الكتابة والثقافة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: العين مرآة الروح، بها نعي مايدور حولنا ونرتبط به حبا او كرها، نحبه فنقربه الينا او نقترب منه، ونكرهه فنبعده عنا او نبتعد عنه.. الناس يدركون الاشياء، ومنهم من يتماثل معها او يماثلها، وجميع الناس يتعاملون مع تلك الاشياء شغفا او مللا.

الشغف ابداع وابتكار، والملل روتين وتكرار.. او هو عاداتنا المتكررو والمكررة.. هل تنتج العادات استثناءاتها؟

في الثقافة، (الشيء لا يدرء نفسه) ، و(لا يقيم عوجه) والفارس (لايلاعب بسيفه) ، وهو غير حذق او ماهر، اي دون ثقافة.. انها لا تثقف نفسها دون واسطة، تحتاج الى اصابع خبيرة.. هل لهذا تشبه الاقلام اصابعنا ام ان الاصابع تشبه الاقلام؟ سؤال يمكن ان يعيد تشكيل حواس الانسان، لم لا؟ اليس القلم اقدم من الانسان في الخلق والتكوين؟ وبه تجمل القرآن بواحدة من اعاجيب لئالئه؟

عين، اصابع، قلم، اليس بها يدرك الانسان الاشياء ويكتبها؟ العين ترى، الاصابع تتوتر، القلم يكتب.. العقل مناط التكليف، وبه تميز الانسان، ورفع الحرج عن المجنون.. هل المجنون بلا عقل ام انه لايدرك؟

الكلمات مفاتيح المعرفة.. هل الصورة التي سبقت الكلمة الاولى مفتاح اخر؟ الا تكون فأرة الكومبيوتر مفتاح معرفة يفتح جميع الاقفال؟ ام انه يوصدها، لان الاصابع التي تمسك به لاتثقف الرماح او هي غير مدربة على ثقفها.. من يصبر على قراءة (صوت العدالة الانسانية) بمجلداته الخمسة، وامامه المائة والاربعة واربعون كلمة (تويتر) هي عنقود جمالنا وبهائنا وفخرنا وعزنا..

لماذا صوت العدالة الانسانية دون غيره؟

لسببين: الاول: صاحب هذا السفر الجميل صحفي لبناني متمرس في مجاله، كتب في جميع الفنون الصحفية واجاد.

الثاني: مسيحي الديانة والتعبد.

مثل غيره يمتلك نافذة الروح.. ومثل غيره يمتلك الاصابع التي تثقف السيف او الرماح، ومثل غيره يمتلك القلم الذي يكتب .. رأى وابصر.. توتر وامسك.. كتب فابدع.. كيف ذلك؟

ثقفت اصابعه السيوف غابة طويلة وممتدة، بعد ان ترك روحه تنفذ عبر تلك المرآة في اتجاهين، مرة الى الداخل ومرة الى الخارج.. وادرك في لحظة التقاء العبورين ان سيفه قد استوى قائما بنفسه.

الكتابة تاثيث للغة.. كيف ذلك؟

لايشاد البناء الا على اعمدة وجدران متعددة.. وظيفتها ان تتكيء عليها السقوف.. فلا بناء دون سقف.. ولايكتمل شكل مايبنى كجمالية معمارية داخلية الا عبر التاثيث.. الكتابة مثل ذلك.

احرف وكلمات تتشكل منها عبارات على اسطر زرقاء او متوهمة في الورقة..

انها ايضا تحتاج الى التاثيث.. هنا اريكة من التاريخ، وهناك مقعد للجغرافيا، طاولة للسياسة، اغطية وفراش متنوع للاقتصاد والاجتماع والعلوم الاخرى..مافائدة الكتابة دون تاثيث اللغة؟

الكتابة نكاح، كما يذهب ابن عربي في احدى مقولاته الصوفية، اللغة موضوع النكاح وغايته..

واذا توغلنا في التاويل، الناكح قد يكون عنّينا او عقيما، والمنكوح لايحبل او ينتشي من متعة النكاح.. مافائدة نكاح دون ولد او متعة؟

في الدراسات النفسية، الجنس موازي موضوعي للموت.. بها يتحدى الانسان مصيره المحتوم.. وهو مصير قاس ومؤلم، للراحل وللباقي منتظرا على الطريق..

في القرن الثامن عشر كانت كلمة ثقافة في فرنسا تشير الى التربية الادبية وكانت تقرن بالتقدم العالمي، والعقل المثقف هو الذي اكتسب العديد من المعارف في مجال الافكاروالعلوم والاداب والفنون..الانثروبولوجيا فرضت تعريفها الاكثر عمومية وشمل جميع العادات والقيم والايديولوجيات في المجتمع.. والثقافة بمعناها الواسع هي عبارة عن هذا المركب الذي يتضمن المعارف، العقائد، الفنون، الاخلاق، القوانين، العادات والاعراف الى جانب القدرات والعادات المكتسبة من جانب الانسان بوصفه عضوا في مجتمع.. كما تذهب الى هذا التعريف موسوعة العلوم الانسانية.

تحكي أسطورة أوديب قصة وقوف في عتبة: كان شخصٌ يعيش مغمَض العينين، ففتحهما، رأى ما رأى، لكن صوت القانون باعتباره مؤسسا للهوية، أرغمه على الإغماض، لتتحول الرؤية إلى حد بين إغماضين مختلفين، إلى فاصل بين هويتين: أوديب قبل تجربة فتح العينين ليس هو أوديب بعد هذا الفتح. الكاتب هو الإنسان يرى بعيني أوديب، والكتابة هي الإبصار بهذه العين.

أن يصير المرء كاتبا هو بالضبط أن يفتح عينيه، عيني أوديب، فيبصر أنه : «بيضة قشرتها المنفى وبياضها العزلة، وصفارها القلق»، هكذا عرف السوفسطائيون الفلسفة.

 الكاتب، هو أن يباشر سفرا مزدوجا، من عمق الجسد إلى سطح اللغة ومن عمق اللغة إلى سطح الجسد... كما يذهب الانثروبولوجي المغربي محمد اسليم في مقالته (الكتابة والموت).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 27/تشرين الاول/2013 - 22/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م