توريث التجارب وإطلاق الكفاءات

 

شبكة النبأ: كثر التفكير والتنظير، ثم الحديث عن الاستفادة من تجارب الآخرين في مجالات عدة بالحياة، وأهمية هذا العامل في تحقيق النجاح للفرد او المجتمع والأمة. حتى أضحت لدينا قاعدة معروفة: "الناجح من يبدأ من حيث انتهى الآخرون"، وهي اختصار لاستثمار تجارب وخبرات الآخرين بشكل ذكي.

وهذه مسألة لا غبار على صحتها فيما يتعلق بعلاقة الانسان الفرد مع الآخرين، مثل الأبوين والأخ الكبير في الأسرة، أو المعلم في المدرسة، أو في محيط العمل وغيرها من ميادين الحياة. بيد أن الباحث عن التجربة والخبرة، يبحث ايضاً عن اليد البيضاء – إن صح التعبير- أو النفس الطيب الذي تخرج منه تلكم التجارب والخبرات.

ولهذا لدينا المؤسسات التعليمية ومراكز التأهيل والتدريب، وورشات العمل المعنية بتحويل مجموعة من الشبّان الطموحين، من طلاب الى أفراد فنيين وتقنيين وايضاً علماء يقومون بأدوار مختلفة في حياة شعوبهم. ربما يكون في مجال البناء والعمران، وربما في مجال الصحة والتعليم، وربما يكون في مجال التثقيف والتوعية. فاذا لم تتوفر الشروط والاجواء المناسبة لهذه المراكز، سيكون هذا الشاب الطموح، شأنه شأن من يجري في ساحة ملعب كرة القدم الواسعة، فهو يتحرك لكسب السبق، لكنه يعود الى حيث بدأ، ولا يجد مكاناً جديداً وموقعاً متقدماً في حياته.

توريث التجربة والخبرة، نجدها بشكل أكثر تركيزاً في ميدان التجارة والمال، والسبب يعود الى التاجر أو صاحب المصنع او مدير الشركة التجارية، فالدافع في ذلك، هو ان تبقى الثروة والتجربة المهنية في أسرته، ولا تتسرب الى العاملين او المنافسين، فنجد الكثير ممن بلغوا مرحلة الشيخوخة، يجلسون على الكراسي الهزازة ويحتسون الشاي والقهوة ويتابعون التلفاز او الانترنت، فيما يتركون أعمالهم ومصالحهم لأولادهم، فهم الذين يديرون المكاتب التجارية أو المصانع الانتاجية، او محلات التسوق.

ونجد هذه الحالة ايضاً في بعض العلماء – وليس جميعهم- ممن يمتهن الطب أو الهندسة او المحاماة أو غيرها من الاختصاصات، فانه مع موقعه الاجتماعي المرموق، يرغب بشدة أن تمتد هذه السمعة الحسنة والمكانة الاجتماعية الى ابنائه بل و ابناء ابنائه. فمن المستبعد أن يرضى طبيب أو مهندس لابنه أن يكون عالقاً في مرحلة الدراسة الابتدائية او الثانوية مع كبر سنه، أو أن يمتهن الاعمال الحرة والبسيطة، كأن يكون نجاراً او سباكاً او سائق تكسي. إنما يرغب -على الأقل- أن يكون في مستوى علمي جيد، وفي هذا المستوى، تكون يد الأب أو حتى الأم وسائر افراد الأسرة، طويلة تصل ذلك الولد الشاب وترفده بالتجارب والخبرات في مراحل الدراسة الاعدادية ثم الدراسة الجامعية.

وإذن؛ نفهم أن في القضية، منفعة واضحة، من جملة منافع اجتماعية، وهي المال والشهرة، بمعنى أننا امام جانب مادي بحت في موضوع توريث التجربة. بينما هنالك جانب معنوي ايضاً، وهذا ما لانلاحظه في ميدان الفكر والثقافة، لاسيما في المؤسسات التي تعني بالتوعية والتثقيف، فهناك العلماء والخطباء والكتاب.

وهنالك جمهورٌ واسع من المتلقين، ثم هنالك شريحة لا بأس بها من الطامحين لأن يكونوا علماء وباحثين ومؤلفين وخطباء مفوهين. هنا تبدو مسألة البحث او الحصول على التجارب والخبرات مختلفة عما سبق، حيث يكون بإمكان الطالب المطالعة ومجالسة الكبار واستقصاء المنجز من اعمالهم ومشاريعهم الناجحة، وملاحظة نقاط الضعف والقوة فيها. لكن كيف يتم هذا، اذا كان يتعلق الأمر بالمنبر الحسيني مثلاً، أو بعالم دين متبحر، او بمؤلف ناجح.

المنجزات هنا؛ ليست ملموسة، مثل مشاريع البناء والتعليم والصحة وغيرها، بل هنالك مشكلة اخرى تواجهنا، وهي عزوف الكثير من رموزنا عن كتابة "المذكرات"، وهو ما نلاحظه بكثافة في أدبيات الغربيين، حيث تحفل المكتبة الثقافية هناك، بمئات المذكرات لعلماء وأدباء وقادة عسكريين وسياسيين، وإن لم يكتبوا هم، هناك من كتب عنهم. وهذه من شأنها ان تساعد في رفد الشباب ببعض الخبرات والتجارب، وإن لم تكن حيّة ونابضة، كما لو عكفت الشخصية الملهمة نفسها بأداء هذه المهمة الحضارية.

واذا يقر الجميع بحساسية المرحلة الراهنة، واستحقاقاتها الثقافية والسياسية، وكونها تشكل للأمة تحدياً تاريخياً وحضارياً، مع وجود مواجهة غير متكافئة في الوسائل والأدوات و الامكانات. نكون أمام استحقاق تربوي – تعليمي في اوساطنا الاسلامية، يرفد الجيل الجديد بالخبرات والتجارب الناجحة ، مما يمكنه من مؤائمتها مع مستجدات العصر وما توصل اليه اساليب عمل مختلفة.

وهناك فرصة أخرى يمكن ان تتوفر للطامحين والنابهين، وهي تدوين المذكرات والملاحظات عن مختلف مراحل العمل في مجالات الخطابة او الكتابة والبحث والادارة وغيرها، والظروف (الزمكانية) التي مرت بها.

والتجربة هنا؛ في التخطيط وكيفية ادارة الازمات ومواجهة التحديات، تبقى الامور الفنية والقتنية، خاضعة للتطوير والتغيير، حتى المناهج، هي الاخرى تعكس الواقع الاجتماعي والسياسي وما يتطلبه من خطاب باسلوب آخر وفكرة جديدة. فخطاب اليوم، يتسم بالشمولية والسعة عبر العالم، تبعاً لوسائل الاتصال وتقنياتها الحديثة، بدلاً من الخطاب لأهل المدينة والبلد، كما هنالك افكار متجددة عن السلم والحرية والتنوع وقبول الآخر ونشر ثقافة البناء الاجتماعي والحضاري في العالم.

من هنا؛ يبدو حرياً على مؤسساتنا الدينية ومراكزنا الثقافية، إنشاء ورش عمل ودورات تدريب، الى جانب المكتبات التي تضم المؤلفات الضخمة والعديدة لكبار العلماء والباحثين، والى جانب مجالس الوعظ والخطابة، وغيرها من فعالياتنا الثقافة والعلمية، لتكون قد ضمنت امتداداً طويلاً مع الاجيال، وأن لا ينقطع خط التأليف والفكر في اسم واحد أو اسمين او حتى عشرة، وكذلك الحال بالنسبة للخطابة، إنما تمتد الى شريحة واسعة من الطامحين الشباب.

ولا ننسى التذكير أن الطامحين لن يستفيدوا من التجارب والخبرات لوحدها على أمل ان تدفعهم الى الامام، إنما المطلوب قطعاً، أن تكون هذه التجارب حافزاً لما يبذله من الجهد والمثابرة والعمل، فتكون العملية مشتركة، بين المتعلّم والعالم – الخبير، فالاثنين يتقدمون بخطوات ثابتة ليلتقوا معاً في نقطة صناعة وإطلاق الكفاءات والمواهب بما تحتاجه الساحة الثقافية والأمة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 3/كانون الأول/2013 - 29/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م