ما قيمة الدم العراقي؟

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: سأل مندوب إحدى القنوات الفضائية بائعاً على الرصيف في بغداد، عن موقفه فيما اذا انفجرت بالقرب منه عبوة أو سيارة مفخخة، هل يترك مكان عمله؟ أجاب بكل هدوء وهو يعيد تصفيف الصابون والمنظفات التي يعرضها للبيع: "سأقوم بنفس العمل الذي تراه أمامك يومياً، لأن عدم خروجي الى العمل بمعنى مواجهة الفقر والجوع".

هذا الانسان، مثل آلاف الآخرين، في الوقت الذي يكدح ويجاهد لأجل لقمة العيش الحلال، يحمل روحه على كفه وسط غابة موحشة مليئة بالألغام والمحاذير، لكن هذا لا يعني بأي حال من الاحوال أن روحه ودمه رخيصتين في بلد مثل العراق، فقد أميط اللثام أخيراً عن وجوه بشعة دفعت مليارات الدولارات لسفك هذا الدم العراقي، كما أميط اللثام ايضاً، عن وجوه وقفت متفرجة على مسرح الدم والموت اليومي، وما تزال، كما لو أن أمراً يفترض أن يحصل.

لندع "نظرية المؤامرة" جانباً، فلا فائدة – في الوقت الحاضر- من لوم الأيادي المحيطة بالعراق، والموغلة في دماء الاطفال والنساء والابرياء، ونبحث عن إجابة للسؤال الآنف الذكر في أروقة الوزارات ومكاتب النواب والمؤسسة الأمنية والعسكرية وحتى القضائية في العراق. لأن الناس يعدون المسؤولين في الدولة قد حصلوا على مناصبهم من خلال الاصوات التي أدلوا بها في صناديق الاقتراع. لذا فهم يحملونهم مسؤولية انعدام الأمن والاستقرار، قبل غيرهم، نظراً للامكانات والقدرات الكبيرة المتوفرة في بلد غني مثل العراق.

أحد سكان مدينة "المحمودية" جنوب بغداد، أكد حقيقة مؤلمة، عندما سألته عن الاجراءات الأمنية في منطقتهم، فأجاب: ان القوات العسكرية بسياراتها الفخمة ورجالها المدججين بالسلاح، تسيطر على الشارع العام بين بغداد والجنوب العراقي، بينما الطرق الفرعية والترابية المؤدية الى البساتين والحقول، فهي مفتوحة لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها..! طبعاً هذا حال "المحمودية"، وقطعاً فان حال المناطق الاخرى المحيطة بالعاصمة لا يختلف عنها بشيء.

لذا فان الاجراءات الروتينية، مثل "السونار"، والتحقق من البطاقات الشخصية، او أرقام السيارات أو حتى التفرّس في وجوه الناس، الى جانب غلق الطرق والمعابر بشكل دائم أو مؤقت، باتت تثير لدى الشارع العراقي تساؤلات عن حقيقة هذه الاجراءات الأمنية، وما اذا كانت هنالك نية صادقة لوضع حدٍ لمسلسل الموت في العراق.. فالعراقيون يخسرون يومياً آباء وأبناء وبنات وأخوة، وهؤلاء يشكلون لبنات المجتمع، ومن المفترض أن يكونوا عامل بناء وتغيير وتطوير، لا أن يتحولوا الى مناسبة للحزن والخيبة والهزيمة النفسية. بينما يلاحظ الناس في الجهة المقابلة، جهات أو جماعات، مستأنسة من عملها الاجرامي الذي تواجه به الحكومة دون أن تخسر شيئاً، فهي تبعث الرسائل تلو الاخرى على أنها قادرة دائماً على زعزعة الامن والاستقرار وقت ما شاءت، ولا قدرة للدولة على صد تحركاتها بشكل نهائي، والمثير للدهشة حقاً، الصمت المطبق إزاء هذه الرسالة الرهيبة والعجيبة.

وفي مقالات سابقة ذكرنا – كما أورد ذلك كثيرون- ان مصادر ومنابع الارهاب ليس من المستحيل تجفيفها والقضاء عليها، وهذا ما فعلته العديد من الأنظمة التي واجهت التحدي الأمني، حيث وفرت قدراً كبيراً من فرص العمل، وكافحت الفقر والحرمان وسرّعت من وتيرة الخدمات، الى جانب العامل المعنوي وإثارة الروح الوطنية والدينية، وكل ما يجتمع عليه المجتمع. وإذن؛ فمشكلة الارهاب أو الجماعات الارهابية، ليست متعلقة كاملةً بقرارات هذه العاصمة الاقليمية او تلك، او بالاموال التي ترصد للعمليات الارهابية، كما تشير الى ذلك الحكومة العراقية، وتروج له وسائل الاعلام الموالية، إنما بحاجة الى إعادة نظر شاملة الى مجمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية في العراق.

ورغم الافكار المطروحة في هذا الاتجاه، إلا إن عدم وجود بوادر تحرك نحو العمل بهذه الافكار التي ربما لا تكون بعيدة عن المسؤولين انفسهم، هو الآخر يثير تساؤلات لدى الشارع العام، عن الفائدة التي يجنيها هذا الشعب من تقديمه يومياً قوافل الشهداء الى جانب المصابين والمعوقين.. فهل هناك حرب مقدسة يخوضها ضد عدو واضح المعالم؟ وهل ان الشهداء الذين يحملون على الأكف يومياً، يصنفون في عداد "شهداء المقاومة"؟ أم "شهداء التحرير"؟ أم تصنيف آخر درجت عليه شعوب عديدة في العالم، وهي تفتخر بأن لها أعداد كبيرة من الشهداء ضحوا بانفسهم ليعيش الاخرون بسلام وخير وتقدم؟

من المؤكد أن لا شيء يحصل عبثاً في هذا العالم.. فمشاهد القتلى والجرحى في الشوارع والابنية المهدمة والسيارات المحترقة وعموم الخسائر المادية، وزعزعة الامن والاستقرار، كل ذلك يمثل تضحيات غالية وجسيمة في العراق، لكنها بالحقيقة عبارة عن "ضحية" لأطراف تقف خلف الستار تستفيد من إطالة أمد هذه المشاهد المريعة بشكل أو بآخر. ربما أهم وأبرز الفوائد، تحقيق الذات والأنا على أرض الواقع، و ربما يتبادر الى الاذهان، الى هذه الصفة، محصورة في الانسان الفرد، بينما لها مصاديق في الاحزاب والجماعات والتيارات وحتى الشرائح الاجتماعية، وكل تجمع يواجه تحدي البقاء أو الزوال، فيحاول استخدام كل ما في جعبته من سهام وأدوات لمواجهة الخصم او حتى المنافس.

فاذا كان الوضع الأمني في العراق في هذا الاتجاه – والحال كذلك- ، فالشعب العراقي يكون هو صاحب الكلمة الفصل، فيما اذا تحركت مؤسساته المدنية وشرائحه المثقفة والواعية صوب المسؤولين المعنيين لوضع حد نهائي لهذه المسرحية الدامية. ودليلنا على أن هذا ليس من المستحيلات، هو إعلان الحكومة وبكل شجاعة عن قرارها تزويد الشعب العراقي بالطاقة الكهربائية دون انقطاع هذا العام، وهو ما كان في عداد المستحيلات في هذه الفترة الزمنية على الأقل. طبعاً؛ كان للصوت المعترض والاحتجاجات الجماهيرية دورها في تعجيل المسؤولين بإنهاء هذه الأزمة التي دامت عقد من الزمن. فليس من المستحيل حل أزمة الأمن والاستقرار في العراق، وهي مسألة لا تهم المناطق المستهدفة حالياً، إنما هو مطلب كل عراقي يعيش على تراب هذا الوطن، فاذا كان ابن كردستان وابن الانبار وابن البصرة والفرات والاوسط، يعتزون بارضم ووطنهم، فانهم بالقطع يعتزون بدمائهم وأرواحهم ولا يفرطون بها، ولا أجد أحداً يدّعي القيمة العليا للتراب والوطن على دم الانسان و روحه، وهذا ما يجب تتبناه الحكومة العراقية، وتدعو له، ويا حبذا في القريب العاجل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 30/تشرين الاول/2013 - 25/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م