تحقيق العيش الكريم من واقع الإسلام

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: أن يعيش الانسان كريماً في مجتمعه، تتوفر لديه فرص العمل والسكن المناسب، وقدرة شرائية جيدة، هو طموح مشروع، بل مطلب جميل ومثير، لكن نلاحظ الصعوبة في تحقيقه وتطبيقه على أرض الواقع في معظم بلادنا، والعراق مثالاً. سواء من جانب الانسان نفسه، بسبب تشابك الظروف والاستحقاقات السياسية والاقتصادية وحتى الأمنية، ومن جانب المسؤولين المعنيين الذين يرفعون هذا المطلب المشروع، شعاراً عالياً وكبيراً، ثم يلقونه أرضاً عندما يصل الى مصالحهم الفئوية والشخصية.

لو القينا نظرة خاطفة على الأحياء الفقيرة، وأخرى على المهن التي يمارسها الفقراء في الشوارع والاسواق، نلاحظ نوعاً من الاستمراء والتطبّع على حالة الفاقة والحاجة، بل حتى حالة الاستعطاء عند البعض، كما لو انها مهنة مربحة ومريحة، يخوضها صاحبها بدون اختبارات ولا مؤهلات ولا مقدمات ولا... إنما بحرية مطلقة! بيد أن هذا ما يرفضه الإسلام، لأنه عندما يدعو الى العدل والمساواة وحرية العمل والتملّك، وسائر الاحكام والضوابط الاقتصادية، إنما لتكون عندنا قاعدة صلبة ينهض منها المجتمع والفرد، بحيث يعيش الانسان آمناً على حاضره ومستقبله، ومن ثم يحقق كرامته الانسانية.

في كتابه: "السياسة من واقع الإسلام" يسلط سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي – دام ظله- الضوء على حقيقة هامة للغاية، وهي التلازم بين "الكرامة الاقتصادية" و"الكرامة الاجتماعية"، ويقول: "هناك قاعدة معروفة تقول: الكرامة الاقتصادية تورث الكرامة الاجتماعية.. وهذه حقيقة ثابتة في المجتمعات التي لم يكتمل فيها الوعي والفهم في كل الأبعاد. ولأن الكثير من المجتمعات في العديد من مقاطع التاريخ هكذا كانت… ولا تزال.. وربما ستكون أيضاً. فلم يتغافل الإسلام الاهتمام بهذه الحقيقة، لكي لا يكون المؤمنون والأخيار في ذيل المجتمع لا يعبأ بهم أحد، ولا يقدر جانبهم".

نعم؛ هكذا يعنون، المرجع الشيرازي، القوة والمتانة في شعب أو بلد يعيش مشكلة الفقر والبطالة والحرمان، وهي بلاد اسلامية طبعاً.. فيدعو ليس فقط الى قوة اقتصادية، إنما الى "كرامة اقتصادية" يكون قوامها الانسان الناجح في عمله التجاري، في أي مستوى كان، ويشير سماحته الى وجود الكثير من الروايات المتواترة عن أهل البيت، عليهم الصلاة والسلام، التي تؤكد على ضرورة تحصيل الكرامة الاقتصادية، من خلال خوض ميادين التجارة والكسب المشروع. وقد اشار ضمناً الى مصادر أساس في مكتبة الحديث، مثل "وسائل الشيعة"، و"مستدرك الوسائل"، و"بحار الأنوار"، و"جامع الأحكام".

ورب سائل يناقش المسألة من ناحية فنية، وليس منهجية، فهل هناك فرص متاحة في بلادنا للتجارة الحرة، وحتى الكسب البسيط؟

لمن يتحدث عن الظروف الاجتماعية والسياسية المعقدة التي تحول في كثير من الاحيان دون ممارسة الناس اعمالهم التجارية بحرية ونشاط، يكفي أن يراجع الحديث المسنود الذي يرويه "الكليني" في كتابه "الكافي" عن الإمام الصادق، وهو بالحقيقة حادثة تاريخية تمثل درساً بليغاً لنا وللأجيال، لاسيما وانه يأتي على يد أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما أتاه مجموعة من الموالي، وهم المسلمون من غير العرب، وهم يشكون الأمراء العرب، أو حسب مصطلح اليوم، المسؤولين المحليين، بأنهم لا يساوونهم بالعطاء مع الآخرين، ويمارسون معهم سياسة التمييز القومي والعرقي، وفي الحديث، أنهم استشهدوا بعهد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، عندما أرسى دعائم الأخوة الاسلامية في المجتمع، وأوصى بأن "لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى".

وفي الرواية، ذهب أمير المؤمنين ليكلم القوم – المسؤولين المعنيين- فصاحوا بأعلى صوتهم: أبينا ذلك يا أبا الحسن.. أبينا ذلك!!

تقول الرواية: خرج وهو مغضب يجر رداءه وهو يقول:

يا معشر الموالي: إن هؤلاء قد صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى، يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم، ولا يعطونكم مثل ما يأخذون، فاتجروا بارك الله لكم. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: الرزق عشرة أجزاء تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها".

وحتى يكون لهذه الفكرة مصداق عملي، لا بأس حريٌ بنا مراجعة أوضاع الشيعة الخوجة المنحدرين من أصول هندية، والقاطنين في شرق البلاد افريقية مثل مدغشقر وتنزانيا وكينيا، فهؤلاء تعرضوا في القرون الماضية، الى نفس التهميش والتمييز الذي عانى منه المسلمون في صدر الاسلام، وربما قرأوا هذه الرواية واستلهموا الدرس من أمير المؤمنين، عليه السلام، فتخلّوا عن المطالبة بالوظائف الحكومية، وتعففوا عن السؤال والرجاء في هذا البلد الاسلامي أو ذاك، وجابوا في أرض الله الواسعة، وهم يمارسون التجارة بمختلف اشكالها، واليوم يُعدون من أثرى المجتمعات الشيعية في العالم، فلا فقير بينهم، ولا مشكلة اقتصادية لديهم، رغم أنهم لا وطن رسمي يضمهم ويتبنى انتمائهم العرقي والمذهبي. بل نجدهم في طليعة المبادرين في المشاريع الخيرية والانسانية في أوساطنا الشيعية.

هنالك شريحة واسعة في مجتمعاتنا تشكو الحرمان والتمييز في ميدان العمل التجاري، وربما يكونوا محقّين في ظلامتهم والاضطهاد الذي يمارس ضدهم من قبل السلطات الحاكمة وأيضاً من الشريحة الأكثر نفوذاً واقتداراً مالياً وسياسياً، لكن هذا لا يعني نهاية الطريق، عندما يوصينا الله تعالى بأن نهاجر في ارضه الواسعة، والتغلّب على هذه المشكلة.

وفي درس آخر ذو أبعاد أكثر شمولية يشير المرجع الشيرازي في كتابه، الى أن تحقيق الكرامة الاقتصادية، ليس فقط يحقق الكرامة الاجتماعية، إنما "الكرامة السياسية" ففي البلد الذي تسود فرص العمل والحياة الكريمة للجميع، فان النظام السياسي سيحقق تماسكاً وقوة لا تضاهى، وسيضمن اختراقات الفتن السياسية والاجتماعية، كما ابتليت شعوب وبلاد اسلامية عديدة بالاضطرابات والفتن التي تعود بجذورها الى التمييز والتهميش بين ابناء الشعب الواحد.

يقول سماحته: "الكرامة الاقتصادية تؤدي الى تماسك المسلمين من خلال الاندماج بين القوميات، لأن القوميات تعشعش غالباً في المحيطات الفقيرة، فإذا كان الغنى وكانت الأراضي الزراعية، والسيارات، والمتاجر و القصور.. ونحوها فإن القومية تنهار كالملح في الماء..".

وهنا تحديداً يضع سماحة المرجع الشيرازي يده على الجرح، ويضيئ لنا طريقاً للتماسك الاجتماعي والعيش الكريم للفرد والمجتمع من خلال "كرامة اقتصادية" سهلة التحقيق، لكنها بحاجة الى إرادة حقيقية وعزم لا يلين وتعاون من الجميع، اذا ما كان هنالك طموح وغاية موحدة لأن يكون البلد المسلم هنا أو هناك في مكانة محترمة بعيدة عن الأزمات والمشاكل، بل يكون في موقع المتطلع نحو التطور والتقدم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 28/تشرين الثاني/2013 - 24/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م