شبكة النبأ: عندما نطالع سيرة البلاد
المتقدمة في الإدارة والتخطيط والعمل في مجالات شتى، نلاحظ نقاط بارزة
تؤشر لعوامل نجاح في تحقيق الأفضل، منها مشاركة الآراء والافكار
والمشاورة، وكلمة؛ إتقان "فن الاستماع". وبالمقابل اذا نريد تصفح
الفاشلين والتخلفين من مسيرة النجاح والتقدم، ما علينا إلا ان نلاحظ
حالة صمّ الآذان، وتجاهل الآراء والافكار مهما كانت صحيحة وسديدة. وهذا
إن كان يصدق على رؤساء البلاد التي نعيش مآسيها وويلاتها بسبب الحروب
الكارثية والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فانها تصدق أيضاً على رؤساء
المشاريع الخاصة بالانسان الفرد، مثل المشاريع التجارية والاجتماعية
وغيرها، أو المتعلقة بالمجتمع والأمة، مثل المشاريع الثقافية والدينية.
توصل علماء النفس الاجتماعي وخبراء التنمية البشرية في الغرب، الى
أن "فن الاستماع"، يُعد أحد مفاتيح النجاح في التأثير على الآخرين، وهو
بدوره يرشح العمل للنجاح. وهم في ذلك، يتناولون الموضوع بعيداً عن
الجانب الأدبي والاخلاقي والقيمي الذي تحفل به أدبياتنا. ومن أروع ما
قاله الكاتب الشهير، ديل كارنيجي في كتابه الشهير: "كيف تكسب الأصدقاء
وتؤثر في الناس"، "إذا أردت أن يُحبك الناس: كن مستمعاً جيداً، وشجع
محدثك على الكلام عن نفسه". وفي مكان آخر يقول بلهجة السخرية الناقدة:
"إذا كنت تريد أن ينفضَّ الناس من حولك، ويسخروا منك عندما توليهم
ظَهرك، فهاكَ الوصفة: لا تُعطِ أحداً فرصة الحديث، تكلّم بغير انقطاع
عن نفسك، وإذا خطرت لك فكرة بينما غيركُ يتحدث، فلا تنتظر حتى يُتم
حديثه، فهو ليس ذكياً مثلك، فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه
السخيف؟! اقتحم عليه الحديث، وقاطِعْهُ في منتصف كلامه.."!
هذا المطلب الحضاري (فن الاستماع)، يصطدم في كثير من الاحيان، بعقبة
نفسية، ربما تكون لدى البعض، عبارة عن عقدة مستعصية، وهي الخشية من
التغيير وفقدان الخصوصية وذوبان الذاتية في المجموع، ومن ثم فقدان
الهوية، لذا يسعى الكثير من يحملون أسماءً بارزة في المجتمع، من قبيل
التاجر والعالم والخطيب الى جانب من يتسنّمون مناصب عليا في الدولة.
ربما نجهم في محيط عملهم وأدائهم جيدين في المدى المنظور، لكن على
المدى غير المنظور وعلى صعيد المستقبل، فان آثار ونتائج الاستبداد
والتقوقع والانفراد بالرأي تظهر على مجمل السياسات العامة والنهج الذي
يسير عليه هكذا انسان. لنأخذ العلماء بشكل عام.. فهم رموز محترمة في
المجتمع، يحسب لها الجميع ألف حساب، ويحفونهم بالتبجيل والتقدير،
ويقتفون أثرهم ويسمعون لهم، لكن افراد هذا المجتمع، لن يكونوا هم
بعينهم بعد ثلاثين سنة – مثلاً- نظراً الى مقياس الجيل في المجتمع، ثم
ان الزمن والساعة لن تتوقف، إنما يكبر الصغار ويشيخ الكبار، وربما يودع
البعض الآخر دار الدنيا. ثم يحمل الجيل الجديد رؤى وتصورات جديدة عن
الحياة، غير التي كانت سائدة في العقود الماضية، لذا نجدهم يقفون من
أفكار الحقبة الماضية، موقف التساؤل والبحث والمناقشة. فاذا تعسّر على
ذلك العالم الاستماع الى الآخرين وهو في مقتبل العمر، فانه سيجد العسر
المضاعفة في هذا الامر، وهو في خريف العمر.
هنا؛ ربما يجرنا الحديث الى المسارات الاخلاقية والسلوكية ، ودورها
في رفد الانسان بالشحنات الكافية التي تدفعه نحو الآخرين ومجالستهم
والاستماع اليهم والاستفادة من آرائهم، أو لإضافة السديد والصحيح منها
الى افكاره و رؤاه، وهو ما يشير عليه إمامنا علي بن ابي طالب، عليه
السلام، "أعقل الناس من جمع العقول الناس الى عقله". بيد أننا نركز على
الجانب النفسي في الموضوع. فالبعض يتصور أن الاستماع، كسلوك اجتماعي،
لا ينسحب على الجميع، إنما على المتلقين والمستمعين والتلاميذ و..
أمثالهم، بينما يشير علماء النفس الاجتماعي على حقيقة هامة، وهي ان
المطلوب؛ التقبّل وليس بالضرورة الموافقة، وهذه هي بعينها، المجاراة أو
المداراة، أو سمّها ما شئت من التعابير الدالة على قبول الناس بمختلف
افكارهم وتوجهاتهم ومستوياتهم.
لذا نجد ستيفن كوفي، أحد علماء النفس الاجتماعي، يتحدث عن في كتابه:
"العادات السبع للأشخاص ذوي التأثير الكبير"، عن "الإصغاء بتقمّص"، ضمن
الحديث عن العادة الخامسة، وهي الإصغاء بنية فهم الآخرين، ويقول
الكاتب: " أغلب الناس لا يستمعون بنيّة الفهم، بل يستمعون بنيّة الردّ،
فهم إما أن يتكلموا، وإلا هم يستعدّون للكلام. فهم (يُسقطون) ما يحدث
معهم على تصرفات الآخرين، ويضعون النظارات الطبية التي يستعملونها لكل
من يشكو مشكلة تتعلّق بالنظر"!
الحقيقة؛ عندما نتصفح مؤلفات عن التنمية البشرية وتحسين الذات،
ومجمل علم النفس الاجتماعي، لعلماء وخبراء من الغرب، ينتابنا الأسى
والأسف، لوجود الكم الهائل من هذه الافكار في تراثنا الديني، حيث
السيرة النبوية الشريفة وسيرة أمير المؤمنين ، عليه السلام، التي تضم
غير قليل من الالتفاتات العلمية الدقيقة في هذا السياق. ليس أقلها
مجالسة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، لأصحابه والاستماع اليهم، بل
والأخذ بمشورتهم، كما حصل في حرب الخندق عندما أخذ بفكرة الخندق، من
الصحابي الجليل، سلمان المحمدي. وقد روى زيد بن ثابت عنه ، صلى الله
عليه وآله، أنه إذا جلسنا إليه، إن أخذنا بحديث في ذكر الآخرة أخذ
معنا، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام
والشراب أخذ معنا..". وهكذا استقطب النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله،
القلوب والمشاعر نحوه، علماً أن من حوله، كانوا عبارة عن خليط من الحضر
والبدو والأعراب، فهم من مزاجات مختلفة، وربما عنيفة، لكنهم وجدوا
أنفسهم في شخص الرسول الأكرم، وهذا ما جعل الكثير منهم يقبل على
الإسلام بكل وجوده.
وعن أمير المؤمنين، عليه السلام، لا بأس بالاشارة الى واقعة مثيرة
جرت له، عليه السلام، تجسد لنا "فن الاستماع" لديه، عليه السلام، وإن
كان المتحدثين طيلة فترة تسنّمه أمر الأمة، على غير السؤال البريء
والمشورة، حتى يتسنّى الاستماع اليهم، بقدر ما كان يتراوح بين سبّ وشتم
من الخوارج، أو نصيحة للإبقاء على معاوية، أو حديث كاذب من طلحة
والزبير.
ينقل المحدث القمي عن عبد العزيز الجلودي في كتاب "الخطب" قال:
خطب أمير المؤمنين، عليه السلام، فقال: "سلوني.. فإني لا اُسأل عن
شيء دون العرش إلا أجبت فيه، لا يقولها بعدي إلا جاهل مدع، أو كذاب
مفتر".
فقام رجل من جانب مجلسه وفي عنقه كتاب كأنه مصحف ـ وهو رجل أدم ضرب،
أي: خفيف اللحم، طوال، جعد الشعر كأنه من مهودة العرب ـ فقال رافعاً
صوته أمام الإمام، عليه السلام: أيها المدعي ما لا يعلم، والمقلد ما لا
يفهم أنا السائل فأجب..!
فوثب إليه أصحاب الإمام وشيعته من كل ناحية، فهمّوا به، فنهرهم،
عليه السلام، وقال لهم: دعوه ولا تعجلوه، فإن الطيش لا يقوم به حجج
الله، ولا به تظهر براهين الله.
ثم التفت، عليه السلام، إلى الرجل وقال لـه: سل بكل لسانك وما في
جوانحك فإني أجيبك. ثم سأله الرجل عن مسائل فأجابه.
فحرك الرجل رأسه وقال:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
وفي المقابل نقرأ عن أحد ممن يسمون أنفسهم "خليفة"، سأله أحد الناس
عن الآية القرآنية: "وفاكهة وأبّا"، فسأل عن معنى "أبا"، فكانت
المفاجأة والطامّة الكبرى، لأنه يجهل المعنى، فاسقط في يديه، وبقي
متحيّراً أمام جمهور المسلمين، وهو "الخليفة" المفترض من بعد رسول
الله، فرفع رأسه وقال له:
ألم ننهكم عن سؤال ما تجهلونه..؟!
ثم أمر بالسوط وأن يجلد الرجل مائة جلدة..! تقول الرواية التاريخية،
أن الجلاوزة أوسعهم ضرباً مبرحاً، حتى ليموت من شدة الضرب، بل انه طلب
العفو والاستغناء عن السؤال، حتى يخلو سبيله...!
هذا المشهد التاريخي، ربما لا يتكرر في زماننا الحاضر كثيراً، إلا
ان التكرار في حالة عدم الاستماع والإصغاء بوعي وذكاء للآخرين، ومحاولة
تفهّمهم. فنشهد الفاصلة والبون الشاسع بين رموزنا وشخصياتنا العلمية
والاجتماعية والثقافية، وبين عامة المجتمع، وهذا بدوره يلقي بظلال
كثيفة على مسألة التأثير والاقناع التي تعد مطلباً حيوياً في مسيرة
التقدم والتطور لأي مجتمع وبلد في العالم، ويجعل افراد ذلك المجتمع في
غنىً عن الثقافات والافكار الوافدة، بل يكونوا هم المصدرين والمنتجين
والمبدعين للأفكار والمشاريع الناجحة. |