اخلاقيات التغيير... التوازن

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: جميع الأشياء والبيئات في هذا الكون محكومة بالتوازن.. وهو توازن دقيق في  داخل البيئة الواحدة وبين اخريات غيرها، وفي علاقات الاشياء مع بعضها.

البيئة الإنسانية واحدة من تلك البيئات في هذا الكون، والتي يحكمها التوازن الدقيق، توازن الانسان مع نفسه أولا وتوازنه المعكوس في علاقاته مع الذوات الإنسانية الأخرى... وهو توازن متعدد الاتجاهات والموضوعات، فهناك توازن نفسي وتوازن أخلاقي وتوازن اجتماعي وتوازن اقتصادي الى اخر المفردات التي لها علاقة بمحيط الانسان وبيئته التي يحيا بها.

متى يحدث هذا التوازن الدقيق؟

حين يتصالح الانسان مع نفسه او حين يتعرف عليها، من خلال اكتشاف عيوبها ومزاياها، سلبياتها وايجابياتها.

متى يختل هذا التوازن؟

حين يجهل الانسان تلك النفس ويصر في كثير من الأحيان على هذا الجهل بمعرفتها.

إنّ النفس الإنسانية، كما يكتب السيد صادق الشيرازي، في (حلية الصالحين) دقيقة جدّاً وسريعة التأثر إلى درجة كبيرة، فهي كالنابض الذي يهبط لأدنى ضغط ويرتفع بارتفاعه بسرعة.

و(التوازن في النفس مهمّ جدّاً، كما يضيف السيد المرجع،  كما هو مهمّ في كلّ شيء؛ وكما أنّ أدنى اختلال في توازن الأشياء قد يؤدّي إلى تحطّمها أو خرابها، فكذلك الحال مع النفس).

يقوم التوازن النفسي أساساً على القدرة على الحركة الدائمة وعلى العمل المتعدد الاتجاهات، وبخاصة على المقدرة على تقبُّل معنى جديد ووظيفة عملية أو إدراكية جديدة.

التوازن النفسي يمكن ان يعبر عنه في الدراسات النفسية الحديثة بتعبير (الذكاء الوجداني) والذي يعني (مجموعة من الصفات الشخصية والمهارات الاجتماعية والوجدانية التي تمكن الشخص من تفهم مشاعر و انفعالات الآخرين، ومن ثم يكون أكثر قدرة على ترشيد حياته النفسية والاجتماعية انطلاقاً من هذه المهارات).. هذا الذكاء الوجداني والذي هو ثمرة للتوازن النفسي، يمكن الانسان من امتلاك قدرات منها، التعاطف مع الاخرين، تكوين الصداقات والمحافظة عليها والارتقاء بها، قدرة التحكم في انفعالاته وتقلباته الوجدانية، قدرته على التعبير عن مشاعره واحاسيسه تجاه الاخرين، القدرة على تفهم المشكلات التي تعترضه او تعترض القريبين منه ووضع الحلول لها، احترام الاخرين وتقديرهم، القدرة على اظهار مودته في تعامله مع الاخرين، القدرة على جلب الحب والتقدير من الاخرين، القدرة على تفهم مشاعر الاخرين ودوافعهم التي تحركهم، الى اخر ذلك من قدرات وطاقات لاتتوقف عن النمو في تعامله وعطائه..

وفي حديثه عن التوازن يقول السيد المرجع (التوازن مطلوب في النفس وباقي الأمور المعنوية، بل هو أهمّ، لأنّ فقدان التوازن في المادّيات قد يؤدّي إلى تلف الأبدان، أمّا في المعنويات فيؤدّي إلى تلف النفوس، وبالتالي خسارة الدنيا والآخرة.

وإذا كان بدن الإنسان بحاجة إلى توازن يحفظ سلامته من أيّ اختلال قد يؤدّي إلى تلف في الكبد أو المخّ أو أيّ عضو من أعضائه الأخرى، فإنّ الأمر مع النفس آكد؛ لأنّه بالنفوس تحيا الأبدان وليس العكس، وبالنفوس يصل الناس للتكامل والرقيّ وليس بالأبدان).

ثم يتحدث السيد المرجع عما يمنع من تحقيق هذا التوازن فيقول: (قد تكون في الإنسان خصلة ولكنّه لا يعلم بوجودها، وقد يعلم بها ولكنّه لا يعلم أنّها عيب يوجب التغيير، وقد يعلم بها ويعلم أنّها عيب ولكنّه قاصر عن إصلاح نفسه والتخلّص منها، وقد يكون مقصّراً.

والمثال على ما تقدّم هو الجهل، فإنّ الإنسان يعاب عليه. ولكن قد يكون جهله عن قصور، لأنّه لم يسعه أن يتعلّم، وقد يكون مقصّراً، كما لو أمكنه التعلّم ولكنّه تلكّأ عن الأمر؛ فعلى أيّ من هذه الحالات يعاب؟ الجواب: يعاب عليها كلّها؛ لأنّ الإنسان لا يعاب على التقصير فقط، بل قد يعاب على القصور أيضاً، كما أنّه لا يعاب على شيء يعلم أنّه عيب فقط، بل قد يعاب على شيء لا يعلم بوجوده. وقد يكون العيب شرعياً كارتكاب الحرام والمكروه، أو عرفياً أو أخلاقياً مثل العجلة وعدم التأنّي، والغضب، والتكاسل وما أشبه، فالمفهوم يشملها جميعاً)،

كيف يمكن تحقيق هذا التوازن في راي السيد المرجع؟

يتم ذلك من خلال (السعي والتمرين يمكن أن يصل الإنسان إلى مرتبة فهم الجنّة كمن قد رآها، لأنّ هذا الأمر لا يتحقّق دفعة واحدة بل يتطلّب الممارسة والمواظبة من أجل الصعود درجة درجة؛ فإنّ الله تعالى جعل عالم الدنيا عالم الأسباب، فلا يمكن أن ينام الشخص ليلاً ثمّ يستيقظ صباحاً وقد تحوّل تحوّلاً كاملاً دفعة واحدة من الصفر حتّى بلوغ تلك المرتبة).

ويستمر السيد صادق الشيرازي متابعا: (فصقل الذات قضية صعبة للغاية، غير أنّه لا بدّ للمؤمن من ذلك، ولا بديل له عن إنجاز هذه المهمّة الضرورية؛ لأنّ كلّ إنسان تواجهه في الحياة عقبات وصعوبات قد يشيب الطفل من بعضها، ولكن لا بدّ له من تجاوزها لئلاّ يتحسّر على عدم التحمل في يوم لا ينفع فيه حسرة ولا ندم).

للتوازن عند الانسان تجليات عديدة في تعامله مع الاخرين، وهي ماتعرف بالاخلاق او يمكن تسميتها باخلاقيات التعامل، وتكون على نوعين كما يرى السيد المرجع، (الأوّل: السجيّة، أي طبيعة متأصّلة في ذات الإنسان بفعل عامل التربية والأجواء التي يعيش فيها، كأن يكون الجوّ المنزلي أو العام جوّاً أخلاقياً طيّباً، فينمو الإنسان في ظلّه، فيتطبّع بالأخلاق الطيّبة. وهذا يكون من السهل عليه الالتزام بالأخلاق الفاضلة، بل قد يصعب عليه خلافها.

الثاني: النيّة، أي الإرادة والقصد إلى الفعل الحسن والخلق الحسن؛ بمعنى أنّ الشخص بحاجة إلى إرادة وتصميم ليشقّ طريقه في الحياة. فالذي ترعرع في أجواء غير حميدة أخلاقاً، تراه يعاني كثيراً لكي يلتزم بالأخلاق الفاضلة والسلوك الطيّب. وهذه المعاناة، إنّما تقف وراء تحمّلها نيّة صادقة وإرادة قاهرة لتجاوز الحالة أو الطبيعة السيّئة التي يعيشها المرء مع نفسه أو مع غيره.

ولذلك فإنّ صاحب الطبيعة أو السجيّة الحميدة لا يستطيع التخلّي عنها بسهولة، أي من الصعب عليه أن يستبدل بها غيرها، فلا يتكبّر مثلاً، لأنّه مجبول على التواضع، ولا يسرق لأنّ الأمانة تسري في عروقه.

أمّا صاحب النيّة فتجده يكابد ويقسو على نفسه ليصبّرها على الطاعة والخلق الحسن. فعندما يحاول أن يكون متواضعاً ذا خلق حسن يجد في نفسه امتناعاً عن ذلك، حينئذ تراه يصبّرها جهاداً ليرقى بمستواها حتى تأخذ طابعاً جديداً ومسلكاً طيّباً عبر إرادة صلبة. فكان ـ والحال هذه ـ صاحب النيّة المكافح أفضل درجة وأرفع منزلة).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 18/تشرين الثاني/2013 - 14/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م