السلطوية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: العبد هو من لا يطمح أن يكون حرّاُ بل أن يكون سيِّداً... غابرييل لاوب

في زيارتي لاحدى الجامعات العراقية، قرأت لافتة صغيرة معلقة على ابواب الغرف في احدى كلياتها، كانت اللافتة تقول (يمنع غلق الابواب على الموظفين) ورغم ذلك وجدت كثيرا من الابواب المغلقة... ذكرتني تلك العبارة بالاية الثالثة والعشرين من سورة يوسف (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك).

لست في وارد التفسير او التاويل للاية كما يعبرون عن ذلك في الاشتغال القرآني، ولست في وارد المدح او القدح من جانب اخلاقي، ما اريد الاشارة اليه تعليقا على اللافتة هو (اعلان - اضمار) النسق السلطوي لثقافتنا التربوية، وهي (سلطوية ارتيابية) في هذا المقام.

في مقدمة كتابه (السلطوية في التربية العربية) والصادر عن عالم المعرفة منذ سنوات، يكتب الدكتوريزيد عيسى السورطي، (ان التربية التي تقوم على العنف، والتعسف، والقهر، والتسلط، ومصادرة الحرية، هي اقصر الطرق لتحطيم الفرد، وتدمير المجتمع)..

هل تلاحظون طريقة وقوف (الشرطي – الجندي) في نقاط التفتيش؟

بعيدا عما يرتديه من زي او يحمله من اسلحة او ادوات (رمز السلطة) له وقفته الخاصة وتلك الاشارة التي يلوح بها بيده اليمنى (غالبا) او (اليسرى) احيانا، وهي اشارة (آمرة – زاجرة) تطلب الوقوف او المسير، او تمنع من المرور نهائيا.

ما الذي يعنيه مرور سيارة عبر طريق اخر وعكس اتجاه السير ومن خلال نقاط التفتيش؟.. انها (سلطة اعلى) تكون هي (نفسها) او (محسوبة على غيرها)، تخترق حاجز (الامر – الزجر).

السلطة في غالب الاحيان، كما تعرفها السوسيولوجيا الاجتماعية، يتم تحديدها عبر وصفها (بالقدرة على فرض الارادة على اخرين).. ويقترح ماكس فيبر هذا التعريف للسلطة: (السلطة هي الحظ في فرض الارادة الخاصة وسط علاقة عامة، حتى لو صادف ذلك مقاومة الغير).

مثال اخر عن (السلطوية) في التربية العربية، ولكن هذه المرة من خلال النقيض، وهو المقاومة التي توجد في تعريف (السلطة).

احد اعمدة التدريس الاكاديمي العراقي، وكان محاضرا لعدد من طلبة الدكتوراة، احتج احدهم لتركيزه على (السوسيولوجيا الاجتماعية) وتكرار ذلك على اسماعهم، قال ذلك الطالب: لقد دوختنا تلك السوسيولوجيا.. الاستاذ لم يكن منه الا واجابه بقوله: انت عبقري ونابغة، لانك امتلكت القدرة على المقاومة والاحتجاج.. وهو درس يعلمه لجميع طلابه، ويطلب منهم ان يكونوا احرارا في بحوثهم وكتاباتهم دون رهبة او خوف من سلطات او سلطويات ادارية او معرفية.

ينطبق على هذا المثال التسمية الذي يقترحها اريك فروم على السلطة والتي يسميها: (السلطة العقلانية) والتي هي إدراك (أو وعي) السلطة على أساس تقييم جدارتها. ويوضح قائلا: (لا تقوم السلطة العقلانية على استبعاد عقلي و ملكتي النقدية بل تفترضهما عوضا عن ذلك كشرط مسبق. لا يجعل هذا مني صغيرا و من السلطة عظيمة بل يسمح للسلطة بأن تكون متفوقة عندما و طالما امتلكت الجدارة).

يجب التفريق هنا بين (السلطة) و(السلطوية)... السُّلْطَةُ هي التَّسَلُّطُ والسيطَرَةُ والتحكُّمُ.

يعرفها والتر بكلي: هي التوجيه أو الرقابة على سلوك الآخرين لتحقيق غايات جمعية، معتمدة على نوع ما من أنواع الاتفاق والتفاهم... او هي (قوة في خدمة فكرة)، إنها قوة يولدها الوعي الاجتماعي، وتتجه تلك القوة نحو قيادة الجموع للبحث عن الصالح العام المشترك، قادرة على أن تفرض على أعضاء الجماعة ما تأمر به.

السلطة مرادفة لمفهوم القوة، إلا أنها ليست القوة القهرية، بل القوة المقبولة اجتماعياً، لأن استخدامها يأتي في إطار البحث عن المصلحة العامة التي تهم كل أفراد المجتمع، لذا فإنها حق لبعض الأفراد لممارسة القوة وإصدار الأوامر والتعليمات.

ويعرّف الدكتور أحمد زكي بدوي السلطة، بأنها القوة الطبيعية أو الحق الشرعي في التصرف وإصدار الأوامر في مجتمع معين، ويرتبط هذا الشكل من القوة بمركز اجتماعي، يقبله أعضاء المجتمع بوصفه شرعياً، ومن ثم يخضعون لتوجيهاته وأوامره وقراراته، إلا أنه يشير إلى أن التركيز المفرط للسلطة أو عدم وجود رقابة شديدة على ممارستها، يؤدي إلى إساءة استعمالها، ويطلق على من يتصف بهذا الاتجاه أنه استبدادي، أي أنه لا يستمد سلطته من إرادة الشعب، بل يفرضها على الناس بالقوة.

قوة الفرض هذه هي مايمكن تسميته (السلطوية) التي نرى الكثير من مظاهرها في كل مكان فيه مجموعة بشرية (اسرة – مدرسة – مستشفى – دائرة – معمل – شركة – مؤسسة – ثكنة) الى اخر ذلك من وحدات مجتمعية.

السلطة تقوم على حق الاختيار، وعند اساءة استخدام هذا الحق فانها تتحول الى التسلط وتفرز مظاهرها السلطوية، والتسلط يقوم على الغلبة والقهر والاكراه..

بالعودة الى اريك فروم، فانه يميل الى تقسيم الشخصية السلطوية الى قسمين: الشخصية السلطوية المنفعلة والشخصية السلطوية الفاعلة... وحسب تعبيره فان (كلا هذين الشكلين من الشخصية السلطوية يمكن تعقبهما حتى نقطة واحدة أخيرة مشتركة هي النزوع أو الميل إلى التبعية).

وما يحدد جوهر الشخصية السلطوية هو (عدم القدرة على الاعتماد على النفس ، عدم القدرة على أن تكون شخصية مستقلة ، أو بكلمات أخرى ، غير قادرة أو عاجزة عن تحمل الحرية). عكس الشخصية السلطوية هو الشخص الناضج: شخص لا يحتاج إلى أن يلتصق بالآخرين لأنه يقبل و يفهم العالم بنشاط ، و الناس ، و الأشياء من حوله.

جوهر تلك الشخصية، والتي تختصر بالعجز عن تحمل الحرية، يعبر عنها الكاتب الالماني غابرييل لاوب (العبد هو من لا يطمح أن يكون حرّاُ بل أن يكون سيِّداً).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 28/تشرين الاول/2013 - 23/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م