زيادة القدرات العلمية في طريق التنمية الشاملة

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: يقرّ الغرب والعالم بريادة المسلمين في العلوم بشتى صنوفها، من انسانية وعلوم طبيعية. وقد بزغ فجر العلم بشكل ملموس على صعيد الواقع في عهد الإمام جعفر الصادق، عليه السلام، الذي تخرّج من مدرسته كبار العلماء في الكيمياء والفلك والطب، الى جانب العلوم الدينية مثل الفقه والتفسير والحديث. وتقدر المصادر التاريخية عدد التلاميذ في هذه المدرسة الكائنة في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وآله، بأربعة آلاف طالب علم من مختلف البلاد، كانوا يفدون اليه وينهلون من العلوم التفصيلية الدقيقة، بما يعجز عن بيانها والتوصل اليها انسان آخر، ثم يعودون الى ديارهم، ويتحدث كل واحد منهم بالقول: "حدثني جعفر بن محمد...".

هذا التراث العلمي الغني تعرض للتشويه تارةً، والتغييب تارةً اخرى، عندما عمد حكام بني العباس وتحديداً المأمون العباسي الى فتح باب الترجمة على المكتبة الاسلامية، فلم يستفد المسلمون من علوم جديدة، بقدر ما تعرضوا لريح صفراء متمثلة بالافكار الفلسفية والمادية والجدلية، وكان الهدف واضحاً؛ وهو ايجاد توازن في الساحة العلمية يخدم البلاط الحاكم، بحيث لا تكون العلوم الاسلامية المستقاة من الوهج السماوي، والذي لا تشوبه شائبة، هي العامل الأساس في البناء الفكري والمعرفي والثقافي للأمة، لذا كثر التشكيك والتجديف منذ ذلك الحين، وما تزال آثاره ماثلة أمامنا اليوم.

صحيح إن التحدي الثقافي والفكري، كبير وعنيد أمامنا، نظراً لعوامل تفوق عديدة للآخر، مثل تقنية وسائل الاتصال ونشر المعلومة السريعة، إلا ان مواجهة هذا التحدي ليس بالأمر المستحيل أو كما يتصوره البعض ويضخمه، بأنه صعب وعسير. ربما تكون الحالة النفسية المأزومة وتراكمات الهزائم والاسقاطات في الساحة الاسلامية بشكل عام، لها تأثير كبير في نشر هكذا تصور في الاذهان. يكفي أن نراجع نصوصنا الدينية ومصادرنا التاريخية وتراثنا الغني بالعلوم والمعارف، لنجد أننا أمام مواد خام تكفي، ليس فقط لتنمية انسانية، إنما لنهضة حضارية شاملة. وهذا ما يدعونا اليه سماحة المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- عندما يطالب بزيادة القدرات العلمية للإجابة على كل التساؤلات والشبهات التي تطرح في مجال الفكر والعقيدة.

هذه الدعوة تفتح لنا آفاقاً واسعة في سوح العلم والمعرفة، ففي ساحة التحدي الثقافي والفكري التي تعجّ اليوم بتحركات سريعة وتكتيكات متعددة، يبدو الهدف واضحاً في التأثير على طريقة تفكير الناس وعقائدهم وسلوكهم وحتى مزاجهم وطريقة معيشتهم. وهذا بحاجة الى مساندة وقاعدة علمية تشكل المنهج البديل والصحيح الذي ينسجم مع هوية وثقافة المجتمع. وهذا ليس كل شيء، لأن العلم والمعرفة لم يكونا يوماً وسيلتين للدفاع أمام التحديات الثقافية وحسب. إنما هما بالأساس يمثلان السبيل نحو التقدم والنمو في الاصعدة كافة.

فاذا زادت قدراتنا العلمية في الدراسة والبحث والاستنتاج، في مجالات مثل الفقه والحديث والتاريخ والاجتماع، فان النتيجة تكون كبيرة في خلق الأجواء المساعدة للتطور والنمو الشامل. مثال ذلك؛ الفقه والحديث والتفسير، وهي من العلوم الدينية، فعندما يتعمق فيها الطالب ويخرج منها بنتائج جيدة، فانه لن يفيده في مواجهة التشكيك والتجديف بأحكام الدين وتعاليمه، إنما سيفكر في الحثّ على طلب العلوم الدينية في أوساط المجتمع، من الصغير الى الكبير، والرجل والمرأة، ليكون أفراد المجتمع متبصرين بأحكام دينهم، ويعرفون ما يصنعون عن علم ودليل وبرهان، لا عن تقليد من الآباء ومجرد طقوس دينية فارغة المحتوى.

كذلك الحال في سائر العلوم الانسانية وحتى الطبيعية، فان الاسلام يؤكد على تنمية وزيادة القدرات العلمية في التاريخ والاقتصاد والاجتماع والقانون، وايضاً في مجالات الطب والهندسة والاحياء، خدمةً لحاضر ومستقبل الانسان.

لكن يبقى السؤال؛ ما هي الآلية التي تتحقق هكذا تقدم علمي؟

من قراءتنا لتجارب الشعوب والأمم المتقدمة علمياً، نجد مسارين أساس تم تركيزهما في ثقافة وروح تلك الشعوب: الدراسة والمطالعة، فالاول يسهل الوصول الى الحقائق العلمية من خلال البحث والتنقيب والتجربة. هذا المسار يشهد حراكاً ونشاطاً في بلادنا من خلال المراكز الاكاديمية من جامعات ومعاهد، لاسيما وأن القضية ترتبط بحياة الانسان ومعيشته، حيث تعد الغالبية العظمى من المجتمع، أن من يحمل شهادة جامعية في الطب او الهندسة او القانون او الاقتصاد وغيرها، يكون مؤهلاً اكثر من غيره بتوفير سبل العيش الكريم والرغيد.

أما المسار الثاني، فيوسع معارف ومدارك الانسان، لكن تبقى المشكلة في التراجع الملحوظ في أمر المطالعة والقراءة في بلادنا، أمام الرغبة الجامحة نحو المعلومة السريعة والمريحة بالاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة والمجانية متمثلة اليوم بالهاتف النقال الذي يمكن حامله بالاتصال بالعالم أينما و وقتما شاء. وقد كتب وبحث الكثير في هذه المعضلة الثقافية التي ظهرت مع ظهور أزمات وفتن وحروب طاحنة في المنطقة، بينما كانت المنطقة العربية والاسلامية تعج بالمؤلفات والافكار التي تطبع و تنشر تباعاً وتجد قراءها بسرعة. وقد أشروا على عوامل وأسباب عديدة لها خلفيات سياسية واجتماعية واقتصادية وحتى نفسية، لسنا بصدد الخوض فيها.

ومن أجل مواكبة عصر السرعة والاختزال، فان المطالعة والقراءة والاستزادة العلمية والثقافية، ينبغي أن تأخذ مساراً جديداً وعصرياً، كأن تنقل الافكار من الكتب الثقيلة، وتتحول الى جرعات خفيفة وموزعة على دفعات لسهولة القراءة والتلقي والتفاعل من المخاطب، وليكون للكتاب موطئ قدم في الموبايل وعلى صفحات التواصل الاجتماعي وفي مواقع النت، بل حتى في البرامج التلفزيونية. وفي الوقت ذاته يجب أن نتذكر أن المطالعة والقراءة، تبقى الوسيلة الحضارية والمنهل الدائم للتنمية البشرية، لا يمكن الاستغناء عنه، فوجود وسائل الاتصال السريعة واختزال الافكار والمعلومة السريعة، لن يلغي بأي حال من الاحوال وجود المكتبات والمصادر العلمية والثقافية، لأنها تبقى بمنزلة المصدر الأم لأي فكرة أو معلومة، لايطالها التحريف او الانتقاص او العطب. الامر الذي يستوجب المزيد من الاهتمام من لدن مؤسساتنا العلمية والثقافية بالعمل على الاستفادة من تقنية المعلومة السريعة، وايضاً الإبقاء على ثقافة المطالعة والقراءة حيّة في النفوس.

ولعل من نافلة القول في الخاتمة الاستشهاد بما أكد عليه سماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- طيلة حياته على مسألة المطالعة والكتابة في آن واحد، فكان يحثّ بل ويشيد المكتبات أينما حل و ارتحل، ولعل من أبرز هذه المشاريع مكتبة الرسول الأعظم في الكويت، كما كان يحثّ الشباب وطلبة العلم على التأليف والكتابة في أي موضوع، وطرح أي فكرة يرونها تعالج وتناقش قضاياهم اليومية والمستقبلية. وهكذا كان في طليعة المؤلفين في مجالات وجوانب شتى، وهو ما جعله – قدس سره- يسهم بشكل كبير في أمر التنمية البشرية الشاملة التي شقّ لها طريقاً في مسيرة التنمية الحضارية.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 4/كانون الثاني/2014 - 2/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م