من هم الأثرياء حقا؟!

مئة كلمة وكلمة في قواعد الحياة

 

شبكة النبأ: توجد في كتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين، الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، قواعد للفكر والسلوك، يمكنها، فيما لو التجأ إليها الفرد والمجتمع، أن تفتح مسارات صحيحة لهذا البناء، شريطة الالتزام بالتطبيق بعد الايمان بها، وهي من نوادر الحكم وجواهر الكلم، وكلنا نتفق على ان الانسان يحتاج الى قواعد صحيحة للبناء، لكي يبني حياته بالصورة الصحيحة، وطالما ان المجتمع يتكون من مجموع الافراد وتقاربهم مع بعض، فإن المجتمع برمته يحتاج الى تلك القواعد السليمة حتى يبني عليها حياته، وهذه القواعد موجودة في نهج البلاغة، إذ تهدف سلسة مقالات (مئة كلمة وكلمة)، أن تصل الى قواعد تساعد الانسان على البناء السليم، لاسيما اننا نعيش في عالم محتقن، تحكمه ضوابط ومصالح وأخلاقيات مادية بحتة.

الثراء لا ينحصر في تراكم المال واتساع الثروة وتعدد الموارد المالية، إنما هناك انواع اخرى للثراء، تتعلق بالجانب المعنوي والروحاني، وقد يستغرب بعضنا عندما يلتقي شخصية قوية متوازنة واثقة توحي بالقدرة على التأثير في الآخر، لكنها فقيرة الحال، فيما نلاحظ بعض الاغنياء بالمال لا يتمتعون بالتوازن والثقة بالنفس والقدرة على التأثير بالآخرين، بسبب ضعف شخصياتهم واهتزازها، كونها تتقن جانبا واحدا من الحياة، قد ينحصر في مجال جمع المال والبخل وعدم تطوير الذات في جوانب الحياة الاخرى، كالصبر والزهد والورع والرضى، هذه الصفات التي تجعل الانسان من الاثرياء فعلا، والقادرين على التأثير والتفاعل مع الاخرين لتطوير الواقع، وفتح آفاق المستقبل أمام الجميع، بالصورة التي تساعد وتمهد لبناء مجتمع متماسك قادر على مواكبة مستجدا العصر دائما.

الصبر شجاعة والزهد ثروة

في الحكمة العظيمة التي ترد في (نهج البلاغة) للامام علي بن ابي طالب عليه السلام، سنلاحظ وصفا دقيقا للصبر ومكانته في بناء قدرات الانسان وشخصيته، كذلك الزهد الذي يمثل ثروة حقيقية للانسان، فالثراء الحقيقي لا ينحصر بالمال ولا يتمثل به فقط، بل هناك ثراء معنوي أهم من الثراء المادي. على اننا لا نلغي ولا نعترض على الانسان الذي يبحث عن الثروة المادية بالطرق المشروعة، أي بالعمل الحلال والانتاج الامثل ومراعاة حقوق الآخر.

كذلك هناك تأكيد على أهمية الابتعاد عن العجز في أي مجال كان، لان العجز آفة تدمر شخصية الانسان وتشل طاقاته الكامنة وتحيّد قدراته كافة، وتحيل حياته كلها الى نوع من السبات والسكون والخمول المتواصل، في حين يساعده الصبر على تجاوز المحن والاشكاليات التي تعيق عمله ومسيرة حياته، أما الزهد فيجعله مكتفيا بما لديه ولا يمكن أن يفكر بالتجاوز على حقوق الآخرين مهما كانت المبررات، فالانسان الزاهد هو ذلك الانسان الذي يكتفي بما لديه، بل غالبا ما يجود بما عنده على الاخرين، ويساعدهم في سد احتياجاتهم، فضلا عن شعوره بالاكتمال وامتلاكه لحصانة الذات التي تمنعه عن التفكير بالمكاسب المادية، او الوقوع تحت تأثير المادة واغراءاتها كما يحدث مع الانسان غير المحصّن.

يقول سيد البلغاء الامام علي عليه السلام في هذا الشأن: (الْعَجْزُ آفَةٌ وَ الصَّبْرُ شَجَاعَةٌ وَ الزُّهْدُ ثَرْوَةٌ وَ الْوَرَعُ جُنَّةٌ وَ نِعْمَ الْقَرِينُ الرِّضَى). هكذا يمكن للعجز أن يتحول الى آفة تدمر قدرات الانسان كافة، وتشل طاقاته، وتحيّد مواهبه، وتحيله الى العجز والشعور بالكسل، وهو امر لا يتفق مع مزايا الشخصية الصابرة الزاهدة الشجاعة، التي تتمكن من مواجهة العثرات والهفوات بكثير من الصبر والزهد والحكمة والعمل الجاد لبناء الذات والمجتمع في وقت واحد.

التصالح مع الذات

قد يرى بعضهم ان حياتنا المادية المتسارعة، لا تستوعب مثل هذه القيم الاصيلة، خصوصا اننا نعيش في عصر السرعة، هذا العصر المادي البحت كما يبدو، حيث يعتمد كل شيء على المال، وهو امر ربما يسبب اشكالات كثيرة لمن يريد التعامل مع الاخرين وفقا لمزايا الصبر والزهد والرضى، بيد أن الوقائع تشير الى غير ذلك!.

لقد أثبتت دلائل كثيرة على أن الفشل الذي يتعرض له الانسان، أي انسان كان، وفي أي مجال كان، مبعثه الاشكالية القائمة مع الذات، أي عدم شعور الانسان بالتصالح مع ذاته والقبول بها، والتصرف وفقا لقدراته ومزاياه، ثم القناعة بما لديه، أو بما يكسبه من موارد، وهذا ما يسمى بحالة (الرضّى)، كما نقرأ في الحكمة المذكورة سابقا.

فعندما يقول الامام علي عليه السلام (ونعم القرين الرضى)، هذا يعني ان افضل الاوضاع النفسية والفكرية والعملية التي يمكن ان يعيشها الانسان، تتحقق في رضى الانسان عن نفسه وذاته وحياته ويقنع بما لديه، مع الابقاء على الطموح المشروع قائما، ونعني به الطموح لتطوير حياة الانسان وذاته وعائلته ومجتمعه، ولكن ينبغي أن يقوم التطوير والسعي له على أساس المبادئ الصحيحة والقواعد التي تؤكد سلامة نوايا وافعال الانسان، إذاً ينبغي توافر حالة من التوازن بين ما يطمح اليه الانسان، وبين قناعته بما يتحقق له.

هكذا ينبغي أن تتشكل شخصية الانسان وفقا للقيم التي تساعده على تحقيق اهدافه، من خلال الصبر كونه شجاعة، ونبذ العجز كونه اشكالية تحد من قدرات الانسان، واعتماد الزهد كطريقة لدحر مغريات الحياة الخطيرة، ثم التصالح مع الذات ورضى الانسان بما لديه حتى يعيش في محيطه معينا ومساعدا للآخرين وليس عبئاً عليهم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 10/تشرين الاول/2013 - 4/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م