الانتخابات.. أزمة الوعي ومحنة الديمقراطية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: في بلد مثل العراق، تمثل الانتخابات المحلية والبرلمانية، خشبة خلاص لمن يشعر بالغرق بأمواج عاتية، اقتصادياً وأمنياً وسياسياً وحتى اجتماعياً. وإلا في حالة الهدوء والاستقرار، لن ينظر أحد الى خشبة صغيرة طافية، فهو ربما يحلم بأن يعلو متن سفينة جميلة وكبيرة، ويتبختر بوجوده عند الحاجز الحديدي الابيض، او يجلس في احد اركانها.. فالمسألة تبدو مصداقاً لمقولة "تشرشل" عن الديمقراطية أنها "أفضل الخيارات السيئة".

فأين يكون دور الاختيار، وقبلها المعرفة بالمرشح، من حيث شخصيته وخلفيته الثقافية والتاريخية، ثم برامجه وخططه العملية للتغيير وإيجاد الأفضل؟. فاذا كان الانسان العراقي مشغولٌ بايجاد لقمة العيش بالعمل من الصباح الباكر وحتى المساء، وهو يحمل هموم الكهرباء والماء، وسائر الخدمات المنقوصة، ثم تأتي أزمات مفاجئة مثل الفيضانات، كيف يتسنّى له أن يتابع المرشح ويجلس معه ليحاوره ويسأله، كما هو حاصل في بعض الدول الناجحة ديمقراطياً، حيث هنالك تجمعات تعقد في اتحادات ونقابات تحضرها شرائح مختلفة من المجتمع، تكون فرصة للقاء بين المرشح، الذي يمثل عادةً حزباً معيناً، وبين الناخبين، من عامة الجماهير؟.

هذا الواقع يؤكد لنا أن ثمة خلل وخطأ فادح وقع فيه العراقيون عندما تجاهلوا القاعدة المعروفة: "التطور السياسي يقوم على التطور الاجتماعي والنضوج الثقافي". فلا ديمقراطية ناجحة، من دون مجتمع ناجح في علاقاته بين أفراده وشرائحه، وفي منظومته الثقافية. لأن ببساطة؛ النائب المنتخب إنما يعبر عن صورة الشارع الذي يصعد به تحت "قبة البرلمان"، ويحظيه لقب "النائب". وهي معادلة السبب والنتيجة.

وفي وقت نحن بحاجة الى وجود السبب الذي يوجد النجاح لهذه الانتخابات، نلاحظ الدعوات الملحّة الى حد التوسل..! من جهات عديدة، منها سياسية وأخرى مناصرة ومؤيدة للعملية السياسية، توجه الى الجماهير بضرورة المشاركة في الانتخابات، فيما صدرت "تحذيرات" من البعض من مغبة عدم المشاركة. وهذا لا يبين عمق التذمّر والخيبة التي يراها السياسيون في عيون الناس، فقط، إنما يدل على حقيقة أكثر خطورة في الواقع العراقي، وهي تجاهل هؤلاء الساسة، وربما فيهم من المثقفين والناضجين سياسياً وفكرياً، حق الجماهير في المزيد من التوعية والتثقيف.

علماً إن الفترة الماضية شهدت تحركات جماهيرية أثبتت تأثيرها على الواقع السياسي، بالاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة، مثل صفحات التواصل الاجتماعي، وكان الضغط لتخلّي النواب عن رواتبهم التقاعدية الضخمة، أحد أبرز الامثلة في مجال النضوج السياسي.

وبالامكان الاستضاءة برؤى سماحة الإمام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- الذي سلّط الضوء على أهمية التثقيف والتوعية باللفظ الدقيق، وهذا ليس اليوم أو البارحة، إنما قبل الاطاحة بنظام صدام، وحين كان الجميع يتطلعون من بعيد الى الحكم في بغداد. ففي كتابه "الفهم السياسي"، يدعونا سماحته الى التثقيف والتوعية على أنها "من أهم مقومات الفهم السياسي، وهي إحدى الأسس الرئيسية لنهضة الأمة الإسلامية، وترسيخ مبادئها وتطبيقها على أرض الواقع بشكل تام وصحيح". ويعطينا سماحته بعداً حضارياً عندما يستشهد بالآية الكريمة، حيث يقول: "يصف البارئ تعالى، النبي ابراهيم بالأمة، "إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً"، وذلك لرشده ووعيه وثقافته الدينية والدنيوية العالية – يقول سماحته- ثم يستشهد بآية كريمة أخرى: "وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ". "فالرشد بمعنى امتلاكه للحجة التي توصله إلى المعرفة".

نعم؛ هنالك متابعة من خلال وسائل الاعلام والاتصال المتطورة والسريعة، وهنالك تداول لأخبار المرشحين وأخبار الكيانات، لكنها لا تعدو أن تكون مجموعة اثارات ومعلومات منتقاة، محشوة ببعض الفضائح المثيرة، مثل الاختلاس عند هذا والفشل عند ذاك، وهكذا.. بينما تخفى خلف الستار معلومات وحقائق مهولة عن القائمين بالشأن السياسي. إذ من المعروف أن الاعلام الذي يعد صلة الوصل بين الجماهير والساسة، هو بالاساس، موجه وموظف من قبل جهات سياسية تدفع لها، فالمعلومة التي تكشف ثغرات الساسة ومستواهم الحقيقي واسقاطاتهم الأمنية والسياسية وحتى الاجتماعية، بالقطع لن تظهر على مواقع النت ولا على الفضائيات، إلا ما ندر، أو إن حصل، فان الهدف هو التشهير من هذا لذاك، وليس لإنارة العقول والاذهان وتمكين المواطن العراقي من الاختيار الحسن والأفضل ساعة الانتخاب.

وهنا يدلي سماحة الامام الراحل بدلوه في الحديث عن النضج (الفهم) السياسي، حيث يحذر من مغبة المحاولات الرامية لتشويه الحقائق وتضليل الرأي العام، ويذكر لنا قصة معبرة من أيام زمان عندما كان في كربلاء المقدسة، في وقت كان الناس يتجمعون بالقرب من داره للتحقق من هلال شهر ذي الحجة، لتحديد يوم عيد الأضحى المبارك. يقول: "..ذات مرة ونحن في كربلاء المقدسة، جلسنا ننتظر استقصاء أخبار رؤية هلال العيد، والناس أيضاً قد حضروا مجلسنا بجمع غفير لمعرفة الخبر والعمل بالوظيفة الشرعية، وعند ذلك رجع البعض من الذين قد خرجوا للاستهلال وقالوا: إنهم لم يروا الهلال.

وفجأة رأينا مجموعة أخرى يزعمون أنهم من المستهلين أخذوا يشيعون بأنهم قد رأوا الهلال فعلاً.

فأصبح الناس في حيرة، فهناك أخبار تقول برؤية الهلال، لكن لم يستطع أحد معرفة الرائي الحقيقي والشاهد عليه، وأخذ بعض الناس يضغطون علينا كي نفتي بثبوت الهلال، ويقولون: إن الشياع تحقق في هذه المسألة، غير أننا لم نكن قد حصلنا على مستند صحيح كي نفتي على ضوئه بثبوت الهلال، فأخذنا بالبحث لمعرفة المصدر لهذه الإشاعة التي حصل لها رواج بين الناس، وبعد التحقيق ومتابعة الموضوع، اتضح لنا أن حكّام بغداد أرادوا أن يكون العيد في اليوم التالي فأوعزوا إلى محافظ كربلاء بوضع خطة لإيهام الناس بتحقق رؤية الهلال، فأخذ عملاء السلطة وجلاوزتها يدّعون بالباطل رؤية الهلال، ويشيعون ذلك بين الناس".

من هنا؛ يمكن القول: أن الديمقراطية تعيش في العراق اختباراً عسيراً ومعقداً للغاية، ففي الوقت الذي لا يشك أحد بضرورة المشاركة في الانتخابات القادمة المزمع إجراؤها في نيسان القادم، لاختيار أعضاء جدد لمجلس النواب، وأنها هي ستحدد ملامح الحكومة الجديدة، والحاملة هموم الجماهير وطموحاتهم بالتغيير وتحسين الاوضاع، هناك أكثر من شك في قدرة هؤلاء المرشحين على الإيفاء بالتزاماتهم ووعودهم، حيث أثبتوا العجز الكبير من قبل.

الامر الذي يجعل الكرة في ملعب المرشحين والساسة، ومن خلفهم كتلهم وجماعاتهم لأن يتحملوا كامل المسؤولية الاخلاقية والتاريخية أمام الشعب العراقي، بأن يعملوا ما بوسعهم، ليس فقط للترويج لانفسهم ولصناديق الاقتراع، فهذا ما يعرفه الناخب، حتى الصغير في السن. إنما لمساعدة الناس على سلوك سبيل المعرفة والتوعية والتثقيف، وليس التسطيح والتعويم وحجب الحقائق والانتقائية. وهذا سهل يسير على من يملكون عشرات الملايين ويبذرونها هنا وهناك، بالامكان أن تكون لاقامة ندوات جماهيرية للشباب والمهنيين والأخصائيين وسائر فئات المجتمع، وإجراء عملية حوار مفتوح، يتم تبادل المعلومة والفكرة والرؤية بين الجانبين، بكل حرية وشفافية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 10/كانون الأول/2013 - 6/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م