العجز المالي الأمريكي وابتزاز المحافظين الجدد

علي الأسدي

 

رئيس مجلس النواب السيد بونر بدعم من الأعضاء الأكثر تشددا في حزبه الجمهوري (مجموعة حزب الشاي) يقف ضد التشريع الذي اقترحه الرئيس أوباما ووافق عليه مجلس الشيوخ القاضي بشمول أكثر من نصف الشعب الأمريكي من ذوي الدخل المحدود بالرعاية الصحية المدعومة من قبل الدولة.

ومع أن التشريع قد صودق عليه من قبل المحكمة العليا الأمريكية في عام 2012 لكن المحافظين في مجلس النواب يصرون على استثنائه من التخصيصات المالية في الميزانية العامة 2013- 2014 التي قدموها لمجلس الشيوخ. الرئيس والأكثرية الديمقراطية في مجلس الشيوخ رفضوا اقرار الميزانية المالية ما دامت لم تتضمن تخصيصات التأمين الصحي وأعادوها الى مجلس النواب.

وهنا ظهرت المشكلة الدستورية التي وضعت الحكومة الأمريكية في مأزق، ففي السابع من أكتوبر الحالي وهو أخر موعد للموافقة على الميزانية قد مضى دون حصول الموافقة. وبذلك تكون الحكومة في حالة عجز مالي جزئي يتعذر عليها بسببه تمويل النفقات على بنود كثيرة من بينها المنافع الاجتماعية ورواتب تقاعدية لرجال الجيش السابقين وخدمات موظفي أجهزة ادارية وفنية خدماتية حكومية يبلغ عدد موظفيها حوالي 900 الف فردا. وتبلغ قيمة المستحقات المتوقفة عن الدفع 107 بليون دولارا للفترة بين 7\10 - 15\11 نوفمبر\تشرين الثاني القادم.

ووفق الدستور الأمريكي فان دفع رواتب هؤلاء تتوقف الى أجل يحدد لاحقا، بعد أن تجاز الميزانية المالية. الجمهوريون يصرون على موقفهم وكذلك الديمقراطيون، وليس في الأفق ما يمكن اعتباره حلا وسطا.

وتؤكد جهات مسئولة في مجلس الشيوخ أنه لو يتم طرح مشروع الميزانية على التصويت الحر في مجلس النواب لحصلت الموافقة على إقرار الميزانية بأكثرية الأصوات وتنتهي الأزمة، لكن رئيس المجلس وفريقه المتشدد يرفضون طرحها للتصويت الحر. حيث يصر رئيس مجلس النواب على استخدام التصويت الحزبي الذي يلتزم الأعضاء الجمهوريون بالتصويت وفقه انطلاقا من كونهم أعضاء الحزب الجمهوري، ويبدو حتى الآن أن رئيس المجلس غير مستعد للمساومة على هذا الموقف.

قد يتساءل بعضنا، لماذا هذا التشدد من جانب رئيس مجلس النواب وفريق المحافظين الجدد.؟

انها المصالح المالية والعنصرية. فأكثرية المتشددين في الحزب الجمهوري ترتبط بكبار شركات التأمين والمصارف، وهذه مهيمنة على القطاع الصحي، فهي تنتفع كثيرا فيما لو بقيت الحال على ما هي الآن. أكثرية الشعب الأمريكي مضطرة للتأمين لدى تلك الشركات بطريقة أو بأخرى للحصول على العلاج والدواء في حالة المرض أو العجز. بمعنى ان العلاج والدواء متاحا فقط لمن له القدرة على الدفع، بدون ذلك وببساطة شديدة يجب أن تتحاشى المرض، واذا حصل ومرضت فأنت سيئ الحظ، وبخاصة اذا كنت عاطلا عن العمل.

الجانب العنصري له دوره هنا أيضا، فمواقف اليمين المتشدد من سياسات الرئيس أوباما باعثها الكراهية للملونين، وقد حاولوا اسقاطه من خلال التشكيك بشرعية مواطنته الأمريكية واشياء أخرى. ولهذا يتعمدون الاضرار بسلطته من خلال افتعال المبررات للمواجهة معه ومع حزبه. واغلاق الحكومة كما يسمونه هو النتيجة المباشرة لذلك. لكن الحالة الراهنة ليست الأولى، فقد حدث مثيلها في عهد الرئيس كلينتون وهو من الحزب الديمقراطي، ومع أن الجمهوريين قد فشلوا وتصدعت سمعتهم حينها، لكنهم لم يستفيدوا من الدرس، وها هم اليوم يعيدون نفس الخطأ.

غلق الحكومة الحالي مسألة دستورية كان يمكن تحاشيها بكل سهولة لولا استغلالها لأسباب سياسية من قبل معارضي الرئيس أوباما. الاجراء الدستوري الحالي منصوص عليه في الدستور بغرض وضع الحكومات الأمريكية ضمن حدود يصعب تخطيها دون تصحيح السياسات المالية التي أوقعتهم في المأزق.

والأزمة الحالية اذا ما طال أمدها فسيكون لها انعكاساتها الخطيرة على الثقة التي يوليها العالم في الاقتصاد الأمريكي. لقد صرح الرئيس أوباما حول الموضوع بالقول " ان الجمهوريين جعلوا من الاقتصاد الامريكي رهينة مالم نوافق على الشروط التي يضعوها ".

لكن المسألة الأكثر خطورة التي ينتظرها العالم بقلق شديد وترقب وحذر بالغ هي الفترة من الآن وحتى 22 اكتوبر\ تشرين أول الجاري، وهو آخر موعد للبت في موضوع رفع سقف الدين العام. بدون رفع سقف الدين قبل ذلك الموعد فسيتعذر على الخزانة الأمريكية تعويض النقص في الموارد المالية للايفاء بالتزاماتها تجاه الدائنين من حملة سنداتها المالية التي اصدرتها في السنوات السابقة وكذلك لتغطية النفقات الحكومية الاعتيادية.

ومن المتوقع أن يكرر مجلس النواب نفس اللعبة التي يلعبها مع موضوع الميزانية فموافقته على رفع سقف الدين العام ستكون مشروطة بتنازلات من الرئيس والحزب الديمقراطي. أما التنازلات التي سيطالبون بها فهي تراجع الرئيس عن قراره بزيادة الضرائب على الأثرياء التي يعتبرها مهمة ملحة للحكومة الأمريكية كمصدر أهم لخفض العجز المزمن في الموارد المالية الذي يميز أكثرية الميزانيات الحكومية لفترات طويلة سابقة.

فزيادة الضرائب التي يصر الرئيس على تنفيذها ضرورية أيضا لتقليص حجم الدين العام. الجمهوريون يمارسون نفس الموقف الذي اتخذوه في السنوات السابقة، فقد عارضوا رفع سقف الدين العام أربعة مرات، مرتين في عام 2008 ومرتين في 2009، وتحت نفس الشروط،وهي عدم زيادة الضرائب على دخل الأثرياء بحجة أن ذلك يسبب البطالة ويؤدي الى هروب الاستثمارات الى خارج الولايات المتحدة.

لكن الحكومة الأمريكية مجبرة وليست مخيرة، فهي ملزمة بدفع فوائد الدين العام بالاضافة الى أقساط الدين نفسه الذي بلغ حتى شهر مايو\أيار الماضي 16،699 تريليون دولار، بما يعادل 73% الناتج القومي الاجمالي، أي حوالي ضعف ما كان عليه الدين عام 2007. ويقدر أن يرتفع الدين العام الى 17،3 تريليون دولار هذا العام اذا ما وافق مجلسي الكونغرس (النواب والشيوخ) على رفع حده الأعلى.

لقد سبق لمجلسي الكونغرس في السابق أن رفع حدود الاقتراض 77 مرة، وقد حدثت الموافقات على رفع سقف الدين العام دون مصاعب تذكر، لكن منذ عام 2010 وبعد أن خسر الديمقراطيون الأكثرية في مجلس النواب أصبحت الموافقات على مشاريع الميزانية موضع خلاف ومساومات وتعقيدات بين الحزبين. وقد اعتبر الجمهوريون أن فوزهم بأكثرية اعضاء مجلس النواب دليلا على رفض الشعب الأمريكي لسياسة الديمقراطيين والرئيس أوباما وبالأخص مشروع الرعاية الصحية الذي ارتبط باسمه.

 وتعود أسباب تزايد الديون الأمريكية في السنوات الأخيرة الى زيادة الانفاق الحكومي الذي اضطرت اليه في عام 2007 عندما حلت الأزمة المالية التي سببت عجزا كبيرا في الموارد المالية الحكومية مقارنة بنفقاتها. فقد اضطرت الحكومة الفيدرالية حينها لضخ تريليونات الدولارات للبنوك والاقتصاد لضمان الاستقرار المالي.

لكن تزايد الديون كان وما يزال ظاهرة عامة في السياسة الاقتصادية الأمريكية، فمنذ 1980 والدين العام في تزايد، مما يعكس ضعف فعالية السياسات الاقتصادية للحكومات الأمريكية المتعاقبة، وما يرتبط بها من سياسات استثمارية في الاقتصاد الانتاجي داخل وخارج الولايات المتحدة بدليل العجز شبه الدائم في الميزانين التجاري و ميزان المدفوعات.

 ان معالجة العجز المالي بالاستدانة من السوق المالي الدولي أو المحلي ليس بالأمر الغريب في السياسة المالية لأي دولة من الدول، لكن الغريب هو استمرار العجز عاما بعد عام دون أن توضع السياسات المناسبة لخفضه التدريجي ومن ثم الانتقال الى تحقيق الفوائض المالية. فواقع المديونية الأمريكية بحجمها الحالي ومعدلات تزايدها يشكل عبئا ثقيلا على الاقتصاد الوطني ويبطئ من معدلات نموه.

دون أن نتجاهل حقيقة أن الاستدانة من السوق المالي داخليا كان أو أجنبيا تشكل مصدرا اضافيا لزيادة التراكم الرأسمالي عندما تشح الموارد المالية الحكومية لأي سبب. فهي كمصدر مالي لزيادة الاستثمارات في مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني حيث تزداد بنتيجتها فرص العمل فتنخفض معدلات البطالة هيكلية كانت أو دورية أو انتقالية أو موسمية.

لكن السؤال: هل بإمكان الحكومة الأمريكية الاستعانة بالأدوات المالية والنقدية الداخلية دون الاستدانة من السوق المالي..؟

الاجابة: نعم في المدى الطويل، لكن ليس في الأمد القصير والمتوسط في ظل الحالة الأمريكية الراهنة. فباستطاعة وزارة الخزانة الأمريكية اذا ما أجاز لها مجلسي الكونغرس زيادة الضرائب على الدخل أو الاستهلاك من جانب، وتخفيض الانفاق الحكومي العام من الجانب الآخر أي التقشف الاقتصادي أو كليهما معا يمكنها حينها من تسوية العجز المالي في الأمد الطويل.

وبحسب تصريح وزير الخزانة الأمريكي غيتز فانه حتى لو استخدمت الوسيلتين معا فان الأموال المتحصل عليها لن تكون كافية للايفاء بالالتزامات الحكومية. ولهذا السبب فان رفع سقف الدين يشكل ضرورة لا غنى عنها لتتمكن الخزانة من التعويض الجزئي للعجز المالي في الميزانية المالية السنوية ودفع الفوائد للدائنين الأجانب والأمريكيين.

الخشية الأكبر هي عدم حصول موافقة الجمهوريين على رفع سقف الدين العام، وعندها لن تكون الخزانة الأمريكية قادرة على دفع مستحقات الديون في المواعيد المحددة. يعنى ذلك من الناحية الدستورية حلول حالة نكث التعهدات التي قطعتها الحكومة الأمريكية عندما اقترضت الأموال من السوق المالي. بعبارة أخرى " اعلان الافلاس "، وهي الحالة التي لا تتمنى أي دولة في العالم بلوغها، لأنها بذلك تفقد ثقة المؤسسات المالية والدول الأخرى بسنداتها المالية وأسهم شركاتها وعملتها النقدية.

رد الفعل المباشر من قبل المؤسسات المالية الدولية على "حالة الافلاس "لو حصلت هو احجامها عن شراء السندات المالية الأمريكية بنفس مستوى أسعار الفائدة السائدة، مما سيدفع الحكومة الأمريكية الى رفعها لتشجيع المؤسسات المالية على شراء سنداتها. من دون ذلك لا تستطيع الحصول على الأموال اللازمة لحاجتها، لكنه بنفس الوقت سيعني زيادة في تكاليف الاقتراض لأنه سيحمل الدولة أعباء اضافية بالغة الضرر على النمو الاقتصادي.

ليس هذا فحسب، فان قيمة الدولار الأمريكي وهو العملة الرئيسية للاحتياطيات النقدية لدول العالم ستتعرض للهبوط لفقدان المؤسسات المالية والدول والأفراد الثقة بالاقتصاد الأمريكي الذي هو ضمانته الوحيدة.

كما سيعم الفزع في الأوساط المالية والنقدية في أنحاء العالم الذي سيدفع حملة الدولار وسندات الحكومة الأمريكية على التخلص منها عبر البيع بأسرع وقت، لكن تهافت الناس على بيع ما بحوزتهم منها سيقود الى انهيار قيمتها أكثر فأكثر. وكنتيجة لكل هذا سيزداد الطلب على العملات الأخرى كاليورو والفرنك السويسري والكرونة الاسكندنافية وعلى الذهب والمعادن الثمينة الأخرى مما يدفع الى ارتفاع أسعارها في العالم.

الرئيس الأمريكي قد يتجاوز معارضة مجلس النواب لرفع سقف الدين العام تحاشيا لحالة الافلاس فيقوم بالاستدانة للايفاء بالتزامات بلاده المالية وبذلك يتحاشى انجرار الاقتصاد الأمريكي والعالمي الى أسوء أزمة اقتصادية ومالية ونقدية يواجهها. لكن قرارا كهذا ليس دستوريا قد يقود الرئيس الى المحاكمة لمخالفته الدستور الأمريكي.

أما الاجراء الآخر المقبول مرحليا وهو طبع المزيد من النقد الأمريكي لتوفير السيولة الضرورية للايفاء بالالتزامات المالية. تنفيذ هذا الاجراء سيدفع بالاقتصاد الى حالة تضخمية ترتفع فيها الأسعار والأجور بمعدلات قد تخرجها عن السيطرة اذا لم توازيها اجراءات احترازية ضابطة.

لكن بنفس الوقت قد تقود الى استعادة الاقتصاد الأمريكي عافيته وتعيد ثقة السوق الدولي فيه. ففي التاريخ الأمريكي حالة مشابهة أضطر اليها الرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت الى طبع آلاف التريوليونات من الدولارات غير المغطاة ابان أزمة الركود الكبير فترة 1929 – 1939، وقد نجح بفضلها من اعادة الاقتصاد الى النمو من جديد والسير به نحو الرخاء والتنمية الاقتصادية. الفقراء وحدهم وأولئك الذين لا يملكون شيئا هم الأهدأ بالا والأكثر اطمئنانا، وكما يقول المثل الشعبي العراقي " المفلس في القافلة آمن ".

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/alialasidy.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 20/تشرين الاول/2013 - 15/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م