تركيا تستعيد وعيها السياسي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: "ديار بكر بالنسبة لي مثل اربيل.. انتم في مدينتكم بإقليم كردستان..". بهذه العبارات رحب رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، بضيفه الكردي مسعود البارزاني الذي وصل مدينة ديار بكر ذات الاغلبية الكردية جنوب تركيا. لم يكن اللقاء والاستضافة هذه المرة في صالة اجتماعات، كما هو المعتاد، إنما على منصة خطابية أمام الجماهير الكردية – التركية، حيث ضمن اردوغان خطابه الترحيبي المليئ بالمجاملات، تسمية "كردستان" على شمال العراق التي تتمتع بحكم ذاتي.

في مقابل أجواء التفاؤل والارتياح التي يخلقها اردوغان في علاقته مع الأكراد في جنوب شرق تركيا، هنالك المرجل السوري ما يزال يغلي ويحصد العشرات من القتلى، مع استمرار معاناة اللاجئين والمشردين داخل وخارج سوريا، ثم التشاؤم الكبير الذي ضرب المعارضة السورية طيلة الفترة الماضية في ضوء التراجعات والهزائم التي منيت بها مختلف الجماعات المسلحة، سواء الارهابية- التكفيرية ، أو ما يسمى بالجيش السوري الحر، وغيرها. حتى بلغت هذه الهزائم الى المناطق الشمالية لسوريا، وتحديداً ريف حلب، الى جانب مناطق أخرى يستعيدها الجيش السوري الواحدة بعد الاخرى، وبكلمة؛ خسارة الرهان على الحسم العسكري للأزمة  السورية، والحديث بات عن الاستعدادات لعقد مؤتمر "جنيف" لإيجاد حل سياسي ينهي الحرب الدائرة بصيغة لا غالب ولا مغلوب.

من الواضح لدى المراقبين والمتابعين أن الخسارة السعودية المدوية في الساحة السورية، وتبديد مليارات الدولارات أدراج الرياح، هو الذي دفع الاتراك، وشخص اردوغان للتفكير بانقاذ الموقف، والتخلّي عن تحالفه غير المكتوب مع السعودية لتولّي أمر المساعدات اللوجستية للجماعات المسلحة، مقابل صفقة مالية سخية. علماً أن اسطنبول، ما تزال تعد مركز انطلاق النشاطات السياسية للمعارضة السورية، ومقر ما يسمى بـ "الائتلاف الوطني السوري"، كما إن الموقف السياسي التركي من نظام الاسد، لم يتغير، بيد أن هناك استحقاقات اقليمية واخرى دولية تنظر اليها انقرة بأكثر من عين، وإلا فان بلداً بحجم تركيا، بمكانتها التاريخية والسياسية، لن تضع كل بيضها في سلّة المعارضة السورية التي لم تتوصل حتى الآن الى صيغة موحدة لمواجهة النظام، وربما لن تصل ابداً باعتقاد معظم المراقبين، نظراً للتقاطع الشديد بين الانتماء الى العقيدة المتطرفة لدى الجماعات الارهابية – التكفيرية، وبين التوجهات الفكرية والسياسية العلمانية لدى احزاب وجماعات سياسية تقطن العواصم الاوربية، مثل باريس ولندن، وهذا ما أيقنته أنقرة وتريد أن تبتعد عن سجال وجدال ليس من شأنها وحجمها، ولا علاقة لها بمصالحها الكبيرة والمتشعبة في المنطقة.

فاذا كان المعارضون السوريون يفكرون بتغيير النظام السياسي في دمشق، فان طموح تركيا يتجاوز حدود معينة، الى حيث حدود القومية الكردية التي تمتد على مساحة واسعة جداً في خارطة المنطقة، لتشمل دول العراق وتركيا وسوريا، وهي مناطق متداخلة ومتقاربة، من هنا نسمع اردوغان، ينفرد بين أسلافه الاتراك بعبارات واشارات غير مسبوقة فيما يتعلق بالأكراد في تركيا، مثل "كردستان"، "التوقف عن اراقة الدماء في تركيا"، حيث من المعروف أن أنقرة وطيلة العقود الماضية لم تكن لتعترف بالهوية الكردية في تركيا، رغم وجود حوالي (14) مليون كردي في مناطق جنوب شرق تركيا. وربما تكون هذه فرصة ذهبية امام اردوغان لمغازلة "أوجلان" وهو سجنه ليكرس عملية وقف اطلاق النار في سبيل إنهاء حالة العنف المسلح نهائياً، بإلقاء السلاح أرضاً، كما اشار الى ذلك، في خطابه الحماسي والجماهيري بمعية ضيفة البارزاني.

الجديد هنا، ليس في الحديث عن حلول سياسية للأزمة الدائرة بين الحكومة التركية واكراد تركيا وبوساطة من اكراد العراق، إنما في الترتيبات السياسية المتوقعة في المنطقة، في ضوء الافرازات المحتملة من الصراع الدائر في سوريا، فقد تحدثت الانباء عن احتمال حصول أكراد سوريا على حكم ذاتي شمال سوريا، بعد سلسلة من المعارك بين فصائل كردية مسلحة وجماعات ارهابية، في مقدمتها "جبهة النصرة" التكفيرية الدموية، التي تم طردها من مناطق كردية عديدة، وهو ما نظر اليه المراقبون على انه نوع من الاستعداد والتهيؤ لخوض تجربة السيطرة عسكرياً على المناطق ذات الاغلبية الكردية، على أمل السيطرة السياسية، وهي نفس التجربة التي خاضها أكراد العراق في تسعينات القرن الماضي.

من هنا فان تركيا بدأت تفكر بمستقبلها السياسي داخلياً وخارجياً بعيداً عن حالة التأزم التي كادت أن تجر البلاد الى حرب يدفع ثمنها الشعب التركي وأضرار فادحة في الاقتصاد الناهض لهذا البلد، عندما كانت كل من السعودية وقطر تدفعان المليارات، رشاوى وسلاح وشراء مواقف دولية واقليمية لشن حرب واسعة بقيادة الغرب للإطاحة بنظام الاسد وتكرار تجربة ليبيا. بمعنى أن تركيا تريد من خلال السيناريو الجديد في المنطقة عدم التخلّف عن الكسب السياسي والاقتصادي، من خلال توطيد العلاقات مع اكراد العراق، ضمن اتفاقيات متعددة مع "الأقليم"، ثم التطلّع نحو مكاسب اقتصادية في المناطق ذات الاغلبية الكردية، وتحويلها من ساحة حرب وصراع وأزمة، الى واحة للاستثمار والتطور، بما يعزز القوة الاقتصادية والسياسية لها في المنطقة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 19/تشرين الثاني/2013 - 15/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م