شبكة النبأ: يعد اقتصاد الولايات
المتحدة الأكبر والأكثر تنوعا وحيوية في العالم، وذلك نتيجة اعتماده
على السوق الاستثمار الحر والمنافسة التجارية، حيث يتعامل الاقتصاد
الأمريكي مع الاقتصاد العالمي بصورة مباشرة وبالتالي فأنه يتأثر بحالته
نموا وتراجعا.
لكن في الوقت الراهن تضرب الاقتصاد الأمريكي موجة من الاضطرابات
والمشكلات الاقتصادية أبرزها معضلة تراكم الديون، كونها شكلت أهم
المؤشرات المقلقة التي تلقي بظلالها على آفاق النمو المرتقبة للاقتصاد
أمريكا خلال المستقبل القريب، وهذا الامر قد ينذر بانكماش جديد ستكون
له انعكاسات خطيرة على الاقتصاد العالمي.
حيث خلقت هذه المشكلة المستعصية -الدين الفيدرالي- جدلا سياسيا حادا
بين الادارة الديمقراطية والمعارضة الجمهورية في الولايات المتحدة،
خصوصا بعدما دعا الرئيس الاميركي باراك اوباما الكونغرس الى تبني
موازنة للعام 2014 وتفادي بذلك اقفال مؤسسات فدرالية، مكررا انه لن
يتراجع امام اصلاح القطاع الصحي الذي يخوض الجمهوريون معركة ضده، وهو
ما اتضح من خلال قوله : "لا تسقطوا الحكومة، لا تسقطوا الاقتصاد، صوتوا
على الموازنة في الوقت المحدد، سددوا فواتيرنا في اوقات استحقاقها"،
محذرا ايضا من ان تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها التي ستبلغ
سقفها في 17 تشرين الاول/اكتوبر، سيكون له عواقب "في العالم اجمع".
واكد ان "الجمهوريين في مجلس النواب مستعجلون جدا لارضاء حزب الشاي
الذي هدد باقفال الدولة الفدرالية، او اسوأ من ذلك ايضا، اذا لم الغ
القانون حول القطاع الصحي او اخفض نفقاته، قلتها بالامس وارددها: هذا
لن يحصل"، واضاف اوباما ان ذلك سيكون بمثابة عرقلة "محرك الاقتصاد في
لحظة بدأ فيها هذا المحرك بالانطلاق".
وحذر اوباما ايضا من انه لن يتفاوض مع خصومه حول سقف الدين الذي
سيرتفع حتما من الان وحتى موعد السداد لتفادي تخلف عن السداد سيكون
سابقة في تاريخ الولايات المتحدة، وقال "لن اتفاوض حول المسؤولية التي
تعود للكونغرس في تسديد الفواتير التي تراكمت حتى الان. التصويت للسماح
لوزارة الخزانة بتسديد فواتير اميركا ليس تنازلا او خدمة. انه مسؤولية
النواب"، وقال "لا احد يمكنه تهديد حسن النية وسمعة الولايات المتحدة
فقط بهدف الحصول على تنازلات سياسية".
إذ يبدي أوباما الجديد زعامة أكثر جرأة منذ إعادة انتخابه، وذلك من
خلال معاركه المريرة المتجددة مع الجمهوريين بشأن الاقتصاد وهو ما تجسد
من خلال أقواله وأفعاله مؤخرا، إذ يرى المحللون بأن ممارسات أوباما
تظهر الثقة المتزايدة لرئيس يشعر الآن بحرية أكبر في مواجهة كونجرس
جديد دون أن تكون لديه أي مخاوف مرتبطة بالسعي لإعادة انتخابه، وكانت
فترته الأولى قد شهدت شكاوى من قاعدته الليبرالية من تهاونه الشديد مع
الجمهوريين، الا انه اليوم اظهر وجها سياسيا اخر لا يعجب الجمهوريين.
وقد بدا الديموقراطيون والجمهوريون في الكونغرس الاميركي مباحثات
شاقة حول اعتماد موازنة، لكن الكونغرس منقسم بين مجلس نواب غالبيته من
الجمهوريين ومجلس شيوخ يهيمن عليه الديموقراطيون، وغالبا ما يجد الوضع
حلا له في اللحظة الاخيرة، لكن الجمهوريين يرفضون هذه المرة تمويل
الدولة ما دام اصلاح القطاع الصحي للرئيس والذي يعارضونه، يبقى ممولا.
وفي حال لم يتفق الكونغرس في مجلسيه (النواب والشيوخ) من الان، فان
مئات الاف الموظفين لن يتوجهوا الى اعمالهم، ويشبه الوضع الحالي ما حصل
في خريف 1995 عندما واجه رئيس ديموقراطي اخر هو بيل كلينتون كونغرس كان
خاضعا في تلك الفترة للجمهوريين الذين سيطروا على مجلسي النواب والشيوخ
اثناء الانتخابات التشريعية في 1994، وتستثنى من اجراء الصرف هذا
المؤسسات الاساسية (جيش واف بي آي وقضاء وامن قومي ومراقبة جوية ...)،
لكن البرامج التي تعتبر غير اساسية ستقفل.
من جهته حذر وزير الخزانة جاكوب لو في رسالة الى البرلمانيين من انه
"اذا وجدت الحكومة نفسها في نهاية المطاف عاجزة عن تسديد كل فواتيرها،
فان النتائج قد تكون كارثية".
دعم استثنائي
على صعيد متصل اعلن الاحتياطي الفدرالي الاميركي (البنك المركزي انه
ابقى على دعمه الاستثنائي للنهوض الاقتصادي اضافة الى معدل فائدته
الرئيسية القريب من الصفر، بحسب بيان لجنة السياسة النقدية، وسيواصل
الاحتياطي الفدرالي شراء سندات خزينة وسندات داعمة للقروض العقارية بما
يوازي 85 مليار دولار شهريا معتبرا ان "تضييق الشروط المالية حاليا قد
يبطىء، اذا استمر، وتيرة النهوض الاقتصادي وسوق العمل"، وهذا القرار
الذي اعترضت عليه مرة اخرى داخل اللجنة رئيسة المكتب المحلي في كانساس
سيتي استير جورج، فاجأ المحللين الذين كانوا يتوقعون خفضا متواضعا
لعمليات ضخ السيولة.
ولفتت لجنة السياسة النقدية في الاحتياطي الفدرالي في بيانها الى ان
الاقتصاد تحسن بوتيرة "معتدلة" بدلا من وتيرة "متواضعة" كما وصفها
البيان السابق في نهاية تموز/يوليو، لكن الاحتياطي الفدرالي يبدي قلقه
من ان "معدلات الفوائد على القروض العقارية زادت ايضا" وان "السياسة
المالية تكبح الاقتصاد".
واعلن البنك المركزي الاميركي ايضا انه خفض توقعات النمو للعامين
2013 و2014 مع تحسين توقعاته بشان البطالة بشكل طفيف، وكان الخبير
الاقتصادي لدى بنك دويتشيه جوزف لافورنا اعلن "نعتقد ان لجنة السياسة
النقدية في الاحتياطي الاميركي ستبدأ تقليصا متواضعا لدعمها المالي".
وهو ما جعل الخبير الاقتصادي جيم اوسيليفان يعتبر ان "استقرار
الاسعار الاساسية هو على الارجح كاف ليبدا مسؤولو الاحتياطي عملية خفض
دعمهم المالي". ويتوقع هذا الخبير تسارعا طفيفا في ارتفاع الاسعار
لتبرير الوقف الكامل لضخ السيولة في الفصول القادمة.
ويعتبر معظم المحللين ان الاحتياطي الفدرالي سيقرر بالتالي بدء سحب
دعمه بتقليصه بما بين 10 و15 مليار دولار، ويرى الخبير الاقتصادي مايكل
غيرغوري ان "متغيرات المعطيات الاقتصادية والنقاش حول سقف الدين (..)
وتقلب الاسواق الناشئة تدفع باتجاه +خفض مصغر+" لدعم الاحتياطي
الفدرالي للاقتصاد.
ونظريا يتراس برنانكي اجتماعين اثنين للجنة السياسة النقدية
للاحتياطي في تشرين الاول/اكتوبر وكانون الاول/ديسمبر قبل تسليم منصبه
لخليفته، وبعد التخلي المفاجىء عن لاري سوميرز المرشح المفضل لدى
الادارة الاميركية المستشار الاقتصادي السابق للرئيس باراك اوباما، فان
جانيت ييلين نائب رئيس الاحتياطي هي المرشحة الابرز للمنصب. وهي تعتبر
من "الحمائم" من قبل مراقبي الاحتياطي الفدرالي اي انها اقل انشغالا
بالتضخم وتركز اكثر على البطالة.
يتعين على باراك اوباما ايجاد خلف لبن برنانكي على رأس الاحتياطي
الفدرالي الاميركي في حين لا يحتاج البنك المركزي على الاطلاق الى خضات
عندما يبدا عملية انتقالية حساسة في سياسته النقدية.
فبعد خمسة اعوام من ازمة 2008 الناجمة من الطفرة العقارية والقروض
المتعثرة (ازمة الرهن العقاري)، لا يزال الاقتصاد الاميركي يخضع لرعاية
الاحتياطي الفدرالي الذي يستعجل وقف ضخ السيولة في النظام المالي.
ولم يحافظ البنك المركزي الاميركي على معدل فائدته الرئيسية قريبا
من الصفر منذ نهاية 2008 وحسب، بل ينفق 85 مليار دولار شهريا عبر سندات
خزينة وسندات رهن عقاري، وهي طريقة اخرى للضغط على خفض معدلات الفوائد
وتشجيع النشاط الاقتصادي.
وقد ادى ذلك بالاحتياطي الفدرالي الى مكان مجهول اذ جمد اصولا في
موازنته تفوق قيمتها ثلاثة الاف مليار دولار مقابل اقل من 900 مليار
قبل ستة اعوام. وقد افادت هذه السياسة ايضا وول ستريت التي استانفت
تسجيل ارقام قياسية ولكنها تترنح منذ تطرق بن برنانكي الى خفض الاموال
السهلة.
وفي هذا الاطار، سيتفاوض بن برنانكي بحنكة حول خروجه عبر البدء
بتليين سياسة الدعم الاستثنائية للاقتصاد.
والحملة في اوجها اليوم على خلافته، ويتردد اوباما الذي يعود له -
مع موافقة الكونغرس - تعييين من يصفه بانه "احد ابرز المسؤولين
السياسيين في العالم"، بين مرشحين اثنين هما جانيت يلين وهي نائبة رئيس
البنك المركزي، ومستشاره الاقتصادي السابق لاري سامرز، ويتم التداول
همسا بمرشح ثالث هو دونالد كون (70 عاما) وهو نائب سابق لرئيس
الاحتياطي الفدرالي، وفي حال تعيين يلين (67 عاما) فانها ستصبح اول
امراة تتولى رئاسة الاحتياطي الفدرالي، وهي تعرف البنك المركزي حيث
امضت ثلث ايام مسيرتها العملية.
عجز تجاري
فيما ظهر تقرير لمجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي)
أن اقتصاد الولايات المتحدة نما بوتيرة "محدودة إلى متوسطة" في أغلب
أنحاء البلاد، وكانت البيانات قوية بما يكفي لتعزيز احتمال تقليص
برنامج البنك للتحفيز النقدي. ويتوقع المستثمرون أن يبدأ مجلس
الاحتياطي الاتحادي تقليص برنامجه لشراء السندات الذي تبلغ قيمته 85
مليار دولار شهريا.
الى ذلك اشارت ارقام نشرتها وزارة التجارة الاميركية الى ان تفاقم
العجز التجاري في الولايات المتحدة فاق المتوقع في تموز/يوليو وفق
الوتيرة الشهرية وخصوصا حيال الاتحاد الاوروبي والصين، وتراجع الميزان
التجاري الاميركي مرة اخرى بفعل العجز في مبادلات السلع (58,6 مليارا)
في حين اعلن قطاع الخدمات عن فائض بقيمة 19,4 مليارا، بحسب الوزارة،
ويعود التفاقم المسجل في تموز/يوليوعموما الى زيادة الواردات (+1,6
بالمئة لتصل الى 228,6 مليارا) مصحوبة بتراجع الصادرات (-0,6 بالمئة
لتصل الى 189,4 مليارا)، وفقا لمعطيات الحكومة.
وتسعى ادارة الرئيس باراك اوباما منذ سنوات الى خفض الخلل في
الموازين التجارية مع الصين التي تتهمها واشنطن بممارسات غير مشروعة
وبخفض سعر صرف عملتها عن سعرها الحقيقي لدفع صادراتها، وقبل شهرين سجل
عجز الولايات المتحدة ايضا مستوى قياسيا مع الاتحاد الاوروبي، ابرز
شريك تجاري لها، بحيث تضاعف في غضون شهر ليصل الى 13,9 مليار دولار،
وهكذا بلغت قيمة الواردات من اوروبا مستوى غير مسبوق من 35,1 مليارا
بزيادة 17 بالمئة وفق وتيرة شهرية، واطلق الطرفان في تموز الماضي
مفاوضات تجارية ثنائية ترمي الى اقامة احدى اكبر مناطق التبادل الحر في
العالم.
وعليه يرى البعض أن مكافحي الركود الاقتصادي قد خرجوا بالفعل الى بر
الامان بينما يرى آخرون أن انكماشا اقتصاديا جديدا قد يحدث قبل الوصول
الى ضوء في نهاية الطريق المظلم، وباتت هذه المسألة مثار جدل بين
الخبراء والأشخاص العاديين على حد سواء.
لذا تشير المعطيات آنفة الذكر بان الاقتصاد الولايات يعاني في هذه
المرحلة من حالة كساد قد تفاقم من حدة الأزمة الاقتصادية في الوقت
الراهن، على الرغم من جهود مكافحي الركود الاقتصادي، لأخرج اقتصاد
امريكا الى بر الأمان، تبقى حلولهم لا تخلو من المشاكل وربما لا يبعد
اقتصاد امريكا كثيرا عن دائرة الخطر في المستقبل القريب، وهو ما يطرح
سؤالا هاما هو: هل يخرج الاقتصاد الأمريكي الى بر الامان؟. |