وللمتصوفة اليد الطولى على اللغات الشرقية وللعربية أفضالها

د. نضير الخزرجي

 

كلما استمعت الى لغة جديدة تتملَّكني الرغبة في اقتناص مخارج كلمات المتحدث لعلِّي أجد شبهاً بين كلمة أجنبية وأخرى عربية، لإيماني الكامل بالتأثير الكبير الذي تركته اللغة العربية على آداب الشعوب في مشارق الغرب ومغاربها، وبخاصة في عصر الممالك العربية والإسلامية التي بسطت جناحها على جانبي الكرة الأرضية، ويتحقق استراق السمع الطوعي هذا في المحافل العامة وبخاصة في القطارات والباصات، حيث يستغرق ذهابي من البيت الى مكان العمل والعودة ساعتين من الزمان بتمامها وكمالها، وأكون في رحلة الذهاب قد ركبت قطارين ومثلهما في العودة باضافة حافلة الركاب من محطة هارو شمال غرب لندن باتجاه المنزل بخاصة في فصل الخريف والشتاء حيث يحل الليل مبكراً ولا أجد الرغبة في قطع الطريق راجلاً بين محطة القطار والمنزل عبر الحديقة العامة الكبيرة الذي يستغرق مني نحو ثلث ساعة لدواعٍ أمنية وتجنب المفاجئات غير المحمودة، على أني في الصباح أقطعها مشياً على الأقدام متنفساً الهواء النقي.

في صيف العام 2013م تهيأت الظروف للاستماع الى أكثر من خمسين فقرة من الكلمات والخطابات والقصائد على مدى يومين في المؤتمر الدولي الذي عقدته مؤسسة ادارة منهاج الحسين في لاهور بباكستان (15-16/6/2013م) للإحتفاء بدائرة المعارف الحسينية، قضيت فيه ساعات مستمعاً ومنجذباً الى كلمات الضيوف الذين قدموا من نحو عشر دول لإحياء المهرجان العالمي بمناسبة ذكرى ولادة الإمام الحسين(ع) في شهر شعبان، وكنت الوحيد الذي تحدث باللغة العربية إلى جانب زميلي الفاضل الشيخ فاضل الخطيب المياحي، فيما تحدث الآخرون بلغات مختلفة ما بين الأردوية والپشتوية والپنجابية والهندوكية والسرائيكية والانكليزية والفارسية والتركية وغيرها، ووجدتها فرصة مناسبة أمارس فيها هوايتي في اقتناص الكلمات العربية من اللغات الأجنبية فهذا ما يزيدني على فهم المراد من الحديث ولو بالقدر القليل، ولاسيما وأن بعض اللغات مليئة بالكلمات والمصطلحات العربية مثل اللغة الفارسية والأردوية، وأقل في الپنجابية والپشتوية، وكلما صعد خطيب سألت زميلي الشيخ حسن رضا باقر -وهو من الخطباء الباكستانيين الشباب ممن يجيد العربية- عن جنسيته ولغته ربما ساعدني ذلك على تفهم مخارج حروفه.

ليست هذه نشوة في تعلم لغة أجنبية لأنني حتى اليوم لم استطع أجادة لغة البلد الذي أعيش فيه ولا لغة البلد الذي هاجرت اليه أولاً من ذي قبل، ولكنه الشوق لمعرفة مدى تأثير اللغة العربية على اللغات الأخرى لما في لغة أبناء إسماعيل من حيوية لاسيما وإنها لغة الإسلام الذي دخل البلدان ولغة الصلاة التي بها يؤدي المسلمون عباداتهم ولغة القرآن الذي هو دستور حياتهم.

وكان المتحدثون القادمون من مقاطعة پيشاور الباكستانية يخطبون في الناس باللغة الپشتوية، وكنت أصغي الى الكلام ليس فقط رغبة في اشباع غريزتي وهوايتي وإنما اتابع الترجمة السريعة مع الجالس بجنبي حتى أوثق الكلام في تقرير خبري للناطقين باللغة العربية سيظهر لاحقاً في وسائل الإعلام المختلفة أعرّفهم بما يجري في لاهور في مؤتمر دولي هو الأول من نوعه عن النهضة الحسينية على ضوء دائرة المعارف الحسينية، كما سيقيد التقرير في الموسوعة نفسها، واستطعت خلال هذين اليومين أن أخرج بحصيلة أولية بأن اللغة الپشتوية هي الأقل تأثراً باللغة العربية من اللغة الأردوية وكلاهما يتحدث بهما أبناء باكستان وما جاورهما من البلدان إلى جانب اللغة الپنجابية والسرائيكية والهندوكية وغيرها.

وهذه الحصيلة اكتشفتها معرفيا خلال قراءتي الأدبية الموضوعية لكتاب "المدخل الى الشعر الپشتوي" لمؤلفه الأديب الدكتور محمد صادق الكرباسي، الصادر حديثا نهاية العام 2013م عن المركز الحسيني للدراسات في لندن في 540 صفحة من القطع الوزيري، وهو أحد أجزاء دائرة المعارف الحسينية التي طبع منها حتى اليوم 86 جزءاً من مجموع 800 مجلد.

اللغة والسياسة

لا يختلف اثنان أن اللغة العربية ومثلها العبرية والفارسية، من اللغات القديمة ذات الجذور العريقة في عمق التاريخ، فليس من الصعب التحقق من هذه البديهية، لكن اللغة الپشتوية من اللغات التي اختلف فقهاء اللغة في جذورها وعمقها التاريخي بخاصة وأنها كانت من اللغات المنطوقة غير المقعّدة كتابيا حتى نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الهجري عندما أمر السلطان محمود الغزنوي الذي حكم أفغانستان وما جاورها عام 387هـ حتى وفاته عام 421هـ بوضع قواعد هذه اللغة وبأبجدية عربية حتى يسهل للأمراء الأتراك ورجال السلطة من التعاطي معها بسهولة دون الحاجة الى المترجمين، لكن البعض يرى أن اللغة الپشتوية كانت تحرر بحروف خاصة بها إلا أن الغزنوي عمل على تشذيبها، وإنها كانت تكتب بالحروف الپالية والخروشية والسنسكريتية، فالأولى لغة قديمة كان يتحدث بها في شمال الهند وهي خليط من لغة التاميل وتليكو ويتحدث بها في بلدان مثل كامبوديا وبنغلاديش والهند وبورما والنيبال وسريلانكا وتايلاند وفيتنام، وهي منسوبة الى مدينة پالي الهندية، والثانية نشأت في اللغة الآرامية وهي من اللغات القديمة، والثالثة من اللغات الهندية القديمة التي يتحدث بها في الهند.

وبشكل عام اختلف فقهاء اللغة والمحققون في نشأة اللغة الپشتوية وجذورها، بل وقد دخلت الأساطير في بيان ذلك بما لا يُعقل، فاللغة ممارسة وتنشأ المفردات من التعامل اليومي مع مفردات الحياة والبيئة والإنسان والحيوان، وليس للأحلام دخل في نشأة اللغة كما تذهب بعض الروايات التي يتداولها الپشتون في نشأة لغتهم، وبشكل عام فإن الپشتوية من أخوات اللغة الإيرانية وهي عديلة للغة الفارسية، وهي من فصيلة اللغة الهندية الإيرانية مثلها مثل اللغة الكردية وهي بمجموعها من أسرة اللغات الهندية الأوروبية.

ويرى المحقق الكرباسي أن اللغة الپشتوية هي لغة أهل الجبل، تأثرت بالمدينة في وقت متأخر وبخاصة مع انتشار الإسلام في أفغانستان وما جاورها وانتشار اللغة العربية والفارسية في هذه المناطق، ولكن تأثرهم باللغة الفارسية كان هو الأكثر وبخاصة في التعامل اليومي لاسيما وأن الإسلام دخل هذه البلدان باتجاه الهند من بلاد فارس، ويظهر التأثر العربي على اللغة في الآداب نثراً وشعراً، بحكم الموالفة بين التقاليد الشعبية والتعاليم الإسلامية ولا سيما وأن خطبة صلاة الجمعة والعيدين في مثل هذه المناطق كانت العربية دخيلة فيها، وقد تصل العربية في أدب بعض الشعراء الى النصف كما في شعر پیر محمد كاكر من أعلام الربع الأول من القرن الثالث عشر الهجري والأديب حبيب الله كاكر من شعراء القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجري، وقد ذهب أدباء الپشتو الى تسمية المفردات الحديثة الداخلة على اللغة الپشتوية بالمفغّنات على وزن المعرّبات في الكلمات الدخيلة على اللغة العربية والتي جرى التعامل بها.

ولأن التأثر بالأدب الفارسي والعربي كان واضحاً على اللغة الپشتوية ولو بنسبة أقل، فإن الكرباسي وجد في هندسة الحروف الپشتوية تناغماً مع اللغتين الفارسية والعربية، وهي أقرب الى الأولى من الثانية، ولكنها زادت على اللغتين وغيرها أن عُدَّت أبجديتها أربعين حرفاً، ولكن بعض حروفها هي أشبه بالحركات كما في اللغة العربية، ولذلك يرى البعض أن الحروف الهجائية الأصلية في ألفباء الپشتوية هي ثلاثون حرفاً بحذف المكررات، وأكثر المتحدثين بها يعيشون في أفغانستان وباكستان، وبالنسبة للأولى فإن المتحدثين بها في أفغانستان هم نحو 35 بالمائة من السكان فيما تأتي اللغة الفارسية الدَّرِيَّة بالمرتبة الأولى يتكلم بها نحو 48 بالمائة من السكان وتعتبران اللغة الرسمية في أفغانستان، ومن بعدها اللغة الأزبكية بنحو 6 بالمائة من السكان وباقي اللغات واللهجات فتشكل 11 بالمائة متوزعة على 25 لغة ولهجة كالتركمانية والپلوشية والپنجابية والقرقيزية وغيرها، على أن 90 بالمائة من الشعب الأفغاني يتحدث اللغة الدِّرِية الفارسية.

وقد حاول الپشتون على مر العصور فرض لغتهم على باقي الأقوام والملل في المنطقة وبخاصة في أفغانستان مستفيدين من السلطة السياسية التي كانت بأيديهم، وفي عهد الملك محمد ظاهر شاه (1933- 1973م) والمتوفى عام 2007م سعى الپشتون المتنفذون في الحكم عام 1963م إلى جعل لغتهم هي الأولى والرسمية في البلاد، لكن تعاظم المتحدثين باللغة الفارسية الدَّرِية منع من تحقق الأمنية وصار الأمر الى جعل اللغتين رسميتين، وبذلك كسب الپشتون الجولة اللغوية، وتوجه الأدباء والشعراء واللغويون الى تشذيبها وتنظيم قواعدها بما يسهل على الجيل الجديد تعلمها بصورة أفضل.

ويرى المحقق الكرباسي أن الرغبة لدى الپشتون في فرض أدبهم تحت وهج السلطة السياسية أفادهم كثيراً في تقعيد لغة الپشتو، وأن النظرة الأولى الى الأمر تكاد تكون سلبية لكنها في المحصلة أفادت اللغة الپشتوية وحصّنتها من الضياع، بيد أن الأدب الپشتوي بشكل عام والنظم بشكل خاص تأثر سلبياً بالتقلبات والإنقلابات السياسية والعسكرية التي حلّت بالمنطقة وبخاصة في أفغانستان مدّاً وجزراً.

عصور متباينة

شخّص الباحثون في الأدب الپشتوي كما مال اليهم المحقق الكرباسي، مروره بعصرين بدءاً من القرن الثاني الهجري وهو القرن الذي شهد ظهور البدايات الأولى للأدب الپشتوي كما تذهب اليه الأدبيات الپشتوية، ويطلقون عليه العصر الاسلامي وينتهي بنهاية القرن العاشر، ومن بعده يبدأ العصر الحديث وهو في مرحلتين.

وعمد المؤلف في هذا الحقل الى بيان أسماء الأدباء والشعراء المشهورين مع ذكر نماذج من أشعارهم، بدءاً من الشاعر الأمير كور پولاد خرنگ السوري المتوفى عام 154هـ، وانتهاءً بالشاعرة گلنازه المتوفاة في القرن العاشر الهجري، وقد احصى في هذه الفترة 58 شاعراً وشاعرة.

ومن الظواهر البارزة في هذا العصر والذي بعده تقدم شعر التصوف، مما يعطي الإنطباع العام بأن المتصوفة كان لهم الأثر الكبير والبارز في توثيق الأدب الپشتوي وبخاصة المنظوم من حيث أن الشعر وسيلتهم في الحديث مع المحبوب، فعدد غير قليل من شعراء هذه الفترة هم من العلماء الشعراء ومن المتصوفة الشعراء، ولا يخفى أنّ المتصوفة يترجمون تصوفهم فعلاً بطقوس وعبادات وقولاً بقصائد ومقطوعات، ولذلك فإنّ لهم اليد الطولى في حفظ التراث الأدبي الپشتوي، لرواج شعر التصوف وحفظه في أوساط مثل أفغانستان والهند وباكستان في تلك المراحل الزمنية، وجاءت فترة تقعيد اللغة الپشتوية وكتابتها فيما بعد لترسخ هذا المفهوم.

ومن شعر المتصوفة ترجمة البيتين من قصيدة الشاعر قطب الدين بختيار كاكي المتوفى سنة 633هـ:

شغشغ المأتم قلبي ... فانظري إليَّ يا سيدة النسا

يشتعل من هجرك حبّي ... ويضجُّ في النفس الأسى

ومن الواضح أن المتصوفة يستخدمون مفردات تدل على حب المعشوق المجسّد في رجل أو امرأة، ولكنه حب تتحرك سحبه في سماء المحبوب الأزلي وتتداخل فيه.

ومن شعر المتصوف ترجمة البيتين من قصيدة الشاعر متى عباس السربني المتوفى سنة 622هـ:

في الوديان وعلى قُلَل شوامخ الجبال ... وعند السحور والأفجُر وجوف الليالي

مِن شجا العود وصفير الطيور فوق الدَّوالي ... من صوت عُود المعزِّين باعتدال

وهكذا يستمر المؤلف في الإشارة الى نماذج من الأشعار باللغة الپشتوية مع ترجمتها بأسلوب أدبي مقفى ومسجع محبب الى الأذن العربية، ويستنتج من خلال استقراء شعراء العصر الاسلامي: (إن الشعر الپشتوي إنشاءً وإنشاداً جاء من قبل المتصوفين وأهل العرفان ما يفهم منه أن نشاط الفرق الصوفية كان كبيراً وكان استخدام الشعر في أغراضهم العقائدية مؤثراً)، كما يستنج أن المتصوفة: (كانوا يتخذون من الغزل وسيلة لأهدافهم حيث يرون بأنّ الله سبحانه وتعالى هو أولى بالحب من المخلوق الفاني والذي جماله اعتباري).

أما المرحلة الأولى من العصر الحديث الذي ضمّ ثلاثة قرون هجرية: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، فإن الأديب الكرباسي ولكثرتهم سرد أسماءهم حسب تاريخ وفياتهم، فبدأ بالقرن الحادي عشر حيث أحصى 62 شاعراً وشاعرة بدءاً بالشاعر "پيراكو" المتوفى بعد العام 1000هـ حتى الشاعر "هدا دميا" المتوفى في القرن الحادي عشر، فيما أحصى من شعراء القرن الثاني عشر 185 شاعراً وشاعرة بدءاً بالشاعر "أودل" المتوفى بعد عام 1100هـ وانتهاءً بالشاعر "نور محمد" المتوفى أواخر القرن الثاني عشر، فيما أحصى في القرن الثالث عشر الهجري 209 شعراء وشاعرات بدءاً بالشاعر رزق الله نورخان الخليلي المتوفى بعد عام 1200هـ وانتهاءً بالشاعر فتح الله المتوفى قبل القرن 14هـ.

وينبثق من العصر الحديث المرحلة الثانية وهو مختص بالأدب المعاصر لشعراء القرنين الرابع عشر والخامس عشر الهجريين، وأحصى الاديب الكرباسي في القرن الرابع عشر الهجري 709 من الشعراء والشاعرات بدءاً من الشاعر القندهاري دوست محمد اكرم خان ختك المتوفى عام 1300هـ وانتهاءً بالشاعر غلام حسين اللغماني المتوفى أواخر القرن، فيما أحصى الثلث الأول من القرن الخامس عشر الهجري الذي نعيشه 176 شاعراً وشاعرة بدءاً من الشاعر الباكستاني راحت الله بن فريح الله النوشهري المولود سنة 1302هـ وانتهاءً بالشاعر إحسان الله بن غلام محمد پاچا هير المولود سنة 1386هـ والمقيم في لندن.

ويُلاحظ من مقارنة عدد الشعراء في العصرين الإسلامي والحديث ارتفاع أعدادهم بخاصة مع الألفية الهجرية الثانية ووضوح معالمهم من حيث سنة الولادة والمكان وأشعارهم، ويعود الفضل في ذلك إلى تقعيد اللغة الپشتوية واعتداد المتحدثين بها بلغتهم وتوثيق أدبهم وأدبائهم.

ومن أجل بيان الخارطة النظمية باللغة الپشتوية أورد الأديب الكرباسي نماذج لخمسة عشر شاعراً من شعراء القرن الخامس عشر الهجري، يظهر منها تأثرهم بالآداب الاخرى من خلال المعاشرة أو الدراسة، من قبيل الشاعر الأفغاني الأديب قيام الدين خادم الولسوالي المتوفى في كابول سنة 1979م الذي كان يجيد اللغات الپشتوية والفارسية والعربية، ويعود له الفضل من خلال مؤلفاته الكثيرة في رفد اللغة الپشتوية، وكذلك الشاعر الأفغاني الأديب عبد الحي حبيبي المتوفى عام 1984م الذي اطلع على الأدب الفارسي والهندي وتعلم اللغات العربية والفارسية والأردوية والإنكليزية والسنسكريتية، وكذلك الشاعر الأفغاني گل پاچا ألفت اللغماني المتوفى سنة 1977م الذي أجاد اللغة العربية وعلومها والعلوم الإسلامية، وكذلك الشاعر الأفغاني الأديب صدّيق الله رشتين المتوفى سنة 1998م وهو ممّن تعلم اللغتين العربية والفارسية وظهرت آثارهما في شعره ونثره، وكذلك الشاعر عبد الرحمان پژواك المتوفى سنة 1995م الذي درس العلوم العربية والإسلامية، وكذلك الشاعر الأفغاني الأديب عبد الشكور رشاد المتوفى عام 2004م الذي كان على معرفة باللغات العربية والفارسية والأردوية واليابانية والروسية، وكذلك الشاعر الأفغاني الأديب عبد الله البختاني المولود سنة 1345هـ الذي تعلم القراءة والكتابة والأدب العربي والفارسي الى جانب لغته الپشتوية.

وبصورة عامة فإن معظم الشعراء من طبقة طلبة العلوم الدينية والمتصوفة والفقهاء لابد وأن يكونوا قد مروا على اللغة العربية وآدابها، وأن تكون للعربية نصيب في أدبهم النثري والنظمي.

أوزان متأرجحة

يكاد يكون كتاب "المدخل الى الشعر الپشتوي" من الكتب النادرة التي تبحث في تاريخ اللغة الپشتوية وآدابها بقلم عربي مبين، وهذا ما أتاح للأديب الكرباسي الوقوف على الصفحات المطوية من هذه اللغة والكشف عما لم يفصح عنه أصحاب الأدب نفسه، وهذا ما يراه القارئ وهو يتابع فصول هذا الكتاب القيّم. على سبيل المثال وفي باب "كلمات غابت عن القاموس" يكتشف الكرباسي وجود: (مفردات استخدمت في الأدب الپشتوي وبالأخص الشعر القديم ولكنها غابت عن دواوين الشعر الحديث بل غابت عن القاموس الپشتوي وبعضٌ منها تحولت إلى أخرى أو خُفِّفت).

أمّا في باب (العروض الپشتوية) فإنَّ الكرباسي ينظم للشعر الپشتوي بحوره العروضية  وأوزان شعره رغم صعوبة حروف اللغة الپشتوية وتفوقها من حيث العدد على العربية وحسب تعبير المؤلف: (وأما بالنسبة الى الپشتو فلا أخفي ذلك حيث واجهنا ذات الأمر من الصعوبة حتى في نقاشنا مع عدد من أساتذة هذه اللغة لغويين كانوا أو من ذوي الإختصاص بالمقاطع الصوتية، وقد ذكر كلهم أن الشعر الپشتوي ليس فيه بحور ولا أوزان)، وبشكل عام فان الشعر الپشتوي القديم كان يعتمد البحور الخليلية ولكن الحديث يعتمد المقاطع الصوتية كمعيار، ولكنهما في المحصلة: (لدى التطبيق يتفقان على التفاعيل المتعارفة في العروض العربية سواء بالأصالة أو بدخول الزحاف والعلة، إلا أنَّ المنهج الحديث يُدخل الكثير من الزحافات ضمن منهاجها لتكون أصولاً كجزء من العروض، وقد أدخلوا جزءاً من الشعر الحر ضمن هذه المعايير في عروضهم).

ولمّا لم يجد الأديب الكرباسي من الپشتون مَن تعمق في العروض ليحدد في النهاية البحور كما هو الحال في العربية والفارسية، فإنه تولى المهمة بنفسه فأخضع الشعر الپشتوي الى العروض العربية حسب تفاعيلها فكانت البحور على النحو التالي: بحر الطويل الأول، بحر الطويل الثاني، بحر الطويل الثالث، بحر الطويل الرابع، بحر الطويل الخامس، بحر القصير الأول، بحر القصير الثاني.

وبالمحصلة النهائية فإنَّ الپشتون أخذوا عروض الشعر وأوزانه ومقاييسه من العرب والفرس وقد نظموا على تلك البحور التي نظمها الخليل، وخلاصة الأمر كما يرى الأديب الكرباسي: (إنَّ غاية ما استخدمه القدامى من التفاعيل في نظم أشعارهم هي كالتالي: مستفعلن، معفولاتُ، مفاعيلن، فاعلاتن، فعولن، وفاعلن، وهذا ما جرى النظم عليه الى يومنا هذا)، وهناك مستحدثات من الأوزان الشعرية يستخدمها الشعراء الجُدد وهي: (هايكو، بُدلة، ناري، لند، مستزاد، نيمكي، بگتي، اشلوك، وچندي) حيث شرحها المؤلف بما فيه الكفاية مع التمثيل، كما شرح القافية لدى الپشتون التي لا تختلف عما هي عليه في الشعر العربي والفارسي ونعني بها الحرف التي ينتهي به الشطر، كما لا تختلف الأغراض الشعرية عما لدى الآداب الأخرى من وصف ومدح ورثاء وهجاء ورجز وحماسة وغيرها.

وحيث كانت الموسوعة الحسينية حاضرة في "مؤتمر الإمام الحسين الدولي الأول على ضوء دائرة المعارف الحسينية" المنعقد في لاهور صيف 2013م، كانت الأديبة الباكستانية سيدة شاهدة شاه، حاضرة في المؤتمر بكلمة تحدثت فيها عن الإمام الحسين(ع) في الأدب الپشتوي، وحضورها هذا انتقل هذه المرة الى كتاب "المدخل الى الشعر الپشتوي" حيث سطّر يراعها فيه مقدمة باللغة الپشتوية تحدثت عن موقع الإمام الحسين(ع) في ضمير الناطقين باللغة الپشتوية من سنة وشيعة، مثنية على جهد الأديب الكرباسي في كشف المستور من الأدب الپشتوي الظاهر منه والمغمور، ومما جاء في المقدمة: (يعتبر الإمام الحسين نموذج الصبر والظفر وصيانة الإسلام ونيل الحرية، وبالنسبة للشعب الپشتوني من سنّة وشيعة فإن الإمام الحسين(ع) هو المحبوب والقدوة والإمام في إمور الدين والدنيا، فإمّة الپشتون تقبّلت الإسلام كدين الحرية والسلام، وهم على استعداد للفداء من أجل محبة الإمام الحسين(ع) وبقاء الإسلام)، وعبّرت الأديبة شاهدة شاه عن إيمانها الكامل: (لو أن المسلمين اجتمعوا تحت راية الإمام الحسين الداعية الى الحب والأمن والسلام والإصلاح، فلا نجد للحروب والصراعات بين طوائف المسلمين موضعاً لأن نهضة الإمام الحسين(ع) هي نهضة من أجل صلاح المسلمين والبشرية جمعاء وسلامها وحريتها)، ووجدت من خلال تعرّفها على الموسوعة الحسينية عن قرب: (إن الموسوعة الحسينية تكاد تكون أكبر الموسوعات في تاريخ البشرية التي أُلَّفت في شخصية واحدة هي الإمام الحسين(ع)، ومن ميزات المؤلف الشيخ محمد صادق الكرباسي أنه يكتب في كل الإتجاهات ويحقق عن كل اللغات والآداب ذات العلاقة بالنهضة الحسينية، منها لغتنا الپشتوية، ولذا أقدم نيابة عن المتحدثين باللغة الپشتوية كبير شكري وتقديري للشيخ الكرباسي الذي اختار لغتنا وشملها برعايته التحقيقية والتوثيقية في موسوعته الكبيرة والعظيمة).

في الواقع يدخل هذا الكتاب في سلسلة الكتب التي استحدثها المحقق الكرباسي لفهم اللغات غير العربية وآدابها إيذانا بدخول باب الأدب المنظوم الخاص بالنهضة الحسينية، كما وجدنا ذلك في "المدخل الى الشعر الأردوي"، و"المدخل الى الشعر الفارسي" في جزئين، وقبلهما "المدخل الى الشعر العربي" في جزئين، وكما تصلح الكتب السابقة كمناهج دراسية في الكليات والجامعات التي تتناول مثل هذه الآداب، فان هذا الكتاب كأخواته من الأهمية لابد أن يجد مكانه في الجامعات التي تتولى دراسة اللغات الشرقية وآدابها والپشتوية منها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 26/كانون الأول/2013 - 22/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م