لماذا نتحيز في أفكارنا؟

اعداد: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: منذ تلاعبت اقدامي بالكرة كنت اسمع كلمة التحيز، حين كنا نطلب من احدنا ان يكون حكما بين الفريقين.. وكنا نسمعها كثيرا عندما تلعب المنتخبات العراقية في بطولات الخليج العربي او اسيا.. فكثيرا ما كان الحكم يتحيز ضد لاعبي المنتخب العراقي في تلك البطولات.. هل يعد كلامي هذا تحيزا ضد الحكام وبقية الفرق؟.

لم نكن وقتها نعرف عبد الوهاب المسيري، الذي أسس (فقه التحيز) ولم نكن حتى نعرف ما تعنيه الكلمة الا بمقدار الأهداف التي تسجل ضدنا او تضيع منا بقرار من حكم المباراة..

هل تتشابه ساحة الكرة واقدام اللاعبين مع ساحة المعرفة واقلام الكتاب والباحثين في موضوعة التحيز؟.

تتشابه كثيرا، انطلاقا من هذا الدافع النفسي اللاشعوري الذي يحرك البشر، وهو اقدم وأول الدوافع في النفس الإنسانية..

مع ارتقاء معارفنا وتطور قراءاتنا اصبح للتحيز معاني ودلالات جديدة، لم نكن نعرفها رغم وجودها المصاحب لنا وحتى قبل ذلك..

فهو في اللغة يعني: (الانضمام، والامتلاك، والمكان). وهو اكثر ما استعمل في كتب الحدود، وموسوعات المفاهيم الفنية والعلمية العربية القديمة، على المكان.

من هنا، يكون المتحيز هو كل موجود شغَل حيزاً وكان في مكان ما، وضده ما ليس بمتحيز.

وهو في المعرفة، ميدانه الاوسع، يعني: (محاولة احتكار أو استحواذ موضوعات في نطاق علم ما أو مجال معرفي ما دون اعتبار لنطاقات أو مجالات أخرى من العلم والمعرفة). ومن هنا نشأ مفهوم (المركزية الغربية) امام الحضارات والثقافات الأخرى التي صنفت على (الهامش). وقد قدم الناقد والمفكر العراقي عبد الله إبراهيم تعريفا لهذا المفهوم، حيث وضح بأنه (نمط من التفكير المترفع الذي ينغلق على الذات ،ويحصر نفسه في منهج معين، ينحبس فيه ولا يقارب الأشياء إلا عبر رؤيته ومقولاته. ويوظف كل المعطيات من أجل تأكيد صحة مقولاته).

او كما يذهب الى ذلك علي حرب في كتابه (تواطؤ الأضداد) بقوله: (نوع من التعلق بتصور مزدوج عن الذات والآخر، تصور يقوم على التمايز والتراتب والتعالي يتشكل عبر الزمن بناء على ترادف متواصل ومتماثل لمرويات تلوح فيها بوضوح صورة انتقيت بدقة لمواجهة ضغوط كثيرة).

في المعاجم العربية المتخصصة الحديثة، لا نعثر في كثير منها على مصطلح التحيز، باستثناء (معجم العلوم الاجتماعية) الذي حصره في علم النفس، وحدده تحديدات أغلبها سلبية، فجاء مرادفاً للذاتية وللخطأ في التقدير، وللتسرع في إصدار أحكام القيمة.

ورغم عدم استخدام الثقافة العربية هذا المصطلح للدلالة على معناه، فإنها بالمقابل استخدمت جملة من المصطلحات التي ترتبط به وتدور في فلكه، مثل (الهوية – الخصوصية - المحلية) وغيرها. بل إن حديث هذه الثقافة عن (التقريب – التأصيل – التبيئة – التكييف) وغيرها من المفاهيم المماثلة التي شاع استخدامها في الفكر العربي، هو إقرار بالتحيز والخصوصية؛ إذ لا معنى للحديث عن التأصيل دون أن يسبقه إقرار بتحيز المعرفة التي يسعى الباحث إلى تأصيلها.

التحيز في موسوعة ويكيبيديا هو (الانحياز المعرفي) الذي هو نمط من الانحراف في اتخاذ الأحكام يحدث في حالات معينة، ويؤدي إلى تشويه للإدراك الحسي أو حكم غير دقيق أو تفسير غير منطقي، أو ما يسمى عموماً بأللا عقلانية.

وتنشأ الانحيازات من عمليات مختلفة يكون صعب جداً تمييزها في بعض الأحيان. وهذه العلميات تشمل معالجة المعلومات بشكل سريع (أي حدس مهني)، الضوضاء الذهنية والقدرة المحدودة للدماغ على معالجة المعلومات، الحوافز العاطفية والأخلاقية أو التأثير الاجتماعي.

وهناك عدة أنواع من الانحيازات المعرفية يمكن تصنيفها بناء على عدد من المحددات، على سبيل المثال، هناك انحيازات خاصة بالمجموعات كما أن هناك انحيازات على مستوى الأفراد.

بعض الانحيازات تؤثر على صناعة القرار حيث لابد فيها من أخذ جاذبية الخيارات المختلفة بالاعتبار مثل (مغالطة التكلفة الغارقة). البعض الآخر مثل (الارتباطات الوهمية) تؤثر على حكمنا على كيفية تأثير حدث على آخر. صنف مهم من الانحيازات يؤثر على الذاكرة، مثل الانحياز للاتساق (حيث يتم دوماً تذكر ماضي شخص معين كشيء يجب أن يكون شبيه بحاضره).

بعض الانحيازات تعكس حافز ذاتي، على سبيل المثال، الرغبة لعكس صورة إيجابية عن الذات التي تؤدي إلى الانحياز الأناني وكذلك تجنب التنافر المعرفي. انحيازات أخرى بسبب طريقة محددة يتلقى بها الدماغ، ويُكون بها الذاكرة ويصنع بها الأحكام. وهذا التمييز يسمى أحياناً بـ (الإدراك الساخن) وضده (الإدراك البارد) حيث أنه في الإدراك الساخن يكون التفكير مصحوباً بالإثارة والعاطفة، عكس الإدراك البارد.

ضمن الانحيازات (الباردة) نجد أن بعضها يكون بسبب تجاهل معلومات ذات علاقة (مثل تجاهل الاحتمالية، أو أن بعضها يشمل قرارات أو أحكام متأثرة بمعلومات ليست ذات علاقة (مثل تأثير التأطير حيث أن مسألة ما يكون حولها ردود مختلفة بسبب طريقة وصفها وعرضها، أو إعطاء وزن كبير لميزة غير مهمة ولكنها ملحوظة (مثل وهم التركيز).

بعض الانحيازات تقوم على وجود الدافع وبالخصوص دافع الحصول على موقف ايجابي من الذات، وهذه الحقيقة تفسر مسألة أن العديد من الانحيازات مُوجهة للذات أو تخدم الذات (مثل وهم التبصر اللامتسق والانحياز لخدمة الذات وتحيز الإسقاط). وهناك أيضاً انحيازات في كيفية تقييم الأشخاص لمن هم في مجموعتهم، ولمن هم خارج مجموعتهم (مثل الانحياز للجماعة الداخلية أو انحياز تجانس الجماعة الخارجية حيث يتم تقييم الأشخاص داخل المجموعة كمجموعة مختلفة و"أفضل" من الأشخاص خارج المجموعة والذين يبدون "متجانسين" ومختلفين عن المجموعة الداخلية، حتى لو تم اختيار المجموعة عشوائياً.

في تناوله للتحيز يعرفه المسيري بقوله: (ثمة إحساس غامر لدى الكثير من العلماء العرب بأن المناهج التي يتم استخدامها في الوقت الحاضر في العلوم العربية الإنسانية ليست محايدة تماماً، بل ويرون أنها تعبر عن مجموعة من القيم التي تحدد مجال الرؤية ومسار البحث، وتقرر مسبقاً كثيراً من النتائج. وهذا ما نطلق عليه اصطلاح «التحيز»، أي وجود مجموعة من القيم الكامنة المستترة في النماذج المعرفية والوسائل والمناهج البحثية التي توجه الباحث دون أن يشعر بها، وإن شعر بها وجدها لصيقة بالمنهج لدرجة يصعب معه التخلص منها).

بل إنه يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يؤكد أن كل شيء في حياة الإنسان من حركات وأفعال وسلوكيات وكلمات وحوادث وإشارات وغيرها، له دلالة، وأن كل ما هو إنساني (له بعد ثقافي وحضاري وتعبير عن نموذج).

إن التحيز جزء لا يتجزأ من الطبيعة الإنسانية ما دام أن كل ما هو إنساني تعبير عن نموذج. من هنا، فإن أهم سمة للتحيز هي (الحتمية)؛ أي أن التحيز في الخطاب الإنساني حتمي، لأنه (مرتبط ببنية العقل الإنساني ذاتها، لأنه ليس عقلاً سلبيًّا أو متلقياً يسجل تفاصيل الواقع كالآلة الصماء دون اختيار أو إبداع، وإنما هو عقل فعال لا يدرك الواقع مباشرة، وإنما يدركه من خلال نموذج معرفي محمل بالأشواق والأوهام والأهواء والأساطير والمصالح).

هناك عدة أنواع للتحيز كما حددها المسيري في (فقهه):

التحيز الكُلِّي

وهو (أن يتحيز الباحث لكل جوانب النموذج المعرفي الذي يتبناه بكل تشابكاته وتضميناته (بحلوه ومره وخيره وشره).

التحيز الجزئي

وهو التحيز إلى عنصر واحد من عناصر النموذج.

التحيز التَّلْفِيقِيّ

هو التحيز لعدد من الأفكار والرؤى والمناهج التي تنتمي إلى أنماط معرفية متضادة أو متناقضة، وسياقات تاريخية واجتماعية متعارضة، لكن الباحث (يتبناها كلها دون تمييز أو تفريق، بسبب غياب الرؤية المعرفية العميقة).

التحيز الواعي والتحيز الكامِن

التحيز الواعي هو أن يختار المرء (عقيدة بعينها (أيديولوجية) ثم ينظر للعالم من خلالها، ويقوم بعمليات دعاية وتعبئة في إطارها).

أما التحيز الكامن غير الواعي، (فهو أن يستبطن الإنسان منظومة معرفية بكل أولوياتها وأطروحاتها، وينظر للعالم من خلالها دون أن يكون واعياً بذلك).

التحيز داخل التحيز

وهو أن يتحيز الباحث إلى نموذج معرفي معين، ولكنه داخل هذا النموذج، يركز على جوانب معينة منه ويتبناها، ويهمل الجوانب الأخرى، مع أنها جميعها تنتمي إلى النموذج المعرفي نفسه.

التحيز إلى الحقِّ والتحيز إلى الباطل

قد يتحيز الإنسان إلى ما يعتقد أنه الحق، وهذا هو الالتزام. والإنسان في هذه الحالة، رغم تحيزه إلى ما يراه أنه الحق، وتحمسه له، ودفاعه عنه، يظل «على استعداد لأن يخضع ذاته وأحكامه للمنظومة القيمية وللحق الذي يقع خارجه. كما أنه على استعداد لأن يختبر ثمرة بحثه، فهو لا يعتقد أن أحكامه (المتحيزة) هي الحكم النهائي المطلق، إذ إن أحكامه أولاً وأخيراً اجتهاد، وهو يدرك ذلك تماماً».

أما التحيز إلى الباطل، فهو أن يتحيز الإنسان إلى ذاته، ويجعل نفسه (المرجعية الوحيدة المقبولة، ولذا تسقط فكرة الحق المتجاوِز ولا يمكن محاكمة الإنسان من أي منظور).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 2/كانون الثاني/2014 - 29/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م