تعارف الحضارات وتقابسها عبر التاريخ

صادق جواد سليمان

 

في الأعوام التي تلت نشر صموئيل هنتنجتون، أستاذ دراسات الحوكمة بجامعة هارفرد الأمريكية مقاله الجذري صدام الحضارات في مجلة الشؤون الخارجية عام 1993، راجت أطروحته القائلة بأن طبيعة الصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة تتحول من صراع ما بين دول إلى صراع ما بين حضارات. بتعبير آخر، الحضارات، أكانت أحادية الدولة، كما الصين أو الهند أو اليابان، أو متعددة الدول، كما الحضارة الغربية أو الحضارة الإسلامية، هي التي، بكليتها، ستكون أطراف الصراع في النزاعات العالمية القادمة. منذ ذاك مال كثير من الناس لقراءة مظاهر التأزم الراهن بين الغرب والعالم الإسلامي، كمظاهر صراع محتد بين الحضارتين: الإسلامية والغربية.

في نسق معارض لهذه الأطروحة -- أطروحة "صدام الحضارات" -- أزعم أنْ، تاريخيا، ما لوحظ في طبيعة الحضارات أنها تتصادم، بل لوحظ أنها، حيثما تتقابل، تتعارف فتتحاور فتتقابس. آية ذلك أننا نجد في كل حضارة أثرا حميدا لمعارف وإبداعات مقتبسة من حضارة أخرى. مثلا، في الحضارة الغربية، في تدرجها نحو الثورة المعرفية التي لاحقا أحدثت تحول المجتمعات الغربية من المنهاج الديني إلى المنهاج العلماني، ومن المنهاج الآتوقراطي إلى المنهاج الديمقراطي، نجد، من وراء ذلك الحراك المعرفي الذي أحدث هذين التحولين، علما تأصيليا مقتبسا من الحضارة الإسلامية، والتي، بدورها، كانت قد اقتبست من حضارات أخرى: حضارات الإغريق وفارس والهند، ومصر، وحضارة ما بين النهرين، قبل أن تطور محصولها المعرفي وتباعا توفره لتناول الأوربيين.

من جانب آخر، تاريخيا، نرى صدامات كبرى حدثت مكررا ما بين إمبراطوريات، ما بين دول، ما بين أديان حين حُرفت مقاصد الأديان، ثم على نحو أكثر تكرارا، نراها حدثت ضمن كل من تلك الأطر: حدثت عبر خطوط صدع إيديولوجي، ديني، سياسي، اقتصادي، عرقي، وطائفي. في المعتاد نرى الصدامات حدثت حيثما وهن الوازع الخلقي، طفح الجشع، استفحل النزق، واستقوت نزعة العدوان، أو أعمى الناس غرور وطني، غلو ديني، أو تنازع سلطوي. هنالك، حيث ضعف الحس الحضاري، نبذ المتخاصمون العقل، تحدوا الحكمة، انفعلوا، طاشوا وانساقوا للاحتراب. بذلك هم أضروا بأنفسهم، وتباعا، أضروا بالإنسانية جمعاء.

تلك قناعتي، ومنها سأحاول التدليل – خلاف أطروحة "صدام الحضارات" - على التدافع الإيجابي الذي يحصل عادة لدى التلاقي الحضاري. بوجه خاص، سأستشهد بالقفزة المعرفية الكبرى التي حصلت في خبرة المسلمين جراء تلاقي الإسلام مع حضارات معاصرة وأخرى سابقة. من العصر الذهبي الإسلامي ذاك، والذي امتد قرابة خمسة قرون، تلقى الغرب معارف انتشلته من حال جاهلي إلى إفاقة معرفية حدت به تدريجيا إلى موقع الصدارة الذي لا يزال له في عالم اليوم.

كيف حصل ذلك؟

في السجل البشري طالما نرى انطلاق تحولات عظمي من بدايات صغرى لم تكن تنبئ وقتها بما سيكون لها من تأثير في وضع الإنسان مستقبلَ الدهر. ما كل البدايات في النشاط البشري، وهي تحصل جمة ومتنوعة كل حين، بل ولا معظمها، تستمر فتثمر. لكن الجديرة منها تلقى دعما من السنن الكونية التي شاء الله لها أن تسند كل عمل إنساني جدير، بل أن تضاعف من عطاء صالح العمل وتعمم نفعه على البشرية جمعاء. نعم، قد تبدو البذرة طفيفة إزاء الشجرة الثامرة التي نمت منها، وقد يبدو القبس باهتا إزاء الأنوار المبهرة التي تولدت منه، لكن لا الشجرة كانت لتثمر، ولا الأنوار كانت لتشع، لو لم يكن هنالك البذرة والقبس بادئ الأمر.

بذلك أقصد أن الثورة العلمية في الغرب لم تنشأ من دون تمهيد. ما مهد لها هي إنجازات حضارة سبقتها ووفرت لها محصولها المعرفي. تلك كانت الحضارة الإسلامية التي اقتبس منها أهل الغرب اقتباسا تأسيسيا في مختلف العلوم. كانت أوروبا قبلها تعيش ليلا أليل، لا ينشأ فيه من الداخل، ولا يدخله من الخارج، بصيص نور من أي حقل معرفي. كانت تلك أواخر القرون الوسطى التي لا تزال مضرب المثل للتدليل على عمق ما تصاب به الأمم في عصور تخلفها جراء جدب معرفي مديد.

ما كانت إنجازات الحضارة الإغريقية معروفة لدى الأوروبيين حتى ذلك الوقت ولا إنجازات حضارات أخرى، وما كان الغرب حضارة بعد. كانت الإصدارات العربية وحدها المنهلَ الذي يُنهل منه عالميا في شتى فروع المعرفة. ذلك أن المسلمين سعوا لتحصيل العلم، كل العلم، أنى لقوا مصادره: جمعوه، استوعبوه، طوروه، ابتكروا فيه، ثم مع الوقت وضعوا ثمار ما أحرزوا في متناول سائر الأمم. ما أنجزوه أثرى الإسلام وجعله إلى جانب كونه دينا سماويا، حضارة أرضية زاخرة. من الصين واندونيسيا والهند، عبر فارس وسورية والقوقاز، إلى إفريقيا فإسبانيا لامس الإسلام قلوب وعقول عديد من الأمم، رتب أوضاعهم، هذب أخلاقهم، أضفى بعدا روحانيا في حياتهم، وأولاهم شعور اعتزاز بالانتماء له كدين وحضارة مترافدَين في إسعاد الإنسان وإنمائه.

إلى جانب المعرفة العلمية والنظر الفلسفي، نقل المسلمون معهم ابتكارات عملية. مثلا، إثر اقتباسهم مفهوم الصفر من الهند واستيعابه في رياضياتهم (الخوارزمي، بغداد، 825) نقلوا النظام العشري للغرب. كذلك، بعد اقتباس صناعة الورق من الصين (سمرقند، 712) جلبوها إلى الأندلس (عام 950)، ومنها انتشرت في أوروبا. بعد خمسة قرون، اخترعت أوروبا مطبعة جوتنبرج، وبتزويجها بالورق، ثورت نشر المعرفة عالميا. لكن اختراع تلك المطبعة (1450) لم يأت من فراغ. لقد استُمدت فكرتها مما نقله الصليبيون من مصر من مهارات طبع رسوم تجميلية على الأقمشة بقوالب خشبية محفورة بعملية الكبس. في عصرنا، كدليل أيضا على استمرار تقابس الحضارات بعضها من بعض، نجد ثمار الحضارة الغربية في العلوم والتكنولوجيا، كما في العلوم الإنسانية، مقتناة بترحاب ومستفادا منها بسعة في جميع حضارات هذا العصر.

الإنجاز المعرفي الإسلامي:

في دراسة التقابس الحضاري بين الأمم تظهر جليا عظمة الإنجاز المعرفي الإسلامي من حيث محتواه ومداه... تظهر من تقييم عدد من أبرز مؤرخي الحضارات: أذكر منهم ثلاثة: ويل دورانت، جورج سارتن، وأبو الريحان البيروني. دورانت، في الفصل حول الحضارة الإسلامية في مؤلفه الضخم قصة الحضارة يذكر أن محمد ابن النديم ضمّن فهرسه المشهور فهرست العلوم (987) اسم كل كتاب صدر بالعربية حتى عصره، مع تعريف بمؤلف الكتاب أو مترجمه أو شارحه. ثم يلاحظ دورانت بالقول: إننا نستطيع أن نقدر سعة الإنتاج الإسلامي حتى عصر ابن النديم من أن لا واحدا من ألف كتاب أدرج في فهرسه موجود بين أيدينا اليوم، بمعنى أن ما انتهى إلينا من إنتاج تلك النهضة المعرفية الإسلامية هو بنسبة العائم من جبل الثلج إلى غاطسه. في ملاحظة أخرى يقول دورانت: عندما سيتم مسح أدق وأشمل لهذا التراث نصف المنسي، فسوف نصنف القرن العاشر في المشرق الإسلامي كأحد العصور الذهبية في تاريخ العقل.

جورج سارتن، مؤرخ تقدم العلوم بجامعة هارفرد، في مؤلفه الوسيع مقدمة في تاريخ العلم يقول: من النصف الثاني للقرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر كانت العربية لغة العلم، بل لغة التقدم المعرفي على الإطلاق. وعندما تنبه الغرب لنفسه وأحس بالحاجة لعلم أوفر، وجه نظره ليس إلى المصادر الإغريقية بل المصادر العربية. ما كتبه سارتن يؤيده البيروني، وهو عالم ومؤرخ مسلم عاصر ذلك العهد، بقوله: لقد كانت العلوم تدخل العربية من كل حدب وصوب، فإذا دخلتها اكتسبت جمالياتها، وعندها تغدو العلوم أكثر تشويقا لطلابنا فيقبلون على تحصيلها بشغف.

ماذا حصل لذلك الصرح المعرفي الثر؟

حصل كما قد حصل مرارا على الجانب المظلم من سيرة البشر: غزو عدواني دمر جل ذلك الصرح المعرفي، قتّل ألوفا من علماء محققين وآخرين واعدين، وأتلف ثروة غير مسبوقة من علوم مدونة حتى ذلك الحين. جنكيز خان وأولاده، في زحف كاسح بجيوشهم المنغولية على دار الإسلام أهلكوا الحرث والنسل وأتلفوا الأخضر واليابس. مئات من مدن آهلة وحافلة بمعالم رقي ثقافي، في سورية والعراق وبلاد القوقاز وفارس، لكن غير معدة لصد عدوان خارجي، سقطت ضحايا هجمات المنغول. ثم في 13 فبراير 1258، حفيد جنكيز خان، هولاكو، وجيشه دخلوا بغداد وبدأوا خمسا وأربعين يوما من قتل ونهب. مئات الألوف من السكان قتّلوا، من بينهم ألوف من علماءَ وأدباء وتجار وحرفيين. كنوز ثقافية جمة جمعت بجهد حثيث عبر قرون، أتلفت خلال أيام. لم يسبق - كما قيل في حينه وإثره – أن شهدت دجلة مثل ذلك مزجا في مياهها للدم والحبر. أخيرا، أعدم الخليفة المستعصم بالله، السابع والثلاثون من العباسيين. بذلك أنهي العهد العباسي الذي كان قد عاصر النهضة المعرفية الإسلامية، وأحيانا رعاها، على مدى خمسمائة عام.

حضارة حيوية كانت لقرون مصدر النور الوحيد في عالم قاتم أعطبت هكذا بوحشية فجة. نهضة ثقافية علمية صاعدة في وقت كانت أوروبا تقبع في جهل وعجز بترت هكذا بفعل همجي. مع ذلك، ما سلم من تلك الحضارة من نور معرفي، وهو غيض من فيض، كان كافيا لإنارة الطريق أمام الغرب، كافيا لإخراج الغرب من ركود جاثم ودفعه لبناء حضارة ثرة جديدة أضحت معطياتها تشكل، شكلا وموضوعا، معالم حياة الناس عبر العالم في هذا العصر.

من كان هؤلاء السعاة للعلم في العصر الذهبي الإسلامي الذين مهدت علومهم للثورة المعرفية في الغرب، وما الذي كان يحدوهم إلى اقتناء العلم دون أدنى تحفظ أو تردد؟ كانوا أفرادا من خلفيات شتى تجمعهم عالمية الإسلام وعقلانيته. كانوا طلاب علم على الإطلاق، لا طلاب تفقه في الدين فحسب. كانوا أعضاء جماعة مستنيرة متنوعة العرق واللسان وحتى الدين والمذهب، لكن تربطهم رؤية معرفية موحدة ولغة ثقافية واحدة، هي العربية التي يتحاورون بها ويؤلفون فيها. ورغم البيئة التي كانوا يعيشونها، وهي بيئة متعسفة ومضطربة مرارا، فإن شراحة الإسلام ورحابة العربية كانا من وراء اندفاعهم نحو العلم اندفاعا لم يحفلوا معه كثيرا بمكدرات عصرهم ومعوقاته.

كان العلم لديهم تكليفا حض على تحصيله الرسول الأعظم، معلنا طلبه، من أيما مصدر توفر، فريضة على كل مسلم ومسلمة. وتحداهم القرآن المجيد: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وقل هل يستوي الأعمى والبصير، أم هل تستوي الظلمات والنور. وأعلن المصحف المنزل: من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.

لقد نعت الإغريق العلم بالفضيلة، أما المسلمون فقد رأوه نورا يهتدى به إلى فهم نظام الكون واستبيان المشيئة الإلهية السارية في سننه، كون المشيئة الإلهية والسنن الكونية في تواؤم محكم مستدام. ضمن ذلك، رأوا العلم شارحا لحال الإنسان: ما يصلحه وما يفسده، ما ينفعه وما يضره، ما يرفعه إلى أحسن تقويم وما يرده إلى أسفل سافلين. رأوه دالا إلى استخلاص العبر من سير أمم خلت من قبل، كيف نهضت ثم قعدت، أقدمت ثم أدبرت، سادت ثم بادت، بفعل ما اكتسبت من عناصر بناء أو هدم. كل ذلك لكي يتسع بتلك المدارك أفقهم المعرفي، فيرتقوا في الحكمة والفضيلة ويُثروا خبرة الحياة. ما عاد التخمين لديهم أساسا صالحا لتكوين نظر صائب أو أداء عمل صحيح. ما كان الظن لديهم ليغني عن الحق شيئا، بل إنهم وعوا أن بعض الظن إثم. ولقد قرأوا في الذكر الحكيم توقيرا للعلم والعلماء لم يرد مثله في أي كتاب، سماوي أو أرضي.

لقد كان أول التنزيل أمرا بالقراءة، وعلى القراءة انكبوا بشغف. من جانب أرسو للعربية قواعد محكمة من النحو والصرف، جمعوا الحديث الشريف، كتبوا التفسير، وضعوا فقه الشريعة، وأرّخوا وقائع الإسلام وسير أعلامه. من الجانب الآخر، درسوا كل ما أنتجته الأمم قبلهم من علم: دونوه، شرحوه، ترجموه للعربية، جاعلين العربية لغة العلم بامتياز. طوروا ما اقتبسوا، زادوا عليه، وابتكروا فيه. بذلك، مع دخول القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، حفلت دار الإسلام بمعاهد وحلقات درس تُعلم فيها العلوم الطبيعية والفلسفة إلى جانب علوم الدين: في آسيا، وافريقيا، وفي أوروبا الداخل منها في حظيرة الإسلام.

علماءُ دار الإسلام – ولا أقصد بهم علماء الدين ولا المسلمين منهم فقط، بل العلماءَ عامة، المحققين في مختلف فروع المعارف، طبيعية وإنسانية ودينية -- هؤلاء، في ذلك العهد، وعوا بعمق أن أهمية دور العلم في تبيان الحقائق موصولة جذريا بأهمية دور العقل في الإرشاد. لقد أدركوا بدقة بالغة أن بالعلم يتنور العقل ويتمدد، فيوصل إلى فهم سديد للكون، أجرامه وسننه، ظواهره وخفاياه، حيوانه ونباته وجماده، وإلى فهم الإنسان لنفسه ككائن عاقل كريم. لقد وُعد الإنسان في الذكر الحكيم أن تتاح له رؤية آيات الله في الآفاق، أي في الكون بأسره، وفي الأنفس، حتى يتبين له أنه الحق، كما أنه دعي ليتعقل ويتفكر ويتدبر ويتذكر ويتزكى، ويستزيد علما لكي تتسع مداركه، يستقيمَ سلوكه، وتسمو نفسه.

علماء ذلك العصر الذهبي الإسلامي كانوا مواطني العالم الإسلامي بأسره، يوم أن كان العالم الإسلامي يمثل جل العالم المتحضر على وجه الأرض. كان منهم رياضيون، فلكيون، صيادلة، أطباء، علماء طبيعة، فلاسفة، جغرافيون، مؤرخون، لغويون، شعراء، أدباء، قضاة، أمثال الخوارزمي، جابر ابن حيان، الفرغني، الكندي، المتنبي، ابن يونس، البطاني، الرازي، الفارابي، ابن سينا، البيروني، ابن رشد، المسعودي، سيبويه، الفراهيدي، الخيام، وألوف آخرون قال عنهم جورج سارتن أنه أذا أنكر منكر أو جحد مكابر قيمة ما أنتجه المسلمون من معرفة في ذلك العصر، فاذكر لهم أسماء هؤلاء الأعلام ونظرائهم لترد نكران ناكر وجحود مكابر.

استحقاق في ذمة العالم واستحقاق في ذمة العرب:

ما ذكرت لم أقصد به مباهاة أو مفاخرة، أو تغنيا بأمجاد عصر سلف، وإنما أوردته تأكيدا لاستحقاق يبقى للعرب في ذمة العالم: أن يقر العالم بما كان للعرب من دور مفصلي في جمع المعرفة وحفظها وتطويرها بعد أن كانت المعرفة، وهي أنفس النتاج الحضاري للأمم، قد طمست في القرون الوسطى وكادت شعلتها تخمد للأبد. قصدت أيضا تأكيد استحقاق يبقى في ذمة العرب أنفسهم: أن لا يتحفظوا اليوم على المعرفة الإنسانية وقد كانوا روادها بالأمس، أن لا ينتقصوا من قابلية العقل لاستجلاء حقائق الكون وقد كانوا أرباب العقلانية بالأمس، وأن يؤصلوا في أجيالهم الصاعدة الثقة بأنهم أبناء وبنات حضارة تصدرت موكب المعرفة والعقلانية ذات يوم بامتياز، وأن لهم – إذا شاءوا مجتهدين مثابرين -- أن يمتازوا في مجال المعرفة والنظر العقلي من جديد.

ما أخذه الغرب من العرب لم تكن مجرد أعمال مترجمة، بل أعمالا مشروحة مضافة، مطورة، متفوقة. آية ذلك أنه من القرن الثاني عشر حتى نهاية القرن الخامس عشر على الأقل كانت مراكز العلم في أوروبا تدرس الفلسفة الطبيعية في جلها من مؤلفات عربية. في الطب كانت موسوعات الرازي وابن سينا وابن رشد المراجع الرئيسة في التدريس. في الكيمياء كانت أعمال الرازي وابن سينا وسلفهما جابر ابن حيان أهم المراجع. منهج جابر في التجريب، القائل بعدم جواز اعتماد أي تنظير بدون تجريب، غدا لاحقا المنهج العلمي المتبع في أوروبا the scientific method، وبذلك استبق أيضا المنهج الامبيريكي البريطاني، والمنهج البراجماتيكي الأمريكي الذي عرضه تشارلس بيرس ووليم جيمس في نهاية القرن التاسع عشر، والقائل أن صدقية أيما فكرة لا تكتمل إلا من خلال تطبيقها بنجاح. في علم الطبيعة، قدم ابن الهيثم أعمالا رائدة في البصريات: كان أول من أبان سير الضوء في خط مستقيم، إشعاعَه من مصدره في جميع الاتجاهات، وتضاؤلَه بتباعد المسافة. كما أنه استبق علماء القرن السابع عشر بتلميحه إلى كونية السنن الطبيعية، بمعنى أن الظواهر الطبيعية أينما تحدث في الكون تتبع، كما الضوء، نفس القوانين الطبيعية التي تسري على كوكب الأرض. (وسبحان من قائل: فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا).

التقليد غير الاقتباس:

بقي أن أستدرك أن لا الغرب قديما قلدنا في شيء، ولا نحن قديما قلدنا الآخرين في شيء، بل، كحضارات قوامها المعرفة، اقتبس كل ما ثمن من معارف الأخر، ثم بنى على ما اقتبس. ذلك أن التقليد شيء والاقتباس شيء آخر. لا خير في التقليد لأنه محاكاة أعمى يأتي به المرء ما يأتي به غيره من قول أو فعل بدون تفكير ذاتي مستقل. لا تنتقل المعرفة ولا ينجز التقدم عن طريق التقليد. بذلك تبقى الأمة المقلدة متراوحة في مكانها وإن بدا أنها تتقدم. بتعبير آخر، قد تبدو الأمة المقلدة في ظاهر حالها كالأمة التي هي تتبعها بالتقليد. لكن شتان ما بين الاثنتين، فإحداهما رائدة والأخرى تابعة، الأولى تقدمها حقيقي نابع من ذاتها، والأخرى ما يبدو عليها من تقدم هو حال ظاهري مستعار. في الخلاصة، بتعطل قدرتها الذاتية على التفكير تنقاد الأمة المقلدة لما يفكر لها الآخرون. هذا باختصار شديد - على ما أرى - هو حال شعوب الأمة العربية في الحاضر الراهن.

الاقتباس أمر آخر. إنه بخلاف التقليد، يمثل سنة التدافع الإيجابي بين الناس، أفرادا وأمما. لا حضارة قامت في التاريخ من دون أن تقتبس من حضارات أخرى. في عملية الاقتباس ترى أمة تقتبس من أمة أخرى ثم تبني على ما اقتبست، ولعلها، بفضل ما تُفعل في مجهودها التقدمي من معطيات ذاتية، تفوق تلك التي اقتبست منها بادئ الأمر. ذلك أن الاقتباس لا يعفي المقتبس من الاجتهاد والإنجاز، بل يطالبه بتكثيف الجهد الذاتي كشرط للتقدم. في الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، وقت أن نشطت فكرا وعلما، هكذا أدرك علماء الإسلام، فصاروا يبحثون عن كل مفيد يتاح لهم اقتباسه من عطاءات حضارات أخرى، قريبة وبعيدة. ثم بنوا على ما اقتبسوا حتى أنجزوا ما فاق نتاج الأمم التي اقتبسوا منها بأشواط. ما كانوا متبجحين بما أنجزوا ولا حاجبين ما حققوا عن تناول الآخرين، فقد تلقوا من الإسلام أن العلم لا يستنفد ولا يحتكر، وأن من منزلقات أهل العلم الأنانية والغرور.

الخلاصة:

خلاصة، إذن، بخلاف الامبراطوريات، بخلاف الدول، بخلاف الأديان حين تحرف مقاصد الأديان، بخلاف الطوائف والمذاهب حين تسيس، بخلاف المتنازعين على السلطة: بخلاف كل تلك، الحضارات لا تتصادم، بل حيثما تتلاقى، تتعارف وتتحاور وتتقابس. رغم كل الحروب التي وقعت بين الأمم في عصور بعيدة وقريبة نرى في كل أمة أثرا حضاريا من إنتاج أمة حاربتها بالأمس. بنظري، من يقول بصدام الحضارات لا يفقه تماما معنى التحضر كارتقاء لمستوى فكري وخلقي رفيع لا يتولد منه نزوع للتصادم، بل جنوح للتعارف والتحاور والتقابس، ولدفع بالحسنى يحوّل خصومة الأمس إلى صداقة اليوم، فتعاون الغد.

ذلك أن الحس الحضاري ينبثق من منظور إنساني يعلو وعيا على مستوى الوعي الذي نتصرف منه في المعتاد، على صعيد أفراد أو أمم. بالحس الحضاري نقيم العدل، نتعامل بالإحسان، نتعاون، نتكافل، نتراحم. بالحس الحضاري لا نعتدي، ولا نظلم، ولا نطغى، ولا نؤذي، ولا نستبد، بل نصون كرامة الجميع، ونفسح لكل اجتهاد أمين أن يثري الخبرة الإنسانية على صعيد الوطن والعالم. بالحس الحضاري نحب لغيرنا ما نحب لأنفسنا، ونرى الناس سواسية، فلا نتصاغر أمام أحد ولا نتعالى على أحد، ولا نستأثر بما الناس فيه سواء. بالحس الحضاري نلتمس الوئام لا الخصام، واليسر لا العسر، للنفس والغير. بالحس الحضاري نحسن الظن، نتسامح، نتراضى، ويسعد بعضنا بعضا كمواطنين في أوطاننا، وكمواطني عالم واحد. بالحس الحضاري، كمسلمين بالأخص، ندرك جوهر رسالة الإسلام التي لخصها الرسول الأعظم بقوله النبيل: بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وخوطب في المصحف المجيد: وإنك لعلى خلق عظيم. ذلك هو الفكر الحضاري والمسلك المنطلق منه، والاستحقاق الذي يطالَب بالوفاء به كل من يدعي وصلا بالحضارة، فردا كان أو جماعة أو أمة.

لقد أخذت في هذا العرض طريقا طويلا بعض الشيء لأصل أخيرا إلى القول بأنني من دعاة حوار الحضارات، لا من دعاة حوار الأديان. للأديان خصوصيات تتمثل في منظوماتها العقدية، في شرائعها، في شعائرها، وفي منظوراتها الاجتماعية، وكل تلك لا تفسح مجالا لتمازج أو تقارب ما بينها. بنظري، أي حوار يروم التقريب بين الأديان، ينتهي بتوسيع شقة الخلاف البيني. ذلك أن الأديان بطبيعتها غيورة على نفسها، وأهلها غيورون على كل صغيرة وكبيرة فيها لما لمعتقداتها وعموم أدبياتها من تجذر في النفوس.

خلاف ذلك، المنهاج الحضاري، كما أسلفت، قابل للتعارف والتحاور والتقابس، ومن ثم للبناء على المشتركات الإنسانية. وإذن – وبهذه الدعوة أختم – لندع الأديان مصونة في ضمائر أهلها في كل أمة وضمن كل وطن، ولنضمن الرعاية والحماية لها في نظام الدولة وثقافة المجتمع. ولنتعامل، وطنيا وعالميا، بالمنهاج الحضاري، متعاونين بالدرجة الأولى في ثلاث:

 1) حفظ السلم والأمن وخلق اليسر المعيشي ضمن الأوطان وعبر العالم.

 2) ضمان حقوق الإنسان وحقوق المواطنة في جميع الدول،

 و3) تأكيد مكارم الأخلاق، وتربية الأجيال عليها في المدارس والمعاهد، وفي الحياة الخاصة والعامة بسواء.

* محاضرة بكلية تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ولاية مَنح، سلطنة عمان 23 أغسطس 2013

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/sidkjwadsleman.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 12/أيلول/2013 - 5/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م