عزاء الفلسفة

حاتم حميد محسن

 

كتاب عزاء الفلسفة كُتب في القرن السادس الميلادي وهو من أشهر واكثر الاعمال عمقاً للثيولوجي المسيحي والفيلسوف بوثيوس (480-524). قام بوثيوس St. Boethius بتأليف هذا العمل العظيم حينما كان في السجن وقبل وقت قصير من تنفيذ العقوبة الظالمة بحقه.

ان كتاب عزاء الفلسفة اتخذ شكل حوار بين بوثيوس و"السيدة فلسفة" حيث يناقش مختلف القضايا الهامة ذات الثقل الاجتماعي مثل الاخلاق وطبيعة الله وعلاقة الله بالعالم ومشكلة الشر والطبيعة الحقيقية للسعادة.

كان لعزاء الفلسفة صدىً واسعاً وتأثيراً كبيراً في القرون الوسطى وعصر النهضة، حيث انشغل به الفلاسفة والمؤرخون والثيولوجيون والشعراء وقاموا بدراسته بشكل مكثف. ولازال الكتاب حتى اليوم يحظى بالاهمية الكبرى بين القراء.

ان الكتاب الثالث من عزاء الفلسفة وهو الكتاب الرئيسي والاطول من بين الاجزاء الخمسة يبدأ بالاغنية الفلسفية الاخيرة التي وردت في الجزء الثاني. وعلى طول الخط، يخبرنا بوثيوس ان اغاني الفلسفة امتزجت باروع المقاطع الموسيقية، ذلك لأن الموسيقى هي صناعة فلسفية.

لقد اصبح بوثيوس اكثر حيويةً، وان النقاشات المقنعة التي وردت في الكتاب الثاني جعلتهُ مستعداً للمزيد من العلاجات وقادراً على مواجهة تحديات المصير. الفلسفة اذاً تبلغ بوثيوس ان موضوع محاضرتها القادمة سيكون حول السعادة الحقيقية. السعادة التامة والحقيقية يمكن بلوغها فقط عبر حيازة الخير الاسمى الذي تتجسد فيه جميع الخيرات الاخرى. جميع الكائنات الانسانية ترغب بالسعادة الحقيقية لكن الاكثرية من الناس ينقادون الى الخطأ عبر الرغبة بالاشياء الخيرة الزائفة والمؤقتة.

تستمر الفلسفة بتوضيح ما يعتبرهُ اغلب الناس اشياءً خيرة. التحرر من الحاجة (الثروة)، الاحترام(الشرف)، السلطة، او الشهرة، او مجرد المتعة، او تلك الرغبات المركبة والملتبسة، مثل الرغبة بالثروة لأجل السلطة والمتعة، او السلطة لأجل النقود والشهرة، وحتى اولئك الذين يرغبون بالشراكة الزوجية والاطفال لأجل المتعة. الجمال وقوة الجسد يمنحان السلطة والاحترام وهما شكلان من تلك الرغبات. جميع هذه الرغبات هي لأجل السعادة.

غير ان المشكلة التي تبرز هي حينما تتعامل الانسانية مع هذه الخيرات كهدف نهائي او كممر للسعادة. حالة السقوط من جنة عدن جسدت سعي الانسان للسعادة في هذه الخيرات الوضيعة والتافهة والمتعددة بدلاً من السعي نحو الخير المطلق لله.

قبل ان ينشد بوثيوس والفلسفة انشودتهما القريبة من الله- مصدر جميع السعادات، تمر الفلسفة في كل من هذه الخيرات الارضية المفترضة. الثروة حالما تتم حيازتها تصبح مصدراً للقلق. الجمال الفيزيقي والقوة هما شكل من الوهم تخلقه رغبة الاخرين برؤية الجمال في الجسد. كذلك، الجمال الجسدي والقوة يتلاشيان بسرعة بفعل عامل الزمن والمرض. الرجل في الموقع الوظيفي الاعلى ينال الشرف والاحترام لكن الموقع الوظيفي لا يمنح الحكمة او الفضيلة لمن يمسك به. الفلسفة تؤكد في العادة ان الوظيفة العليا تخلق الفساد والانحطاط بدلا من السمو بصاحبها. الاخلاق لها قيمة داخلية حالما تُنجز، ستمنح قيمتها لمن يحوز عليها، لكن الشيء ذاته لا يصح على الوظيفة العليا. اذا كان لدى الملك او المسؤول سلطة، فان الاكتساب المستمر للمزيد من السلطة سيجلب المزيد من السعادة. ولكن لا توجد هناك امبراطورية على الارض تحكم كل الانسانية، لذا فان الحاجة المتأصلة للسلطة في السلطة ذاتها تمنح عدم السعادة لمن لديهم السلطة.

في الجزء الثاني من الكتاب الثالث تبدأ الفلسفة بشيء من التحذير، "الشهرة، في الحقيقة هي شيء مخجل ومخادع". هي تجادل بعدم وجود ما هو اكثر خجلاً من الشهرة غير العادلة. ايضا، شهرة الكائن البشري لا يمكن ان تنتشر لجميع الناس في العالم، تماما كما هي السلطة لا يمكن ان تحكم كل البشر. كذلك فان شرف العائلة لا يمكن ان يمنح الفضيلة ، الاً في المعنى السلبي كونها تشجع النبيل لعدم التفريط بذكريات الاسلاف.

اما المتعة الجسدية فهي تحظى بأقل الاهتمام من جانب الفلسفة. هي تنظر اليها بعدم التقدير وترى ان السعي نحو المتعة مليء بالقلق وان تحقيقها مدعاة للخيبة والحزن. انها ليست صحية، حتى تلك المتع الزوجية او حب الاطفال ايضا تجلب العديد من الاحزان. وبما ان هذه الاشياء الخيرة ليست تامة ، فهي غير قادرة على اعطاء السعادة التامة لأي كائن بشري.

يتفق بوثيوس والسيدة فلسفة على ان اي او جميع هذه الخيرات الارضية لا يمكنها جلب اي قياس للسعادة الحقيقية، ولذلك يستمران في التساؤل حتى بعد مرحلة الكفاية"sufficiency"التي تشبع رغبة الانسانية بالسعادة الحقيقية. هنا يبدأ بوثيوس بطرح برهان جزئي عن وجود الله. بما ان بوثيوس والفلسفة يتفقان على ان الانسانية ترغب بالسعادة الحقيقية، فان ذلك المستوى يعني ان هناك خير مطلق. السيدة فلسفة اثبتت ان لا شيء من الخيرات الارضية ولا جميعها تشكل خيراً مطلقاً، وعليه فان شيء ما خارج الارض يجب ان يكون هو الخير الاعظم.

السيدة فلسفة تربط الكفاية بالقوة، فهي تقول بما ان الوجود الكافي في كل الاشياء(لم يعد يرغب باي شيء اخر) سيكون قويا بما يكفي ليعيش بمعزل عن الهموم الارضية. لذلك، فان الشيء الكافي سوف لن يحتاج الى شيء، وسيمثل قوة عظمى وبذلك سيستحق الاحترام العميق.

جميع هذه الشروط للسعادة النقية تتخذ مختلف التسميات لكنها تشتمل على نفس الجوهر. يرى بوثيوس ان هذا الوجود السعيد والمكتفي هو الله. الوحدة التي ينجزها الله هي جوهر الرغبة بكل الاشياء. بوثيوس والفلسفة ينهيان الكتاب الثالث بانشودة تطلب المساعدة في العثور على الطبيعة الحقيقية للسعادة.

تحليل

ان حجة"عدم الاكتمال" للشهرة والسلطة ربما تبدو ضعيفة للقارئ الحديث. اين الاعجاب والتقدير لما يمتلكه المرء من اشياء جميلة؟ لماذا طبقا لبوثيوس والسيدة فلسفة لا نستطيع ان نكون سعداء ببعض السلطة والشهرة او ببعض الجمال الجسدي والقوة، حتى لو لم نمتلك كل هذه الاشياء بشكل دائم وتام؟.

يرى بوثيوس ان عدم الكمال في هذه الخيرات يبيّن كم هي ناقصة بالفعل. اشباع اي من هذه الرغبات هو مجرد رغبات خاطئة نحو سعادة الله الحقيقية التي يمكن الحصول عليها بشكلها التام والكلي. ربما هناك بعض الثغرات في جدال بوثيوس ولكن ينبغي النظر الى حوارات بوثيوس في سياق ايمانه المسيحي.

لماذا، على سبيل المثال، لا نستطيع اعتبار تحقيق بعض الاشياء الخيرة كالشهرة والنقود او قوة الجسد مصدراً للسعادة الحقيقية المستمرة على الارض، على الاقل حتى موعد الموت والانتقال الى الله؟ يرى بوثيوس ان لا وجود لكائن بشري دون رغبات بعيدة، وان اي اكتساب لهذه الرغبات الارضية انما يشجع الناس فقط على طلب المزيد منها. وبينما نجد بعض الناس مطمئنين بقناعتهم في الحاجات الاساسية، الا انهم لم يُخلقوا سعداء بالحصول على هذه الخيرات الارضية، وانما فقط عبر مصدر روحي للسعادة. لذا سيكون حتى اولئك الافراد غير الجشعين لا يزالون عاجزين للوصول للسعادة على الارض.

ربما يبدو هذا للبعض نقاشا متشائما، ملقيا اللوم على الطبيعة الانسانية. يجب الاشارة الى ان بوثيوس اعتبر ايضا اي سعادة على الارض ستمثل انكاراً لله وهي الفكرة التي لم يكن راغبا في الافصاح عنها بسبب مسيحيته- الاقتراح بان الكائن البشري يمكنه ان يكون سعيداً بمعزل عن الله سيجعل من الانسان مردافا من حيث القداسة لله حسب بوثيوس.

ان البرهان على الله الوارد في هذا الكتاب اعتبرهُ معظم الثيولوجيون برهانا جزئيا ولم يكن هو الموضوع المركزي للكتاب. يؤمن بوثيوس ايماناً مطلقاً بوجود الله، وان قرّاءه يتفقون معه. غير ان البرهان يرتكز على عدم كفاية الرغبات المؤقتة، وهو في الواقع برهان سلبي. وبسبب انه غير ارضي فهو يجب ان يكون روحيا. غير ان البرهان صمم بعناية وبجمالية عالية. ولا يمكن اعتبار البرهان خاطئاً فقط لأنه سلبي. نقاشه حول الجمال البدني والمتعة الجسدية لا ينال موافقة اغلب القراء. ان نقاش بوثيوس بشكل عام يوازن بشكل دقيق بين عدم كفاية الرغبات الارضية وبين تحقيقها، الهيكل العام للنقاش يبدو سليماً.

ان الانتقال من الرغبة بالسعادة الحقيقية الى وجود الله لم يكن مفاجئاً. حيث بُني ذلك بعناية طوال الكتاب الثالث ويركز بدقة على رفض اي نوع من السعادات الارضية الممكنة. قضايا الالحاد او الاشكال الروحية الاخرى للسعادة لم تُناقش في الكتاب حيث ان وجود الله لم يكن هو موضوع الكتاب، بل هو الاستنتاج المنطقي لمتحدثين اثنين يؤمنون سلفا بوجود الله. التركيز هو على الجدال المنطقي حول الرغبات الارضية التافهة.

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/hatimhameed.htm

........................................

 كتاب عزاء الفلسفة The Consolation of Philosophy صدر عام 2007 للكاتبة اليزابيث سمث عن دار GradeSaver™ في الولايات المتحدة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 9/تشرين الاول/2013 - 3/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م