شبكة النبأ: اللغة كلمات واصوات، يعبر
بها الانسان عن افكاره ومشاعره، احيانا تكون قادرة على هذا التعبير من
خلال صيغ بلاغية وتصويرية تصل الغرض مباشرة، واحيانا اخرى تكون عاجزة
عنه لا لعيب في اللغة نفسها بل لعيب في المتكلم (عيّ – خجل – ارتباك –
جهل)..
ولا تنحصر وظيفة اللغة فقط في إنتاج الفكر وبنيته أو في بعدها
التواصلي الذي يحمل طابعا رمزيّا، بل إنّها العنصر الأساسي في تشكُّل
الثقافة، وقد أثبتت الأبحاث الأنتروبولوجيّة أن اللغة أرقى المظاهر
الثقافيّة المشكلة للمجتمع ولا يمكن للإنسان إدراك العالم دونها، إذ
بواسطتها يخرج الإنسان من الدائرة الوظيفيّة الضيقة التي تربطه
بالحيوان إلى نظام رمزي شاسع يستخدمه كوساطة لفهم هذا العالم وإدراكه.
في كتابه (عنف اللغة) يتناول (جان جاك لوسركل) احدى القضايا المهمة
في علم اللغة المعاصر: عندما يقوم شخص ما باستعمال اللغة، من يكون
المتكلم؟ هل هو الشخص بذاته أم أن اللغة هي التي تتكلم؟ بكلام آخر: هل
يكون الشخص المتكلم مسيطراً سيطرة تامة على “الأداة” التي يستعملها،
وهي اللغة، بحيث إنه يفعل بها ما يريد وفق شروطه الخاصة ويشكلها وفق
تصوراته المسبقة، أم أن اللغة تلعب دوراً أساسياً في عملية التعبير،
بحيث تفرض شروطها هي وتتحول “متكلماً” أو لاعباً أساسياً في العملية؟
في مقاربته لعنف اللغة يكتب (أ.د. مراد موهوب) في بحثه المعنون (لغة
العنف وعنف اللغة : مقاربة لسانية نفسية): (إن التعبير الصوتي عن
المشاعر والإحساسات هو وسيلة للتخفيف من وطأة التهيج النفسي الانفعالي
لدى المرء، وتصريفِ هذا التهيج وتقليص حدته). .
ويرى الباحث ان العنف ليس ماديا فقط (يمارسه فرد ضد فرد آخر، بل هو
أيضا حدث لغوي أو فعل كلامي يعبر عن موقف سيكولوجي انفعالي يُنجَز في
مقام تواصلي تفاعلي سِمته البارزة التنازع والخصام، فيتولد العداء
والكره والبغضاء، بل المضرة والأذى. فهو شعور وانفعال داخلي، وسلوك ورد
فعل خارجي. وهذان المظهران - الداخلي والخارجي - تعبر عنهما اللغة في
كل مستوياتها الرمزية والبنيوية (الصوتية، والمعجمية، والدلالية،
والصرفية، والتركيبية).
فعلى المستويين المعجمي والدلالي، يُتلفظ بالعنف باستعمال طائفة من
الكلمات التي تنتمي إلى قاموس مفردات السب والشتم والتهديد والتعنيف
والتجريح، وألفاظ تحيل إلى المواضيع المحظورة كالجنس والأخلاق والدين
وخدش الحياء وتهين، وتطال العرض والشرف.
وعلى المستوى الصرفي، تُستعمل كل الصيغ الصرفية التي تسمح اللغة
بتشكيلها (أفعال، وأسماء بسيطة ومركبة، وأسماء جامدة ومشتقة،
وصفات...). وعلى المستوى التركيبي، تستخدم تراكيب متنوعة (فعلية
واسمية)، وجمل مختلفة (خبرية، تعجبية، أمرية...) لتأدية معانيه.
ومن الناحية الصوتية، يتحقق العنف من خلال تدخل كل مكونات الجهاز
الصوتي عند الإنسان:
- ففي مستوى الصدر والبطن، يحدث تقلص كبير لعضلات التنفس.
- وفي مستوى الحنجرة، يقع تضييق عند مدخل المزمار بتأثير من قوة
النشاط العضلي الذي يتم في مستوى العضلات الباطنية السفلى.
- وفي المستوى الفموي، بينت نتائج التحاليل التصويرية بواسطة الأشعة
السينية أن عضو اللسان يتراجع إلى الخلف مصحوبا باتساع حجم الفم أو
التجويف الفموي.
وتتصف التلفظات الصوتية العنيفة بالخصائص العضوية التالية :
- حدوث حركات متقطعة في اللسان. ومرد ذلك إلى حركات العبور السريعة
جدا المتبوعة بمراحل تثبيت تؤدي إلى تمديد مدة الأوضاع القصوى في
الأصوات.
- توتر عضلي شديد ومتزايد لأعضاء اللسان والشفتين والحلق. فاللسان،
مثلا، يتم حصر مقدمته بشدة على أصول الثنايا بالنسبة لصوت التاء، وعلى
الحنك الصلب بالنسبة لصوت الكاف. وتتضاعف، تبعا لذلك، مساحة الاتصال
بين العضوين مقارنة مع التلفظ العادي غير العنيف.
في فضاء كهذا، كما يرى الباحث المغربي (أحمد الخطابي) في بحثه الذي
يحمل عنوان (لغة العنف كشكل جديد للتّواصل عند التّلميذ، من عنف
المدرسة إلى مدرسة العنف) يسوده عنف اللغة، تصبح لغة العنف هي التعبير
المرادف للحمايّة والدفاع عن الذات، هي السبيل للتحصين من الخضوع
والسيطرة للغة الآخر الاستبدادية، فينشأ فضاء قوامه العنف والعنف
المضاد يتقلص فيه الضغط العاطفي ويرتفع مستوى/منسوب رد الفعل ليتم
توظيف أسلوب تعبيري يؤثثه القذف والتجريح.
نحن إذن أمام إشكاليّة تواصليّة عن “عنف الموقف” المتجلي في
الاستعمال الشخصي للغة كتعبير عن موقف ذاتي يُلزم الفرد ويعبر عن
شخصه/هويته ليجعله مستقلا عن الآخرين وفي نفس الوقت لا يتحدد إلا بهم،
مادام هؤلاء سيشكلون موضوع عنفه وضحاياه، كما يتجلى هذا الموقف أيضا في
الاستعمال القاسي والجارح للغة من أجل إخضاع الآخر وجعله تحت سيطرته.
معنى هذا أن العنف اللغوي هو ظاهرة تفاعليّة تحتاج إلى وجود فاعلين
اجتماعيين من أجل تحققها وإلا انتفت شروطها، كأي فعل تواصلي لا بد له
من رسالة ومرسل ومرسَل إليه، إنها تجد تطبيقاتها من خلال السياق
العلائقي الذي تندرج فيه وهو في نفس الوقت الشكل الذي تَحْيَى فيه
السيرورات التواصلية. غير أن أطراف العلاقة والفاعلون فيها يسعون دائما
إلى محاولة الهيمنة واستعادة سلطة اللغة ومن تم يتجلى رهان اللغة في
ممارسة السلطة بها وعبرها، فهم لا ينظرون إلى ذواتهم كفاعلين متكافئين
في ممارسة اللغة بل كأشخاص لامتكافؤون يحاول كل من جانبه توظيف اللغة
للهيمنة على الخطاب وتوظيفه للإبقاء على وضعيّة التبعيّة التي تخلقها
سلطة اللغة، وفي الوقت ذاته يسعى الطرف الآخر إلى التجرد من سلطة اللغة
المفروضة عليه بإنتاج لغة/سلطة مضادة بالحفاظ على نفس السياق اللغوي
والتيمة اللغويّة كرد فعل يعبر عن الرهان في كسب معركة اللغة.
يؤكد الباحث في علم اللسانيات عمر أوهدي أن نسبة جد مرتفعة من
الكلمات المستعملة في التخاطب بين التلاميذ في المدرسة وفضائها هي
عبارة عن سب وقذف، ما بين 75% إلى 80% ذات طابع جنسي يتم فيها توظيف (
كلمة الأم) بشكل رئيسي، ويضيف أن العنف اللفظي ليس إلا نتيجة لإعادة
إنتاج خطاطات من أجل تأكيد وإثبات الانتماء للجماعة سسوسيوثقافيا
(جماعة الأقران، الانتماء إلى الحي...).
وعن الكلام وهذه المرة من زاوية اخرى وهي (اللاعنف) تنشر مجلة معابر
الالكترونية احد النصوص المترجمة لثقافة اللاعنف، يرد فيه (الكلام
العنيف يخرق عمدًا معاييرَ الخطاب التقليدي الذي يدَّعي تبريرَ الظلم،
قد يبدو الكلامُ بنظر الإنسان المتمرد استنكارًا جذريًّا للنظام
القائم. فلكي يعبِّر الإنسانُ المتمرد عن رفضه تعبيرًا أفضل، يسعى لأن
يعبِّر عن نفسه بلغة أخرى غير لغة النظام الذي يستنكره. ففي رأيه أن
مراعاة المجاملات اللغوية التي وضعها المجتمع تعني أيضًا قبول الخضوع
لقوانينه. ستكون صرخةُ الإنسان المتمرد عندئذٍ تجديفًا، وستنتهك المقدس
عمدًا. فعندما يعبِّر تعبيرًا صاخبًا عن غضبه، عن ازدرائه المجتمعَ
وحقده عليه، يشعر بالتحرر من القيود التي كانت تريد إرغامَه على
السكوت.
لكن من الوهم الظن بأن قوة الكلام تتناسب طردًا مع عنفه. ففي
الواقع، هناك تناقُض جذري بين الكلام والعنف: فالأول يتوقف عندما يبدأ
الآخر. كلامٌ يصير عنفًا ينفي نفسه ككلام. فمن فادح الغلط إذنْ الضرب
عرض الحائط بفرائض العقل للتنديد بالذرائع الكاذبة التي يتذرع بها
الأقوياءُ في محاولة للتمويه عن مظالم النظام القائم. فحين تستسيغ لغةُ
التمرد الشتمَ والسبَّ في حقِّ الخصم، فهي لا تُعبِّر سوى عن صرخة، أي
عن كلام غير واضح، وبالتالي، غير مسموع وغير مفهوم. فالخطاب العاقل
وحدَه قادرٌ على فضح سفسطات الخطابات الرسمية وتناقضاتها وأكاذيبها
التي يُطلَبُ من المواطنين تأييدُها صامتين.
إن إضفاء المسالمة على الكلام واحدة من فرائض اللاعنف. إذ ينبغي على
كلِّ كلام ضد الظلم والعنف والحرب، لكي يكون فعليًّا، أن يكون كلام
سلام. فعنفُ الكلمات يساهم في الحرب. إن التربية على الكلام اللاعنفي
عمليةٌ أكثر بكثير من التربية على الصرخة العنيفة. فسلطان الكلمة يتأتى
من صحتها، لا من عنفها. وبهذا فإن الرأي العام يتجاوب مع الكلمة
المسالمة أكثر مما يتجاوب مع الكلام العنيف الذي يأخذ في تعنيفه.
فالكلمة العاقلة والعمل اللاعنفي يعزِّز واحدهما الآخر، حيث يشدد
الكلام على معنى العمل والعكس بالعكس، بحيث يصير الكلام في معمعة
الكفاح عملاً والعمل كلامًا. |