موت ما بعد الحداثة

حاتم حميد محسن

 

يرى البعض ان "ما بعد الحداثة" قد ماتت ودُفنت وحل محلها شكل جديد من السلطة والمعرفة تحت ضغط التكنلوجيا الجديدة والقوى الاجتماعية المعاصرة.

في وصف لأحد المقررات التدريسية التي يمكن تحميلها من موقع الكتروني في قسم اللغة الانجليزية في جامعة بريطانية، نجد تفاصيل لمهمات بحثية قصيرة وقائمة بالقراءات الاسبوعية لكورس اختياري في "قصص ما بعد الحداثة". لم يُذكر اسم الجامعة هنا لأن المقرر ببساطة يمثل الوحدات او اجزاء الوحدات التي سوف تُدرّس تقريبا في هذه السنة الاكاديمية في جميع اقسام اللغة الانجليزية في العالم. انه يفترض ان ما بعد الحداثة لاتزال حية، تتقدم وتزدهر: الجامعة تعلن انها سوف تبدأ بتدريس "المواضيع العامة لما بعد الحداثة عبر اختبار علاقتها بكتابات القصة المعاصرة". هذا يشير الى ان ما بعد الحداثة هي معاصرة، لكنها في الواقع وكما ثبت في المقارنة انها ماتت وتلاشت.

تؤكد فلسفة ما بعد الحداثة على المراوغة في المعنى والمعرفة. هذه المراوغة عادة يتم التعبير عنها في فنون ما بعد الحداثة كانشغال بالتجسيد والوعي الذاتي التهكمي. الحجة القائلة ان ما بعد الحداثة قد انتهت هي حجة طُرحت سلفاً و صيغت فلسفياً. البعض اعتقد اننا في فترة معينة آمنّا بأفكار ما بعد الحداثة، لكننا لم نعد كذلك الآن، نحن من الآن فصاعداً سنؤمن بالواقعية النقدية.، هناك منْ يفضل البقاء مع فوكلت(الما بعد حداثوي المعماري) بدلاً من الاهتمام باي شيء اخر. مع ذلك، يمكن طرح حجة اكثر اقناعا بان ما بعد الحداثة هي ميتة حينما ننظر الى الانتاج الثقافي الحالي خارج الاطار الاكاديمي.

معظم الطلاب الجامعيين الذين يدرسون (قصص ما بعد الحداثة) حاليا هم ولدوا في عام 1985 او بعدها، تقريبا جميع نصوص المقررات الرئيسية كُتبت قبل فترة حياتهم. هذه النصوص، وبعيداً عن كونها معاصرة، نُشرت في عالم آخر، قبل ولادة الطلاب:(الضابطة الفرنسية، ليالي في السيرك، مسافر في ليلة شتاء، هل الانسان الميكانيكي يحلم في النعجة الكهربائية؟، عدّاء الشفرة، الضوضاء البيضاء). بعض النصوص مثل (مكتبة بابل)، كُتبت حتى قبل ولادة آبائهم. لو استبدلنا هذا المخزون المخبأ بغيره من النتاجات الموثوقة لما بعد الحداثة – (المحبوب، ببغاء فلوبير، ارض الماء، صراخ لوت 49، وغيرها) سينطبق نفس الشيء. انها دائما معاصرة، هذه النصوص التي تتعامل بنجاح مع موسيقى الروك والتلفزيون، هي في معظمها لا تحلم حتى بامكانية التكنلوجيا واتصالات الميديا- الموبايل فون، الايميل، الانترنيت، الكومبيوترات الموجودة في كل بيت والتي هي من القوة بما يكفي لوضع الانسان على القمر- وهو ما يؤمن به طلاب الجامعة اليوم.

 السبب لماذا القراءة الاولية حول مقررات القصة البريطانية الما بعد حداثوية هي قديمة جدا، هو انها ببساطة لم تُجدد. انظر فقط الى السوق الثقافي: اشتر رواية نُشرت في السنوات الخمس الماضية، شاهد فيلم القرن الواحد والعشرين، استمع الى اخر الموسيقى- وفوق كل ذلك فقط اجلس وشاهد التلفزيون لمدة اسبوع – انت بصعوبة ستمسك بلمحة من ما بعد الحداثة. ونفس الشيء، يمكن للمرء الذهاب الى المؤتمرات الادبية ويجلس امام دوزينة من الاوراق التي لم تذكر اي شيء عن نظرية دريدا او فوكلت او بوديلارد. ان معنى التقادم والعجز وعدم الملائمة لمثل هذه النظريات الكثيرة بين الاكاديميين، ايضا يحمل دليلا على تجاوز ما بعد الحداثة. النص الواعي بذاته سيوحي لقطاع واسع من الناس بعدم الاختلاف- مثل رواية Lunar park لـ Bret Easton Ellis ولكن الروايات الحداثية التي نسيت منذ وقت طويل كانت تُكتب في الخمسينات والستينات. المنتجون للمواد الثقافية التي يقراها ويشاهدها ويستمع لها الاكاديميون وغيرهم، هم ببساطة فقدوا الايمان بما بعد الحداثة. المكان الوحيد الذي لا تزال فيه ما بعد الحداثة هو برامج كارتون الاطفال مثل فيلم (الرعب الذي لا يصدّق)، كإغراء تافه لإجبار الآباء للمتابعة مع اطفالهم. هذا هو المستوى الذي غطست فيه ما بعد الحداثة، مصدر السخرية الهامشية في ثقافة البوب الموجهة لمن هم تحت سن الثامنة.

ما هي ما بعد الحداثة؟

ان هذا التحول هو ربما اكثر من مجرد تغير بسيط في الموضة الثقافية. الظروف التي جرى بها تصور السلطة، المعرفة، الهوية، الواقع، والزمن قد تغيرت فجأة والى الابد. هناك انقسام بين اكثر المحاضرين وتلامذتهم مشابهاً لذلك الانقسام الذي ظهر في اواخر الستينات، ولكن ليس لنفس السبب. التحول من الحداثة الى ما بعد الحداثة لم ينبثق من اي اعادة صياغة عميقة لـ ظروف الانتاج الثقافي والتلقي، كل ما حدث، هو ان ذلك النوع من الناس الذين كتبوا ذات مرة رواية (يوليسيس) و(البيت المضيء) عادوا فكتبوا بدلا عن ذلك (النار الشاحبة) و(الحجرة الدموية). لكن في مكان ما في اواخر التسعينات وبداية الالفية الثانية، ادّى ظهور التكنلوجيا الجديدة بعنف الى اعادة بناء طبيعة المؤلف والقارئ والنص والعلاقة بينهم.

ما بعد الحداثة هي كالحداثة او الرومانسية من قبل، وضعت اهتماما كبيرا في المؤلف، حتى عندما يختار المؤلف اتهام نفسه او الغائها. لكن الثقافة التي لدينا اليوم تهتم بمتلقي النص لدرجة يصبح معها هو المؤلف للنص جزئياً او بالكامل. المتفائلون ربما يرون هذا دمقرطة للثقافة، المتشائمون يشيرون الى التفاهة الموجعة والفراغ في المنتجات الثقافية المنتجة بهذه الطريقة.

ان ما بعد الحداثة تخيلت الثقافة المعاصرة كمشهد او مسرحية يجلس الفرد امامها عاجزاً، وفيها اصبحت اسئلة الواقع مثار اشكالية. ولذلك انها اكدت على التلفزيون او على شاشة السينما. خليفتها، التي يمكن ان نطلق عليها بـ "الحداثة الرقمية" Digital-modernism تجعل فعل الفرد هو الشرط الضروري للمنتج الثقافي. الحداثة الرقمية تتضمن جميع برامج التلفزيون والراديو او اجزاء منها، وجميع النصوص، التي تُخترع محتوياتها وتوجّه من قبل المستمع او المشاهد المشارك.

وفق التعريف، المنتجات الثقافية للحداثة الرقمية لا تستطيع ولا يمكن ان توجد دون ان يتدخل فيها الفرد فيزيقيا. "التوقعات الكبرى"موجودة ماديا سواء قرأها اي فرد ام لم يقرأها. حالما انهى دكنز كتابتها والناشر حررها الى العالم، فان "نصها المادي"- اختيارها للكلمات- قد حدث وانتهى، حتى عندما يبقى معناها وكيفية تفسير الناس لها متاحاً للاخرين. انتاجها المادي ومؤسساتها تقررت بواسطة مجهزيها، اي، بواسطة المؤلف والناشر لوحدهما- فقط المعنى كان مجال سيطرة القارئ. برنامج الاخ الاكبر "Big Brother"، لكي يتناول النص الثقافي الحداثي الرقمي النموذجي، سوف لن يكون له وجوداً ماديا اذا لم يتصل شخص ما لكي يصوت في المسابقة. ولهذا فان التصويت هو جزء من النصية المادية للبرنامج- المتلفنون المشاهدون يكتبون البرنامج بانفسهم. اذا كان من غير الممكن للمشاهدين كتابة اقسام من "الاخ الاكبر"، سيكون عندئذ مكررا وتافها يتحدث بلا هدف في غرف لساعة بعد ساعة. هذا يعني القول، ان وجود "الاخ الاكبر" في الواقع، يتقرر بفعل المشاهد في الاتصال التلفوني.

ان الحداثة الرقمية تشتمل ايضا على برامج اخبارية معاصرة، تتألف محتوياتها بشكل متزايد من البريد الالكتروني والرسائل النصية في التعليق على مواد الاخبار. مصطلح "التفاعلية" هو بنفس المقدار غير ملائم هنا، طالما لا يوجد هناك تبادل: بدلا من ذلك، المشاهد او المستمع يدخل - يكتب قطعة او جزء من البرنامج- ثم يرحل، عائدا الى الدور السلبي. الحداثة الرقمية تتضمن ايضا العاب الكومبيوتر التي هي ايضا تضع الفرد في سياق حين يخترع المحتوى الثقافي، ضمن حدود مقررة سلفا. ان محتوى كل فعل انفرادي في ممارسة اللعبة يختلف طبقا للاعب المحدد.

الانترنت

ان الظاهرة الثقافية للحداثة الرقمية وبامتياز هي الانترنيت. فعلهُ المركزي هو حين يضغط الفرد على الماوس للانتقال بين الصفحات بطريقة لا يمكن الازدواج فيها، مخترعاً مساراً من خلال منتجات ثقافية لم يكن لها اي وجود من قبل وسوف لن توجد مرة اخرى ابدا. هذا الانخراط الثقافي المكثف في العملية الثقافية هو شديد لدرجه لا يمكن ان يقدمه اي ادب، ويعطي احساسا لا يمكن انكاره (او وهماً) بسيطرة الفرد وادارته وانخراطه في المنتج الثقافي. صفحات الانترنيت لم يتم تأليفها بمعنى لا يعرف اي شخص منْ كتبها. اكثريتها تتطلب من الفرد اما ان يجعلها تعمل، مثل خارطة الطريق، او تسمح له بالاضافة اليها، مثل الوكيبيديا، او من خلال التغذية والتعليق بشأنها، مثل، مواقع الميديا. في جميع الحالات، يبقى من المهم للانترنيت انك تستطيع بسهولة عمل صفحات خاصة بك(مثل البلوك).

السينما

اذا كان الانترنيت واستخدامه يحدد ويسيطر على الحداثة الرقمية، فان العصر الجديد هو ايضا يُنظر اليه على طول الخط كترميم او اعادة تنظيم للاشكال القديمة. السينما في عصر الحداثة الرقمية تبدو اكثر شبهاً بالعاب الكومبيوتر. صورها الرمزية - التي جاءت في يوم ما من العالم الواقعي – جرى تأطيرها، واضائتها، ومنحها صوتا وتحريرها مجتمعة من قبل مدراء بارعين ليرشدوا افكار المشاهد و عواطفه- هي الان بشكل متزايد تُصنع من خلال الكومبيوتر. وهم ينظرون اليه. حين نفترض ان التأثيرات الخاصة تجعل المستحيل يبدو ممكنا، فان الـ سي جي اي باستمرار تعمل لتجعل الممكن يبدو مفتعلا، كما في الكثير من (فيلم سيد الخواتم) او(المحارب). المعارك التي تستلزم الالاف من الافراد هي حدثت في الواقع، سينما الحداثة الرقمية تجعلها تبدو كما لو انها حدثت فقط في الفضاء الالكتروني. ولهذا فان السينما منحت ارضية ثقافية ليس فقط للكومبيوتر كموجد لرموزها، وانما للعبة الكومبيوتر كنموذج لعلاقاتها مع المشاهد.

التلفزيون

ونفس الشيء، التلفزيون في عصر الحداثة الرقمية يفضل ليس تلفزيون الواقع وانما ايضا قنوات التبضع والمسابقات الي يُطلب فيها من المشاهد تخمين الجواب للالغاز بأمل ربح الجائزة. انه يفضل ايضا ظاهرة مثل التليتكس او السيفاكس المتبع لدى البي بي سي. ولكن بدلا من الحزن على الموقف الجديد، فمن المفيد جدا ان نجد طرقا لجعل هذه الظروف الجديدة قنواتا للانجازات الثقافية بدلا من الخواء الظاهر حاليا. من المهم ان نرى بانه مع ان الشكل قد يتغير (الاخ الاكبر ربما يفشل)، فان الظروف التي يرتبط بواسطتها الافراد الى التلفزيون ومن ثم ما يطرحهُ المذيعون قد تغير بشكل لا يقبل الجدل. وظيفة التلفزيون المذهلة، وكما في جميع الفنون، قد اصبحت وظيفة هامشية: ما هو جوهري الان هو العمل النشط والمكثف للفرد الذي سمي ذات مرة بالمتلقي. في جميع هذه، يشعر المشاهد بالقوة وهي في الواقع ضرورية، المؤلف من جهته و كما فُهم تقليديا هو اما هبط الى مرتبة من يضع الحدود التي يعمل بضمنها الاخرون، او يصبح ببساطة غير ملائم، غير معروف، عاجز عن العمل، اما النص فقد تميّز بكل من الانية المفرطة وبعدم الاستقرار، حيث تمت فبركته من جانب المشاهد، ان لم يكن في محتواه ففي تتابعه- انت سوف لن تقرأ "وسط مارس" (وهي رواية متلفزة من قبل البي بي سي للكاتب جورج اليوت كتبها عام 1871) بالذهاب من صفحة 118 الى صفحة 316 الى 401 الى 501، وانما انت ربما تستطيع قراءة التليتلكس الخاص بالبي بي سي (سيفاكس) بتلك الطريقة وبشكل جيد ومبرر.

مزايا الحداثة الرقمية

نصوص الحداثة الرقمية لا تستمر الاّ لوقت قصير جدا. على خلاف (Fawlty Towers) مثلاً، حيث لا يمكن اعادة برامج تلفزيون الواقع بشكلها الاصلي، طالما لا يمكن اعادة انتاج الاتصال التلفوني باستوديو البرنامج، وبدون امكانية الاتصال التلفوني فان العملية ستصبح مختلفة وبشكل اقل جاذبية. نص السيفاكس يموت بعد ساعات قليلة. لو وضع الدارسون تاريخاً اشاريا لصفحة الانترنيت فذلك بسبب ان الصفحات ستختفي بسرعة او يعاد تشكيلها جذريا. الرسائل النصية والبريد الالكتروني يصعب جدا الاحتفاظ بها في شكلها الاصلي، طباعة الايميل صحيح تجعلهُ اكثر استقرارا، كالرسالة، لكن فقط عبر تحطيم سمته الالكترونية الجوهرية. التلفون الاذاعي، والعاب الكومبيوتر حياتهم قصيرة، انها تُهمل وتتقادم بسرعة. الثقافة المرتكزة على هذه الاشياء لا تمتلك اي ذاكرة. الحداثة الرقمية السريعة الزوال والتي لا يمكن اعادة انتاجها هي ايضا فاقدة للذاكرة: انها افعال ثقافية تتصل في اللحظة الحاضرة دون اي احساس بالماضي او المستقبل.

ان المنتجات الثقافية للحداثة الرقمية هي ايضا تافهة وبشكل استثنائي. محتوى افلام الحداثة الرقمية تميل لتكون فقط الافعال التي تبتدأ وتنتهي معها الحياة. هذه البدائية الصبيانية للبرامج النصية تقف في تناقض صارخ مع تعقيدية التأثيرات التقنية للسينما المعاصرة. معظم الرسائل النصية والالكترونية هي مبتذلة مقارنة بما اعتاد الناس كتابتهُ في الرسائل العادية في مختلف المستويات التعليمية. السذاجة والضحالة تسيطران دائما. عصر الحداثة الرقمية، على الاقل حتى الان، هو صحراء ثقافية. وعلى الرغم من اننا قد نعتاد على الظروف الجديدة وتكييفها لتجسّد تعبيرات فنية هادفة، الا اننا اليوم نواجه عاصفة من الفعاليات الانسانية التي لا تنتج اي شيء من القيم الثقافية الدائمة او الممكن اعادة انتاجها- لا شيء من اي عمل يمكن للانسان النظر اليه مرة اخرى وبإعجاب في الخمسين او المئتين سنة القادمة.

ان جذور الحداثة الرقمية يمكن تعقبها رجوعا الى السنوات التي هيمنت عليها ما بعد الحداثة. موسيقى الرقص وصناعة الاباحية مثلا، وكذلك منتجات اواخر السبعينات والثمانينات، تميل لتكون سريعة الزوال وفارغة من اي مضمون او مستوى للاهمية. انها سعت لإبراز اهمية فعالية التلقي: موسيقى الرقص هي ما يُرقص لها، الاباحية هي ليس لكي تُقرأ او تشاهد وانما لكي تُستعمل بطريقة تخلق وهم المشاركة في الحداثة الرقمية. في الموسيقى، تحل الحداثة الرقمية محل البوم الذي سيطر على الفن كنصوص متماسكة ومنسجمة وذلك عبر تحميل ومزج وموائمة المواد الفنية التي اختارها المستمع على الاي بود، هذه تمثلت سلفا بما قام به هواة الموسيقي بخلق مجموعات من اشرطة الفيديو الموسيقية قبل جيل مضى. لكن التحول قد حدث، بحيث ان ما كان هواية للمعجبين اصبح هو المسيطر والطريقة المحددة لاستهلاك الموسيقى، مما جعل فكرة البوم كعمل فني منسجم، وكبناء متكامل للمعاني، شيئا ميتاً.

ولدرجة ما، ليست الحداثة الرقمية اكثر من تحول مُحفز تكنلوجيا نحو المركز الثقافي لشيء ما دائم الوجود (نفس الشيء بالنسبة الى الرومانسية الساخرة metafiction وُجدت دائما لكنها لم تلق ذات الاهتمام الذي نالته ما بعد الحداثة). التلفزيون استعمل دائما مشاركة المتفرجين تماما كما فعل المسرح وفنون الاداء الاخرى من قبل لكنها كخيار وليس كضرورة، اما برامج تلفزيون الحداثة الرقمية فقد خلقت المشاركة ضمن تلك البرامج. كانت هناك منذ وقت طويل اشكال ثقافية نشطة جدا تتراوح من الكارنفال حتى الايماء الصامت. لكن لا شيء منها انطوى على نص مادي مكتوب، ولذا هي بقيت في هامش الثقافة التي اهتمت بمثل هذه النصوص - بينما نصوص الحداثة الرقمية، مع كل ما فيها من شذوذ، تقف اليوم كشكل مركزي برجماتي مهيمن على الانتاج الثقافي، رغم ان الثقافة، في حدودها الهامشية، لا تزال تعرف انواعاً اخرى. هذه الاشكال الاخرى لم توصف بـالـ "سلبية"مقابل فعالية الحداثة الرقمية. القراءة، الاستماع، المشاهدة دائما لها انماطها من الفعالية، لكن هناك نزوعا حيوانيا لأفعال صانع الحداثة الرقمية، وضرورة لأفعاله فيما يتعلق بتركيب النص، بالاضافة الى الهيمنة التي غيرت ميزان القوة الثقافي. انها تشكل السيادة السوسيوتاريخية الثقافية للقرن الواحد والعشرين. فعالية الحداثة الرقمية لها خصوصيتها: انها الكترونية ونصية وسريعة الزوال.

الابحار اللامتناهي في التغيير

في ما بعد الحداثة، المرأ قرأ وشاهد واستمع كما كان من قبل. في الحداثة الرقمية المرأ يتصل تلفونيا، يضغط على الماوس، يتصفح على شاشة الكومبيوتر، يختار، يتحرك، يعمل تحميل. هنا توجد فجوة جيل، تفصل بين الناس الذين ولدوا قبل الثمانينات وما بعدها. الذين ولدوا لاحقا ربما يرون اقرانهم احراراً، منسجمين، مبدعين، معبرين، ديناميكيين، مفعمين بالحيوية، مستقلين، صوتهم متميز مسموع وعالي: ما بعد الحداثة وكل شيء من قبل هي بالمقابل تبدو نخبوية، كسولة، مونولوغ بعيد وكابح ودائم التكرار. الذين ولدوا قبل 1980 ربما يرون ليس الناس وانما النصوص المعاصرة العنيفة بشكل متتالي، غير لائقة، غير واقعية، ساذجة، بليدة، تقليدية، استهلاكية، بلا معنى وبلا فكر. بالنسبة لهم ما جاء قبل الحداثة الرقمية بدا كأنه العصر الذهبي للذكاء والابداع والتمرد والاصالة. وبالتالي فان اسم الحداثة الرقمية ايضا يشير ضمنا للتوتر بين تعقيدية وسائل التكنلوجيا وتفاهة وجهل المحتوى المنقول عبرها- لحظة ثقافية تلخصها حماقة مستعمل الموبايل فون"انا في الباص".

واذا كانت ما بعد الحداثة استدعت الواقع للتساؤل، فان الحداثة الرقمية تعرّف الواقع ضمنيا كما نحن الآن نتفاعل مع نصوصها، وهكذا فان الحداثة الرقمية تقترح انها مهما تفعل او تصنع فهو الواقع، وان نص الحداثة الرقمية ربما يزخرف ما هو واقعي ظاهريا بشكل غير معقد: الدراما الوثائقية مع كاميراتها اليدوية (التي تعرض الافراد في موضع تقدير، تعطي المشاهد وهم المشاركة).

والى جانب هذه الرؤية الجديدة للواقع، من الواضح ان الاطار الفكري السائد قد تغير. وبينما منتجات ما بعد الحداثة الثفافية اُعطيت نفس المكانة التاريخية للحداثة والرومانسية، فان ميولها الفكرية (النسوية، ما بعد الكولنيالية) تجد نفسها محاصرة في البيئة الفلسفية الجديدة. ان الاكاديمية، خاصة في بريطانيا، هي اليوم تغرق في افتراضات وممارسات اقتصاد السوق لدرجة لم يكن مقنعاً ابدا للاكاديميين ابلاغ طلابهم انهم يألفون عالم ما بعد الحداثة حيث التعدد الايديولوجي، وامكانية الاستماع الى الاصوات والرؤى العالمية. كل خطوة يخطونها تتم محاصرتها من اقتصاد السوق، الاكاديميون لا يستطيعون مخالفة التعددية حينما تُحكم حياتهم بذلك التراكم في الممارسة ليصل الى التعصبية الاستهلاكية. العالم ضاق فكريا، ولم يتسع في السنوات العشر الاخيرة. وبينما رأى (Lyotard) خسوف السرديات العظمى، فان الحداثة الرقمية ترى ايديولوجيا اقتصاد السوق المعولم ارتفعت الى مستوى الاحتكاري الساحق والمنظم الوحيد للفعالية الاجتماعية، كما يعترف بذلك كرهاً اي اكاديمي. الحداثة الرقمية كأستهلاكية وطيعة، هي بالطبع مسألة التجوال حول العالم كما اعطيت او بيعت.

ثانيا، بينما فضلت ما بعد الحداثة التهكم، المعرفة و المرح مع تلميحاتها للمعرفة، التاريخ وتضاد الافكار، فان الحالات الفكرية الاساسية للحداثة الرقمية هي الجهل، التعصبية والقلق: بوش، بلير، بن لادن وغيرهم يقفون في جانب، والجماهير الهائلة والضعيفة في الجانب الاخر. الحداثة الرقمية تنتمي لعالم ساد بالمواجهة بين الفئات المتعصبة دينيا في الولايات المتحدة، واسرائيل من جهة، وبين الجماعات الاسلامية المتشددة في كل العالم: الحداثة الرقمية لم تولد في 11 سبتمبر 2001 لكن ما بعد الحداثة دُفنت في بقاياها المحطمة. في هذا السياق تدفع الحداثة الرقمية التكنلوجيا المعقدة للسير نحو بربرية القرون الوسطى- كما في تحميل فيديو قطع الرؤوس على الانترنيت، او استعمال الموبايل لتصوير التعذيب في السجون. وراء كل هذا، سيكون مصير كل شخص اخر هو ان يعاني من الرعب في ان يقع وسط دائرة اطلاق النار. لكن هذا القلق المصيري يتسع الى ما وراء الجيبوليتك الى كل مظاهر الحياة المعاصرة، من الخوف العام من الانهيار الاجتماعي وضياع الهوية، الى القلق العميق حول الغذاء والصحة، من التشاؤم المزمن حول التحطيم الناتج عن التغيرات المناخية الى تأثير نقص المهارات الفردية والضحالة المتجسدة بانتاج برامج تلفزيون حول كيف تنظف بيتك، او تربي طفلك او تبقى بلا ديون. هذه اللافكرية والعبثية التكنلوجية هي في الظاهر معاصرة: الحداثة الرقمية تتصل باستمرار مع الطرف الاخر من الكوكب، مع ذلك هي تحتاج لتبلغ الناس بضرورة تناول الخضراوات لفوائدها الصحية، وهي الحقيقة المعروفة منذ العصر البرونزي. هو او هي يستطيع ان يوجه عمل برامج التلفزيون الوطني، لكن لا يعرف كيف يصنع له او لها شيء لتأكله. لمختلف الاسباب هؤلاء الناس غير قادرين على عدم الايمان بالسرديات العظمى التي اعتبرها لوتيرد تمثل ما بعد الحداثة.ان التأثير الثقافي للفيس بوك سيؤدي الى تآكل القدرة الاجتماعية في خلق قصص جديدة ومنسجمة، مقللاً من امكانية الاستجابة للتفكك سواء في الحركات الاجتماعية او الصناعية وحتى الاكاديمية.

هذا العالم من الحداثة الرقمية مخيف جدا ولا يمكن السيطرة عليه، هو حتما يغذي الرغبة بالعودة الى ممارسة العاب الاطفال التي تميز ايضا العالم الثقافي للحداثة الرقمية. هنا، تحل الحالة الشعورية الاساسية وبشكل جذري محل الوعي المفرط بالتهكم، انها غياب الوعي- او حين تتعرض للابتلاع من فعاليتك. ومع هذه الأعراض الذهنية الخفيفة للحداثة و الاعجاب المفرط بما بعد الحداثة، تأخذ الحداثة الرقمية العالم بعيدا، بخلق نوع من الاغتراب الصامت المجرد من الوزن والمكان. انت تضغط الازرار، تشارك، تسيطر كليا، تقرر. انت النص، لا احد غيرك، لا مؤلف، لا مكان آخر او زمان. انت حر.

.......................................................

The Death of Postmodernism And Beyond, Alan Kirby, Philosophy Now.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 9/كانون الثاني/2014 - 7/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م