ثنائية الشخصنة والاختزال في الفكر العربي

حيدر الجراح

 

في الاستذكار التاريخي، والسياسة فاعل رئيسي فيه، نشأت ظاهرة الاقصاء والالغاء والتهميش، وذهبت التفسيرات لهذه الظاهرة مذاهب شتى (دينية – اجتماعية) تمحورت حول (الخلافة – القرابة)، ولست في وارد توجيه النقاش حول هذا الاستذكار لجهة معينة..

في الاستحضار التاريخي، والثقافة فاعل رئيسي فيه، استمرت ظاهرة الاقصاء وتسمياتها المتعددة، وذهبت التفسيرات فيها ايضا مذاهب شتى (سياسية – اقتصادية – ثقافية – دينية)، وهذا الاقصاء رافق الكثير من الحقب التاريخية التي تمفصلت وتمحورت حول الخلافة الاسلامية، وبعد سقوطها في مراحل (الدولة/ الدول) الوطنية..

لا اتحدث هنا عن الشيعة تحديدا في كافة صور وجودهم داخل اوطانهم (وجود مذهبي – وجود اجتماعي – وجود اقتصادي – وجود ثقافي)، مع استبعادهم بالكامل في (وجودهم السياسي)، فلا مشاركة في القرار او التوجه لسياسة الاوطان التي يتواجدون فيها الا في بعض الفترات التي عادة ماكانت تقع بين مرحلتين زمنيتين، (استقرار - واضطراب) / (اضطراب - واستقرار)..

اتحدث هنا في هذه السطور عن فاعلية السياسة ودورها في (تخليق – تشكيل – بناء) الفضاءات العامة لكل ما له علاقة بحياة الانسان.. والتي عملت على تأسيس هذه الثنائيات العديدة التي نعيشها ونحيا بها..

الاستذكار – الاستحضار، ثنائية تحكم العقل العربي والاسلامي، مثل ثنائيات كثيرة غيرها، (العروبة /الإسلام)، (القوميّة /الوطنيّة)، (الدين /الدولة)، (المثقف/السلطة)، (الديني/العلماني) وغيرها من ثنائيات تتوالد وتنمو..

هذه الثنائيات كان للفاعل السياسي دور كبير فيها من خلال ممارسة الاقصاء وعدم الاعتراف بالتعددية..

لكل توجه فكري او سياسي او اقتصادي مرجعية يستند اليها في تعامله مع الواقع وفي طرح البدائل التي يراها مناسبة لمعالجة مايعتقد انه اختلال في هذا الواقع المعيش..

جميع التيارات والاحزاب والحركات والشخصيات التي نادت بتغيير واقع الامة العربية والاسلامية قدمت مشاريعها انطلاقا من المرجعيات التي استندت عليها.. وهي في الكثير من طروحاتها، استعارت تلك الممارسة (الاقصاء) مقابل الآخرين..

الاسلاميون في تجاربهم، كثيرا ما يستذكرون التاريخ ويستحضرونه في وضع برامجهم التغييرية..

المقابلون في الصف الاخر، يستذكرون ايضا ويستحضرون، ولكن هذه المرة تجارب (ثقافات – حضارات) اخرى ويعتقدون انها يمكن استنباتها او (تبيئتها) في مجتمعاتنا، مع محاولة للقطع مع الاستذكار في الكثير من برامجهم، اذا استعصى عليهم هذا الاستنبات..

تلك الثنائيات لم تقف عند حدود لم تتجاوزها، بل افرزت ظاهرة اخرى في العقل العربي والاسلامي، وهي ظاهرة (الشخصنة) سلبا او ايجابا، وتاريخنا المعاصر مليء بالكثير من تلك (المشخصنات)..

الشخصنة تقود من حيث لايدري من يمارسها الى (الاختزال) والوقوف عنده، دون النظر الى جوانب ابعد او مديات اوسع، وهو مايشكل كابحا او قامعا لأي تقارب بين فكرتين او توجهين، وبالتالي لاتحضر التعددية كفضاء اوسع من تلك الثنائيات العديدة ومايدور حولها..

في كل عام وفي شهر محرم الحرام منه، وتحديدا خلال الايام العشرة الاولى والمعروفة بعاشوراء، تنشط المواقع الالكترونية بفسح المجال امام الكتاب لرفدها بمختلف المواضيع والتي تكون عاشوراء وما يتعلق بها بؤرة التركيز في التناول والتحليل والاستنتاج..

وهي اذ تمارس فاعلية الكتابة والنشر والترويج لا تخرج عن هذه الدائرة (الثنائية) ومايتبعها (الاستذكار – الاستحضار) من طرفين على جانبي نقيض في الكثير من التوجهات، رغم اتفاقهم على المبدأ العام، (المواقع الشيعية تحديدا).

السياسة حاضرة بقوة مثلما الثقافة كذلك، في طبيعة التعاطي مع المناسبة، سواءا مع مايجري داخلها من (طقوس او شعائر او ممارسات)، تكون محط دفاع عنها او هجوم عليها من قبل الفريقين. هذا السجال متجدد ومندفع عام بعد اخر..

الشيعة الذين يمارسون (الطقوس – الشعائر) لايختلفون على مسألة جوهرية تكون في صلب هذه الممارسة، وهي الايمان بالتعدد والاختلاف.. كيف؟

لايجبر احد من الشيعة على اي ممارسة يعتقدون انها احد التمظهرات لهويتهم الشيعية، فلا احد يجبر على ان (يلطم على صدره – يضرب الزنجيل على ظهره – يشق رأسه في التطبير) ولا احد يجبر على تعليق (الراية – العلم – البيرق) على سطح داره، ولا يجبر احد على ارتداء الملابس السوداء تعبيرا عن حزنه، الى اخر المظاهر التي يمكن ان تشكل هوية الشيعي وتعد علامة بارزة لانتمائه المذهبي..

الطرف المقابل لايؤمن بغير الاقصاء او الالغاء في نظرته الى (الطقوس – الشعائر) ويقف امامها موقف التسفيه ناعتا من يمارسها بالجهل والتخلف، وكأنها هي سبب تأخر المسلمين عن العالم..

وهو في موقفه هذا يشخصن الظواهر عبر (التنسيب – الاستنساب)، نسبتها الى آخرين يتخذ منهم موقفا (ايديولوجيا)، واستنسابه لآخرين يعتقد انهم يمثلون الشيعة قاطبة في مفارقة تعتمد على (الاختزال) اللامفارق للايديولوجيا..

يكتب احدهم (حسن المصطفى/كي لا يُقتل الحسين مرتين) على موقع العربية، ممارسا لجانب من تلك الثنائية البغيضة في العقل العربي والاسلامي، ومختزلا ممارسة (الطقوس – الشعائر) بمن ينتمون الى (المدرسة الشيرازية)، منطلقا من واقعة تعود الى سنوات سابقة جمعته بأحد ابناء الامام الشيرازي الراحل، والتي يتكئ على مفصل منها وهو سؤال وجهه احد اصدقائه الى الابن حول الموسيقى وقول صديقه (إن الموسيقى مسألة لا اتفاق بين الفقهاء على حرمتها). ونسي هذا الصديق ان الاعتراض المقابل يمكن ان يقرأ هكذا (إن الموسيقى مسألة لا اتفاق بين الفقهاء على حليتها)، اذا كنا نريد الانصاف في عرض الحقائق او الوصول الى الحقيقة بعيدا عن اهوائنا او انفعالاتنا..

ومسألة الموسيقى وغيرها من مسائل كثيرة، تمتلك مساحات واسعة من الاخذ والرد في التعاطي معها، تبعا للأدلة العقلية والنقلية التي يستند عليها الفقهاء، ولايمكن ان يكون الاختلاف في (الفتاوى – الاحكام) محل انتقاد، لان فحوى ومحتوى وروح الاجتهاد، والشيعي هنا تحديدا، قائم على هذه الاختلافات..

والكاتب يستمر في مغالطة الحقائق والواقع، في وصفه للمدرسة الشيرازية عبر قوله: (تيار شيعي شعبوي آخذ في التمدد، يقوم على الغلو في الاعتقاد بمقامات آل بيت النبي محمد (ص)، وإسباغ صفات "فوق بشرية" عليهم)، دون ان يتعب نفسه في قراءة مايقوله السيد صادق الشيرازي، وهو المرجع الحالي من هذه الاسرة العلمية.

في كتابه نفحات الهداية (انتشارات ياس زهراء / ص25) يقول السيد صادق الشيرازي:

(علينا ان نعرّف الشباب والفتية بنبي الاسلام (صلى الله عليه وآله) واهل بيته (عليهم السلام) بالنحو والكيفية التي عرّف بها القرآن الكريم شخصية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحقيقة الائمة الاطهار (عليهم السلام) وليس عبر كلمات الافراط والتفريط، التي تصدر من بعض الجهات المضللة وهي تريد ان ترفع مقام الائمة الاطهار (عليهم السلام) الى اكثر من الحد الواقعي، او تهبط بهم الى مادون ذلك، لايجوز ان تنسبوا حتى صفة واحدة من صفات الله عز وجل الثبوتية الى الائمة الاطهار (عليهم السلام)..

ثم يستمر الكاتب وهو يخلط بين الحابل والنابل في كلامه، ويخبط خبط عشواء كحاطب ليل، بين التعميم والذي لايمارس فيه (التنسيب) او الاختزال، ربما لدوافع واسباب لايعلمها غير الكاتب نفسه، لكنه في الاختزال يبرع في توجيه كلامه نحو (الشخصنة) والتي تتوزع على اكثر من اسم بين سطوره..

وحتى في نظرته للاعلام الشيعي، لايفارق تلك النظرة المختزلة والسطحية للامور، فهو يقول: (من الجدير بالتأمل أن كثيرا من الفضائيات "الشيعية"، يديرها أناس منتمون لتيار "الشيرازي" أو مقربون منه، ولذلك أهميته الخاصة)، ولا ادري على اي قاعدة للمعلومات استند عليها، وهل تكون فضائيات (الفرات –العهد – السلام – كربلاء) وغيرها الكثير من الفضائيات الشيعية والتي لاتحضرني اسماؤها هي شيرازية الهوى والهوية، ام انها تتبع اتجاهات وحركات شيعية اخرى، لايعرف الكاتب ان يسميها او انه يتحاشى تسميتها، لأسباب لانعلمها..

لايمكن ان يتم اختزال (المدرسة الشيرازية) بممارسات شيعية واسعة يتداخل فيها (الديني – الثقافي – السياسي) والنظر اليها من تلك الزاوية فقط، واهمال مساحة واسعة من عطاءاتها التي قدمتها الكثير من الاسماء من خلال اسهاماتها ومواقفها.

يغيب الانصاف وتغيب الموضوعية في الكثير مما يكتب، وهي ظاهرة تسود ما بات يعرف بالكتابة الالكترونية، لسهولة النشر وسرعته ومجانيته، وهو يتوجه الى قراء لايتسائلون في غالبيتهم عما يقرؤون، ولا يسائلون الكاتب فيما يكتب ويقول..

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 21/تشرين الثاني/2013 - 17/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م