من كييف إلى فولغوغراد

عريب الرنتاوي

 

ودعت روسيا العام 2013 بهجوم إرهابي مزدوج استهدف الكرملين قبل أن يستهدف فولغوغراد، الهجوم يحمل بصمات "الجهاديين" ورعاتهم الإقليميين، هؤلاء على خصومة دائمة مع روسيا، بعد الحرب الباردة وقبلها وأثناءها، وزاد طين هذه الخصومة بلّة، تطورات الأزمة السورية، وما ترتب عليها من اتساع فجوة الخلاف والتأزم في العلاقة بين الجانبين.

قبل الاعتداء الإرهابي على فولغوغراد، كانت "كييف" ساحة أخرى لتصفيات الحسابات بين الكرملين والغرب، على خلفية التجاذب بين المعسكرين حول أوكرانيا... كسب الكرملين الرهان وأمكن له استعادة "الحليف الاستراتيجي" بكلفة باهظة، جاوزت الخمسة عشر مليار دولار.

نصر الكرملين في أوكرانيا، لا يعني كسب الحرب عليها... هي جولة ستتبعها جولات أخرى، فثمة أطراف دولية لا ترغب في عودة "الدب الروسي" ولا في اقترابه من المياه الدافئة، وهي استمرأت نظام القطب الواحد، ولا تريد العودة للتعددية القطبية، ومرة أخرى كانت سوريا معملا ًكبيراً لـ "تظهير" الأدوار والمعسكرات والنظام الدولي الآخذ في التشكل.

أما معركة روسيا مع "السلفية الجهادية" ورعاتها فليست جديدة، وقيصر روسيا نفسه خبر بعض فصولها في تسعينيات القرن الفائت في غروزني، يوم نجح الجهاديون في السيطرة على الحركة الاستقلالية الشيشانية، وحرفوا مجرى النضال الاستقلالي للشيشان عن مجراه الطبيعي، وفقدوا دعم العالم واحتضان المجتمع الدولي، تماماً مثلما يحصل اليوم مع المعارضة السورية المختطفة، وثورة الشعب السوري المغدورة... الأرجح أن هذه المعركة ستعود بقوة في السنوات القادمة، وهذا ما يفسر القول المتكرر للقادة الروس بأنهم اتخذوا من سوريا، خط دفاع أول عن الجمهوريات الإسلامية المحيطة بهم أو المنضوية على تحت لواء سيادتهم، وهذه المعركة التي ستنتصر فيها روسيا في نهاية المطاف، بيد أنها ستكون معركة مكلفة وصعبة وطويلة من دون شك.

القاسم المشترك بين "الجبهتين" المفتوحتين على روسيا، أو اللتين فتحتهما روسيا على نفسها كما يقول خصومها (لا فرق)، هو الضيق بالدور الدولي الصاعد لروسيا، خصوصاً في الشرق الأوسط... هذا الدور يزعج لأسباب مختلفة، أطرافاً عديدة، وهي تتعامل معه بوسائل وأدوات مختلفة بالضرورة، لكن ما يهمنا في هذا المقام، تلك الأطراف المتورطة بقضايا المنطقة وصراعاتها المذهبية والإيديولوجية المتفجرة.

يخطئ من يعتقد أن تفجيراً إرهابياً أو أكثر سوف يثني دولة مثل روسيا وبحجمها عن المواقف والسياسات التي تتبعها في الإقليم، وتحديداً في سوريا... العكس بالضبط، هو ما يمكن أن يحدث، وأغلب الظن أن روسيا ستصعد من وتيرة مناهضتها لهذه الأطراف والقوى الإقليمية التي تمد لها يد العون، تمويلاً وتسليحاً وتحريضاً وتسهيلات... الأرجح أن معركة روسيا في سوريا، باتت تندمج أكثر فأكثر بحسابات أمنها القومي والإقليمي.

أما الغرب، غير المرتاح أبداً لصعود القوة الروسية، فلا يمكن له أن يكون شريكاً أو متواطئاً أو حتى صامتاً حيال الإرهاب الذي يضرب روسيا، فالغرب الذي تابع باهتمام الهجمات على فولغوغراد، يتحسب لليوم الذي ستبدأ فيه تفجيرات مماثلة، بهز أركان أمن مدنه وسلامة مواطنيه، وهذه نقطة تحسب، يزداد وزنها باطراد في حسابات الأمن الأوروبي والأمريكي، وتلقي بظلالها الكثيفة على مواقف هذه الدول ومواقعها من الأزمة السورية.

وفي ظني أن أحداث "فولغوغراد" ستعمل في الاتجاه المعاكس لما أراده مخططوها ومنفذوها، وأنها ستزيد حالة التقارب بين روسيا والغرب في سوريا وحولها، حتى وإن شذت عن ذلك بعض العواصم الغربية (باريس مثلاً) المنشغلة بمبيعات السلاح والفرقاطات والمفاعلات النووية، وتمجيد أكثر الأنظمة شمولية وتطرفاً... وقد لا يمضي وقت طويل، قبل أن ينقلب السحر على الساحر، ونرى خسائر روسيا في "فولغوغراد" قد تحوّلت إلى مكاسب إضافية لموسكو على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، وربما على ضفتي الخليج العربي.

* مركز القدس للدراسات السياسية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 7/كانون الثاني/2014 - 5/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م