طائفي او حتى طبقي. فاضافة الى "الموالي" وهم المسلمون من غير العرب، ظهر مصطلح "الرافضية" في العهد العباسي، في كناية الى المعارضين الموالين لأهل البيت، عليهم السلام. في المقابل يسجل التاريخ الاعداد الغفيرة للتلاميذ الذين كانوا يتدافعون على مسجد رسول الله، لتلقي العلوم الهادرة من الامام الصادق، عليه السلام.

وكذا كان الإمام أبو محمد الحسن بن علي العسكري، عليه السلام، الذي تمر هذه الأيام ذكرى استشهاده، فقد حمل هذا اللقب لأنه أمضى معظم حياته بين حامية عسكرية في "سامراء"، بمعنى أنه عاش محاصراً ومراقباً، لكن عندما يأتي اليوم الذي تتعرض فيه الأمة بأكملها لخطر الاهتزاز في ايمانها وعقيدتها، نرى شخص الحاكم العباسي (المعتمد) يهرع الى الامام العسكري، وهو في حصاره، ويدعوه لأن "ينقذ دين جده"، في الحادثة التي تحدى فيها رجل دين مسيحي، باستجابة دعائه في صلاة الاستسقاء، فجاء الإمام، عليه السلام، ولما صار خلف الرجل، ورأى انه رفع يديه للدعاء تحت السماء، أمسك بيده وأخرج عظماً صغيراً بين أصابعه، ثم قال له: ادع الآن..! فلما دعا، بان زيف ادعائه ومنزلته الكاذبة عند الله تعالى. وعندما سأل المعتمد العباسي عن تلك العظمة، قال الإمام: انها من عظام الانبياء، لا تكشف الى السماء إلا مطرت. وربما لهذا السبب، من جملة أسباب، كان الحكام العباسيون المعاصرون للإمام العسكري، عليه السلام، يصرون على تقييد حركته ومحاصرته في مكان محدد، لقطع صلته بوكلائه وأتباعه.

عندما نطالع هذه السيرة العطرة المليئة بالعبر والدروس، تثار أمامنا تساؤلات عن السبب في عدم استثمار هذا التراث الغني بالدروس الحضارية لإعادة إحياء مدينة سامراء المقدسة، حيث مرقد هذا الإمام، عليه السلام، وإبعادها عن مخاطر التمزق والتسييس والتجيير لمصالح ضيقة. والمسألة ليست مجرد شعارات وتمنيات، إنما هي من الممكنات رغم التحدي الطائفي المقيت، ولنا تجارب ناجحة في هذا المجال، متمثلة في عهد المرجع الديني الأعلى الميرزا محمد حسن الشيرازي – قدس سره- عندما نقل الحوزة العلمية من مدينة النجف الأشرف الى سامراء. ففي الوقت الذي كان مشغولاً بأمر الحوزة وطلبتها و دروسها، كانت عينه الأخرى على الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمدينة التي كانت الاغلبية القاطنة فيها على غير مذهب أهل البيت، عليهم السلام، ولعل إصراره – قدس سره- على اختيار هذه المدينة بالذات لتكون مركزاً للاشعاع العلمي والديني، اختباراً حقق نجاحه في حينه، وهذا لم يتم بالمجان أو بالصدفة، إنما ببذل المزيد من الجهود، وتقديم صورة حيّة للتعايش والقيم الاخلاقية.

يكفي أن نذكر عن تاريخ هذه المدينة في ذلك العهد، أنها شهدت أول جسر على نهر دجلة، كان له دور كبير في إنعاش الحالة المعيشية للناس، حيث كانوا يجبرون على استخدام عبارات صغيرة وبدائية الصنع، تسمى "الكفّة"، وهذا المشروع تم بمبادرة ودعم من الميرزا الشيرازي. هذا اضافة الى تشييد الاسواق والمساكن في هذه المدينة التي شهدت ازدهاراً وانتعاشاً إبان وجود الحوزة العلمية بين جنباتها.

لكن هذا ليس كل شيء. فقد تعرض الميرزا الشيرازي لاستفزازات عديدة من قبل بعض الجهّال ومثيري الفتن في المدينة. حتى بلغ التصعيد حدّاً أن يسارع البريطانيون لانتهاز الفرصة لتوسيع شقّة الخلاف والفرقة، فجاء مندوب الحاكم البريطاني في العراق، الى الميرزا الشيرزاي، طالباً تقديم شكوى ضد جماعة أساءت اليه، لإنزال العقاب ضدهم، إلا انه رفض ذلك بشكل قاطع، مؤكداً للزائر البريطاني أن القضية لا تعدو كونها خلاف بسيط بين المسلمين، وهم أقدر على حلها.

والغريب حقاً أن تكون سامراء عصيّة على الفتن الطائفية في عهد الاستعمار البريطاني، الذي لم يصمد أمامه بلد أو شعب إلا وأوقع فيه تمزيقاً وتقطيعاً من خلال "فرق تسد". بينما نجد السرعة الفائقة في اندفاع هذه المدينة اليوم نحو الاصطفاف الطائفي والتسييس، فقد باتت المطالب الطبيعية للناس، من خدمات مشاريع بناء وإعمار، مادةً للإثارة الطائفية والسياسية في آن. ويبدو إن ما فشل في تحقيقه البريطانيون في عهد الاستعمار، نجحت فيه أياديهم في المنطقة، وربما يكون التأثير أكبر وأسرع، حيث تلعب القومية دوراً ملحوظاً في هذه اللعبة. وهذا النجاح لم يتم، إلا بعد الاعتداء الآثم على الروضة العسكرية في شباط عام 2006، ونسف المرقد الشريف للإمامين العسكري والهادي، عليهما السلام. ثم تحول هذا الحادث الى تاريخ لاندلاع أعمال العنف الطائفية بشكل دموي لم يسبق له مثيل في تاريخ العراق الحديث.

أحد الكتاب المتابعين للشأن العراقي، دعا في حينها الى حلول سلمية للأزمة التي انفجرت بانفجار العبوات المؤقتة داخل الروضة العسكرية، تكون البداية من داخل مدينة سامراء المقدسة، على شكل مبادرات بناء وإعمار لجميع المرافق الخدمية والأمنية والمراكز العلمية، وإعادة الحياة اليها، ومن ثم إزالة ما علق بها من مظاهر الحساسية الطائفية والتمييز، وبالنتيجة قطع كل الطرق أمام محاولات زرع بذور التكفير والارهاب الطائفي عن هذه المدينة. بينما كان الجو العام، يتحدث عن وجود مسببين في هذا الخرق داخل مدينة سامراء، وهكذا مبادرة، تعد بمنزلة تقديم الهدية على تهديم المرقد الشريف..!

هذه الطريقة العاطفية في التفكير والتخطيط لإدارة أزمات عميقة الجذور، من شأنها أن تزيدها تعقيداً، وتبعدها عن الحلول المنطقية الصحيحة. لنفترض وجود أيادي خارجية تسعى للوقيعة دائماً بين الشيعة والسنة في سامراء وفي عموم العراق – والحال كذلك-، فما بال العراقيين أنفسهم..؟! فهنالك مسؤولون في الدولة. وهنالك ومؤسسات ثقافية ودينية وأكاديمية، وايضاً عندنا العشائر، وهم جميعاً ذووا تأثير كبير ومباشر في الواقع الاجتماعي والسياسي، وهؤلاء أمامهم مسؤولية إبعاد المدن ذات التنوع الطائفي من محاولات التمزيق والتفريق وزرع الفتن الطائفية، وفي مقدمتها سامراء.. هذه المدينة تستحق لأهل تكون نموذجاً لمدينة السلام والتسامح والتعايش الطائفي والاجتماعي، وهذا ما يساعدها على النمو والازدهار الاقتصادي اذا سبقه استقرار أمني. وهذا ما يجب ان يفكر به المعنيون بشأن هذه المدينة في وقت تعيش هدوءاً مشوباً بالحذر، أمام سوح مواجهة عنيفة ودامية في المناطق الغربية من البلاد، مع علم المعنيين بالحرص الشديد لدى أيادي الفتنة الخارجية، لزجّ هذه المدينة لتكون ضمن مسارح "ساحات الاعتصام"، الامر الذي يستوجب استباق الاحداث والمبادرة لما فيه خير المدينة وأهلها ومستقبلها وايضاً خير العراق بأسره.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 9/كانون الثاني/2014 - 7/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م