فائض حاجة... عن الكتابة الالكترونية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: هل تذكرون ساعي البريد بدراجته الهوائية وحقيبته الجلدية؟ هل تتذكرون اخر مرة نظرتم فيها الى صورة طابع بريدي على ظرف متعدد الاختام؟ هل ترون الان في الاسواق اقلام حبر تحمل ماركات شهيرة مثل (باركر) و (شيفر)؟

ساعي البريد لم يعد له وجود يذكر، واختفت الصناديق البريدية الحمراء والصفراء من شوارعنا، فلا رسائل تجيء ولا غيرها تذهب، رغم وجود الاصدقاء والاحبة، الا انهم ايضا يتباعدون كثيرا، ليس كما كان قبل عشرون عاما.. لم انظر الى طابع بريدي على رسالة مختومة باختام زرقاء الا منذ سنوات طويلة، وشاهدت قبل ايام مجموعة من الطوابع البريدية في متحف متنوع الاغراض، نعم متحف وليس في محلات كانت قبل سنوات تنتشر في مدننا يقصدها هواة جمع الطوابع.. اقلام الحبر الجميلة ومن ماركات عالمية اختفت او كادت، فلا حاجة الان لشرائها وحملها في جيوبنا او حقائبنا، تكفي تلك الاقلام الرخيصة التي ربما لانكتب بها الا كلمات قليلة طيلة مدة وجودها لدينا..

ليس هذا فقط، المكتبة المنزلية ايضا انقرضت او في طريقها لتصبح تاريخا نكتب عنه، كما غيره من تواريخ سابقة... هل افتقدنا الكثير؟ نعم لاشك في ذلك..

ماذا ربحنا من هذا الفقدان حين حلت مكان ما فقدناه وسائل وادوات جديدة تعيد تشكيل حياتنا وحواسنا؟

كل ما ذكرته في السطور السابقة، وعما نتذكره له علاقة بوسائل التعبير التي نمارسها الان في عصر الرقميات والتكنولوجيا الافتراضية..

فالايميل او البريد الالكتروني حل مكان الرسائل التي تحمل طوابع البريد، وحتى المجلات التي كانت ترسلها بعض الدول الى المشتركين اصبحت متوفرة دون اشتراك او تكاليف شحن اضافية، وعوضتنا لوحة الكيبورد عن استعمال الاقلام في الكتابة، فالورق الالكتروني موجود على الحاسبة او الهاتف النقال، وهي تختار لك حتى نوع الخط وشكله، والذي كنت سابقا تتمرن كثيرا على اتقان الخطوط في الكتابة.

الكتابة الالكترونية هي ما يسود حاليا.. كيف يمكن النظر اليها او مقاربتها؟

اول ما يمكن ملاحظته ان هناك تغييرا كبيرا قد حدث في ما يتعلق بانتاج النص وطريقة تلقيه، والذي كان يمر سابقا بعدة منحنيات لغرض ظهوره واشهاره.. اما الان فقد اصبح بامكان اي كان ان ينتج نصوصه وينشرها دون المرور بكل تلك المنحنيات والاشتراطات، وهي امكانية هائلة توفرت عليها الكتابة الالكترونية امام امكانية فقيرة وهزيلة كانت عليها الكتابة سابقا.

سمة اخرى تشكل علامة مفارقة اخرى، اختلف مفهوم النص والذي كان المكون اللغوي ابرز داله له وعليه، فقد اصبح هذا النص في بنائه التعبيري لا يعتمد على اللغة وحدها، بل اضيفت اليه عناصر اخرى مثل الصوت والصورة.. وبذلك اسس لقواعد جديدة في طريقة انتاج النصوص وتلقيها.

ما الذي يميز الكتابة الالكترونية؟

انها ثلاث ميزات هي (السهولة، والسرعة، والحرية).

سهولة الكتابة التي تتحول في الكثير من الاحيان الى استسهال او اسهال الكتابة..

سرعة النشر وفي اكثر من مكان بغض النظر عن طبيعة الامكنة وشكلها ومحتواها..

الحرية في نشر ما يشاء الكاتب، ولعلها هنا ميزة كبيرة عملت على تحطيم الرقيب الرسمي، الذي كان سائدا ومالوفا في الكتابات السابقة، لكن الخوف برز من ان هذه الحرية اصبحت في كثير من الاحيان (منفلتة – جامحة – وقحة)، لغياب اول عنصر من مكوناتها وهو المسؤولية..

هذه الميزات الثلاث انسحبت على مؤشرين رئيسيين في ما يتعلق بالكتابة عموما هما الفكرة، والعمق.

الفكرة في النوع الاول من الكتابة كان يرافقها الابتكار والابداع وهموم حملها والتبشير بها والدفاع عنها.. الفكرة الان اصبحت مبتذلة، سوقية، الجميع يكتب عنها دون ايمان بها او حتى معرفة سابقة لكيفية انبثاقها وولادتها..

المؤشر الثاني، غياب العمق عن الكثير مما ينشر الكترونيا، بسبب متطلبات النشر في المواقع الالكترونية، ونمط الجمهور المستهدف من هذه الكتابات، والذي لا يتطلب شروطا خاصة لما يقرأه، انه يمر سريعا على المحتوى، وكلما كان هذا المحتوى مثيرا براقا، كان ادعى للوقوف عنده، بغض النظر عما يحمله من افكار هي ليست افكار حقيقية ..

يكتب احدهم: ليس الخوف ان تروج الكتابة الالكترونية وأن تشيع وتدرج وتصبح وسيلة تواصل بين البشر، حتى وإن اقتصّت من علاقاتهم الانسانية ومشاعرهم وساهمت في عزلهم بعضهم عن بعض، الخوف أن تحل هذه الكتابة الهجينة محل الكتابة الحقيقية وتصبح هي القاعدة والمثال، وان تكسر قدسية اللغة ورهبة النص وهالة الكاتب... الخوف هو أن تقتل القارئ الحقيقي خالقة قارئاً جديداً هو قارئ العصر الاكتروني، القارئ السطحي والعابر وذو الذائقة المشوهة والذاكرة «المثقوبة».

جميعهم يكتبون، لكن الكتابة تنحسر ومثلها القارئ ومثلها الكتاب. هذا زمن ازدهار الثقافة الاستهلاكية ، ثقافة «الاس.ام.اس» السريعة «الذوبان» والتبخر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 21/تشرين الثاني/2013 - 17/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م