العطاء لتحقيق الأمان من واقع الإسلام

قبسات من فكر سماحة المرجع الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: المال في العلاقة بين المجتمع والدولة، يشكل نقطة ضعف ومنطقة هشّة قابلة للاختراق، وربما تؤدي أدواراً سلبية – لأسباب موضوعية- فتعزز من وجود حاكم طاغي وظالم، ونظام ديكتاتوري غاشم، من خلال شراء الذمم والمواقف. وفي الجانب الآخر تسفر عن خسارة فادحة لكرامة المجتمع، أو ربما تسبب اهتزاز في جدار الأمن الاجتماعي بفقدان المساواة واستفحال الطبقية، ثم بروز ظواهر عنيفة من قبيل السرقة والسطو والاختطاف والابتزاز وغيرها.

هكذا ينظر الكثير من الناس الى عنصر المال في علاقتهم مع الدولة.. فالمسيرة الى الإثراء والحصول على المال الوفير من خلال المنصب او الامتيازات او غيرها، يشبه الى حد كبير، حبل السيرك الذي يسير عليه "البطل"، فإذا اثبت شطارته وحقق توازنه بين اليمين والشمال، تمكن من العبور الى الجانب الآخر، وحُظي بإعجاب الناس واحترامهم، وإلا سقط ، وسقطت معه شخصيته وهيبته. وإذن؛ المسألة برمتها عبارة عن شدّ أعصاب ، وتوتر دائم.

لكن يبدو هنالك خيار آخر أوفر ضمانة للراحة والاستقرار النفسي والاجتماعي و السياسي، وهو انتهاج سبيل العطاء للجميع دون استثناء، حتى المعارض والخصم اللدود ايضاً. وقد ثبت أن هذا هو الذي يضمن الامن الاجتماعي والامن السياسي على السواء، وهذا ما يبشر به سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- في كتابه "السياسة من واقع الإسلام"، حيث يشير الى السياسة التي اتبعها الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، في بداية تشكيله الدولة الاسلامية، وكيف أنه ضمن الأمن الداخلي، ليتفرغ في ساحة المواجهة مع العدو  الخارجي، وهم الكفار والمشركين من خارج مكة والمدينة.

يقول سماحته: "ويعطي للكفّار أيضاً، تأليفاً لقلوبهم وردعاً لهم عن المؤامرات ضد الإسلام والمسلمين". وهؤلاء ممن كانوا بين ظهراني المسلمين وقد أعلنوا الاسلام كرهاً، مثل رؤوس الشرك من قريش في مكة، وفي مقدمتهم "أبي سفيان" وأشباهه، والعطاء هنا، ليس من الملك الخاص للنبي، إنما كانت من الغنائم التي يحصل عليها الجيش الاسلامي في معاركه وغزواته مع العدو الخارجي.

يذكر المؤرخون أنّه، صلی الله عليه و آله، أجزل العطاء من غنائم "حنين" حتى لأعداء الإسلام، مثل أبي سفيان، وابنه معاوية، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وهمام ـ أخي سهيل ـ ومالك بن عوف، وعلقمة بن علاثة، فكان، صل الله عليه و آله، يعطي الواحد منهم مائة من الإبل ورعاتها..

وجاء في "أعلام الورى" وفي "السيرة النبوية" لابن هشام:

"..ثم رجع رسول الله صلی الله عليه و آله، إلى الجعرانة بمن معه من الناس، وقسم بها ما أصاب من الغنائم يوم حنين، في المؤلفة قلوبهم من قريش ومن سائر العرب، ولم يكن في الأنصار منها شيئاً قليلاً ولا كثيراً.

قيل: إنه جعل للأنصار شيئاً يسيراً وأعطى الجمهور للمنافقين.

وقد ذكر "ابن هشام" في سيرته عدداً من اسماء الكفار والمنافقين الذي شملهم العطاء النبوي، ممن كانوا بالأمس القريب يحاربون النبي والاسلام وأوغلوا في دماء المسلمين في بداية الدعوة الى الاسلام. وعدّ (19) اسماً في مقدمتهم: أبا سفيان ومعاوية ابنه، وحكيم بن حزام ـ من بني أسد بن عبد العزى ـ و النضر بن الحارث بن كلدة، والعلاء بن حارثة الثقفي ـ حليف بني زهرة،  ـ مائة بعير. وأعطى الحارث بن هشام ـ من بني مخزوم ـ مائة. وجبير بن مطعم ـ من بني نوفل بن عبد مناف ـ وآخرين، وقد حصل كل واحد منهم على مئة بعير، فيما بعض منهم الى خمسين بعير لاعتبارات اجتماعية يدركها النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله. علماً أن سماحة المرجع في كتابه يستشهد بأسماء أخرى جاءت في "سيرة ابن هشام"، من المنافقين والمتأسلمين من سائر قريش والقبائل العربية، وذلك تأليفاً لهم ولأقوامهم – يقول سماحته- ويضيف سماحته بالقول: "وهذا نموذج واحد من سياسة العطاء التي كان يمارسها رسول الله صلی الله عليه و آله في أيام تأسيس الحكومة الإسلامية الأولى على وجه الأرض. ولعل هذا فريد من نوعه في تاريخ البشر عامة، فإنّ البعير الواحد ذلك اليوم كان يعد ثروة للإنسان، تماماً مثل من يملك اليوم سيارة فخمة أو نحوها، بل وأكثر من ذلك.. فالبعير الواحد كان بمثابة سيارة، كما كان يؤكل لحمه، ويشرب لبنه، ويلبس وبره. مثل ما لو أعطى شخص هذا اليوم لكل واحد من رؤساء المعارضة بعد خضوعهم وبعد قدرته عليهم خمسين سيارة أو نحو ذلك.."

ولعل هذه السياسة التي هي حقاً من واقع الإسلام، يجب أن يتبعها – يقول سماحته- "كل من يسير على خط رسول الله، صلی الله عليه و آله، ويريد تثبيت دعائم الإسلام على وجه الأرض، بالحب والكلمة الطيبة، كما كان يفعل رسول الله صلی الله عليه و آله، لا بالعنف والسيف كما يفعله الاستعمار اليوم". وهي التجربة التي ربما يمكن أن تأخذ مكانها في الساحة العراقية، حيث نشهد بداية تشكل ونمو دولة تعلن أنها قامت على أنقاض نظام ديكتاتوري وظالم، بمعنى أنها تطمح لأن تقدم النموذج الأفضل والأحسن بين دول المنطقة.

والسؤال الذي ربما يدور في خلد البعض، هو جدوائية هكذا سياسة في ظروف معقدة كالتي نعيشها في العراق وفي المنطقة بشكل عام.. لاسيما وأننا نشهد العطاء من قبل الدولة لجميع الشرائح الاجتماعية، بغض النظر عن انتمائها القومي والطائفي والعرقي، كما جرت هنالك محاولات لاستيعاب الموتورين من ضباط وموظفين ومستفيدين من النظام البائد، تحت يافطة "مجالس الصحوات" في المناطق التي اخترقتها التنظيمات الارهابية القادمة من وراء الحدود. إلا ان هذه المحاولة هي الاخرى لم تؤتي ثمارها الحقيقية، لأن العنف والروح الطائفية وانفجار السيارات المفخخة وسفك الدماء ما زال جارياً دون توقف.

فاين الخلل والمشكلة؟ ولماذا لم تنفع ملايين الدولارات التي أعطيت لهذا وذاك، في المحافظات المشحونة بالتوتر مثل الانبار والموصل وصلاح الدين وديالى، في قطع الأيادي التي تفخخ السيارات وتعد للعمليات الارهابية الدموية بشكل يومي ومنتظم في العراق؟

يمكننا ملاحظة فقرة هامة وحساسة جداً في هذه السياسة النبوية الرامية الى تحقيق الأمن والاستقرار.. في نفس الفصل الذي يتحدث فيه سماحة المرجع الشيرازي، عن جزيل العطاء النبوي للمنافقين والمسلمين بالظاهر، يتحدث عن حالة المديونية التي كان يعيشها النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، حتى آخر حياته، فما السبب في ذلك يا ترى.. ونحن نقرأ أنه كان يعطي أعدائه الإبل بالمئات..؟

في الوقت الحاضر، هنالك حكومة في العراق ومؤسسات دولة، لها ميزانيات ضخمة من الواردات السخية للنفط العراقي، التي تعد اليوم بمليارات الدولارات. ثم نسمع بمنح حفنة من الاموال لهذه الشخصية أو تلك الجماعة، او لشيخ عشيرة ما.. خلال حفلات ضيافة في بغداد، مع تغطية اعلامية لامعة، وكم هائل من المجاملات والوعود والتطمينات بأن يكون الجميع بسلام وفي حال أفضل، ولن يكون هنالك أي تمييز، والجميع يشاركون في القرار من اجل العراق الواحد.

إلا ان أمراً واحداً يبدو ما يزال معلقاً، وهو الشعور الذي ينتاب الشريحة المستهدفة بالعطاء في العراق حالياً، أنها بالحقيقة تستجدي العطاء من الحكومة، وما تحصل عليه هو لشراء صمتها وموقفها أو على الاقل، تحييدها في ساحة الصراع التي تخوضها الحكومة والدولة الفتية في العراق مع اطراف اقليمية ودولية ساعية لتضعيف العراق وبقائه في دوامة العنف والموت.

وبكلمة.. فان النموذج الذي يقدمه لنا الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، في نزع فتيل الازمات الداخلية وإخلاء النفوس المريضة من النوايا العدوانية، هو تحقيق أسمى وأرقى حالات التوزيع العادل للثروة. ولذا ينقل لنا سماحة المرجع الشيرازي عن حالة المديونية التي كان يقصدها النبي في أيام حياته، فكان بامكانه وبكل سهولة، أن يبقي لنفسه بعض الاموال او ينشئ له رصيداً – كما هو الحال اليوم- ليسد بها حاجاته الاساسية – على الاقل- إلا ان العطاء الجزيل والتوزيع المستمر لأي وجبة غنائم دون تأخير، كان السمة العامة لسياسة العطاء تلك..

لنتصور النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، يرتحل عن دار الدنيا، ودرعه مرهونة على نفقه أهله، وهو ما يروى عن الإمام الصادق، عليه السلام، عن أبيه الإمام الباقر عليه السلام، أنه قال: "إن رسول الله صلی الله عليه و آله لم يورث درهماً ولا ديناراً، ولا عبداً ولا وليدة، ولا شاة ولا بعيراً، ولقد قبض صلی الله عليه و آله وإن درعه مرهونة عند يهودي من يهود المدينة بعشرين صاعاً شعيراً استلفها نفقة لأهله".

ويضيئ سماحته نقطة اخرى في هذا السياق، حيث يصحح النظرة السلبية المطلقة عن "الدَين"، وينقل حديثاً شريفاً: "الدين همّ بالليل وذل بالنهار"، يقول: هذا واحد من تصريحات رسول الله صلی الله عليه و آله. لكن هذا هو الدَين الذي يستدينه الإنسان لشهواته. وهناك دَين آخر هو عز بالليل، وفخر بالنهار. وهو الدَين للإسلام والمسلمين.

إذن؛ من يريد كسب الرأي العام وتحقيق الأمن والاستقرار، عليه أن لا يتوقف عند نثر بعض الاموال والسيارات والعقارات والمناصب لهذا وذاك، إنما العلاج الحقيقي والناجع، هو التضحية بالجاه والسمعة الكبيرة، والنزول الى الشارع بكل تفاصيله وتفرعاته، وتحسيس كل مواطن عراقي، بأن له سهم وحصة من ثروات العراق، وبامكانه التمتع بها، من خلال مشاريع تنموية او استثمارات او خدمات وغيرها. عندئذ تقل فرص إعداد المكائد والدسائس والمؤامرات في داخل وخارج العراق، لأن العراق في هذه الحالة عبارة عن جسد واحد ومصلحة مشتركة تجمع عامة الناس، ثم تكون المرحلة المتقدمة، وهي التفكير في مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية الخارجية، بروح وطنية عالية، وهذا ما تمضي فيه الشعوب الناهضة والمتقدمة في العالم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 3/تشرين الاول/2013 - 26/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م