التدريب على التفكير

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لماذا نتأخر حين يتقدم الاخرون؟.. سؤال رسخ له اجوبة متعددة في الواقع الثقافي العربي والاسلامي، بعد ان حضرت اثاره في السياسة والاقتصاد والاجتماع، واصبحنا اسرى لهذا الواقع، ومن حيث لانستطيع تغييره..

في كل حديث عن تاخرنا تبرز نظرية المؤامرة كسبب ومبرر ناجز لهذا التاخر والنكوص، ومنهم من يذهب الى تفسير وتبرير اخر، حين يعلق كل شيء بالقدر المرسوم لنا، واننا اسرى اقدارنا ومهما فعلنا لانستطيع تغيير تلك المسارات التي رسمت لنا من قوة عليا مسيطرة، وهنا تنتفي المسؤولية عنا ونعيش وضعا مطمئنا مستسلما خانعا. فليس في الامكان احسن مما كان..

كيف يمكننا ان نتغيّر وان نغيّر مانعيشه من واقع بكل استلاباته وبكل مخاوفه وكل احباطاته؟

في النظر الى الصورة او اللوحة، وهي تعبير مجازي عن كل الاحداث في حياتنا (سياسية – ثقافية – اقتصادية – اجتماعية) والحياة هي لوحة كبيرة مترامية المساحات والالوان، والضوء والظل، عادة مانميل الى التركيز على نقطة في تلك اللوحة او الصورة حين ننظر اليها، دون ان ندرب اعيننا على تفحص كل المساحات فيها، ويدخل في ذلك حتى الاطار الذي يحيط باللوحة، والذي يكشف عن جودة الصنع او رداءته، ونوع نسيجه ومادته..

تنحصر اعيننا في جزء صغير، وهذا الجزء نعتقد انه يمثل كل اللوحة او الصورة، انطلاقا من موروث ثقافي راسخ ، تعمل فيه الرمزيات بشكل مكثف تؤسس لسلطات القراءة والفهم والتحليل..

انظر الى جزئية من اللوحة والتسمر امامه، قد يكون هذا الجزء سارا او محزنا، منظما او عشوائيا وابني عليه استنتاجاتي واخرج من خلاله بحصيلة اعتقد انها الحصيلة النهائية، ولا ابقي الباب مفتوحا امام الاحتمالات الاخرى لزوايا مغايرة في اللوحة او الصورة تلك..

الموروث الثقافي بكل حمولاته يقدم لي اجوبة جاهزة لكل الاسئلة المفترضة التي اطرحها او افكر في طرحها، لكن هذا الموروث في حقيقته تكون اجاباته هي نفسها لاسئلة ثابتة متكررة هي نفسها التي تشكل وعينا وعقولنا وفهمنا لكل مايحدث وما يدور حولنا.. انه الاطمئنان الى تلك الاجوبة، حيث لاجهد يبذل في تحصيلها، غير جهد السؤال المطروح، وهو ايضا جهد مسترخي غير شاق او متعب، فليس فيه من كدح الى رب انت ملاقيه..

الاسئلة البسيطة والمتكررة ليست بوابة لمعرفة جديدة، وليست مغامرة، ونحن لانمتلك القدرة او الرغبة في ان نغامر باسئلتنا، لان المغامرة تتطلب رغبة في التعرف على المجهول، والمجهول نخاف منه، لاننا لانعلم عنه شيئا، وهو غير مريح بالنسبة الينا والى اوضاعنا التي نريدها ان تكون مستقرة وساكنة.

حين ندرب اعيننا على النظر الى اللوحة او الصورة، ونتنقل بين اجزائها والوانها، فاننا ندرب عقولنا كذلك على امتلاك القدرة على ارتياد فضاءات ومساحات جديدة، وباستمرار هذا التدريب وتواصله، ننتقل بالعين من مجرد كونها اداة باصرة الى اداة متبصرة، اي الانتقال من البصر الى البصيرة.. الاول تختص به العين كوظيفة فسيولوجية لها، الى الثاني حيث العقل والتفكير..

ومثل العين في وظيفتها الاولى، هناك الاذن وحاسة السمع، والتي هي اداة التضليل والتلاعب بالعقول بامتياز.. فكثيرا مانعتمد في تحليلنا للوقائع والامور على السماع المجرد لما ينقله الاخرون لنا، دون ان نتوقف لمساءلة مانسمعه، او ننظر اليه بالعين البصيرة لفهمه وتحليله..

يمكننا ان نستكشف العلاقة بين العين والاذن بوظائفهما المتعددة، الفسيولوجية والمعنوية من خلال قول الامام علي (عليه السلام) حين قال: (المسافة بين الحق والباطل اربعة اصابع، الباطل ان تقول قد سمعت والحق ان تقول قد رأيت.

والحق هنا لايعني به شيئا محسوسا قد تمسكه باصابعك، انه التصور والاعتقاد الذي ينبني في عقلك نتيجة البصيرة.. فالظلم والعدل والكرامة لايمكن الامساك بها باصابعنا، بل يمكننا رؤيتها بعقولنا ونحن نراها باعيننا البصيرة، التي هي نافذة العقل والروح للمعرفة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 6/تشرين الاول/2013 - 29/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م