ناقة البسوس وشجرة ابو مسعود

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: اربعون عاما على رواية المكثرين، او هي بضعة وعشرين سنة على رواية المقلين هي المدة التي استغرقتها حرب البسوس بين عدد من القبائل العربية في جاهليتهم. تلك الحرب التي ابادت الضرع والزرع على قلته في ذلك الزمن، وخلفت الكثير من القتلى والنفوس الثكلى..

هل كانت الحرب باطلة ام محقة؟ لا يطرح السؤال هكذا في ما يتعلق بالحروب والنزاعات العشائرية، لان المنطق او المحاكمات العقلية غائبة عن مثل تلك الحروب والنزاعات، لسبب بسيط وهو وجود سياق او نسق ثقافي تسير عليه الجماعة بغض النظر عن بطلانه او أحقيته..

(سراب) هو اسم الناقة التي جرّت خلفها حمولات الدم والثأر طيلة سنوات الاقتتال بين القبائل العربية في تلك الجاهلية الاولى، واقول الاولى لأننا نعيش في عصرنا الراهن ربما الجاهلية العشرون او المائة او الالف على امتداد قبائلنا التي لم تغادر مربع الناقة سراب او الحصان سابق او غيره من اسماء طغت على ايام العرب ومواقعهم.

يحدثنا رواة العرب أن كليب بن ربيعة التغلبي كان سيدا لقبائل معد وملكا عليهم ثم بغى عليهم ودخله الزهو فكان يحمي مواقع السحاب فلا يرعى حماه، ويجير على الدهر فلا تخفر ذمته، ويقول: (وحش أرض كذا في جواري فلا يهاج)، ولا تورد إبل أحد مع إبله، ولا توقد نار مع ناره حتى قيل: (أعز من كليب وائل). وكانت بنو جشم من تغلب بن وائل وبني شيبان من بكر بن وائل متجاورين في الديار وكانت البسوس بنت منقذ التميمية نازلة في بني شيبان عند جساس وكانت خالته وكان مع البسوس جار لها اسمه سعد بن شمس الجرمي القضاعي وكانت له ناقة تسمى: (سراب) فمرت إبل لكليب بسراب وهي معقولة فلما رأت الناقة الإبل نازعت عقالها حتى قطعته وتبعت الإبل واختلطت الإبل فلما رآها كليب بين الإبل أنكرها فرماها بسهم في ضرعها فنفرت وهي ترغو فلما رآها الجرمي أخبر البسوس فصاحت ( واذلاه ! واجاراه !) وأنشدت:

لعمري لو أصبحت في دار منقذٍ... لما ضيم سعد وهو جار لأبياتي

ولكنني أصبحت في دار غربةٍ... متى يعد فيها الذئب يعد على شاتي

فيا سعد لا تغرر بنفسك وارتحل... فإنك في قومٍ عن الجار أموات

ودونك أذوادي فخذها وإنني...   لراحلة لا تغدروا ببنياتي

على هذا المنوال كانت تنشب النزاعات وتزهق النفوس، واشتهر في فض تلك النزاعات واخمادها ما عرف بالعرف العشائري او القانون او (السنينة) والتي اخذت في بعض الاوقات طابعا تجاريا بحتا لا ينشد الحق بل يبحث عن مقدار (الفصول) من مال او ممتلكات تحت ادعاءات شتى لا يمكن اخضاعها للغة المحاكمات العقلية او المنطقية.

الامثلة كثيرة على مقدار (البؤس) الاخلاقي العشائري الذي وصلنا اليه بسبب افساح المجال للعشائر (وسنينها) لتسيّد الساحات الاجتماعية على حساب القوانين المرعية وعلى حساب الكثير من النصوص الاسلامية.

احدث (فصل) عشائري اطلعت على تفاصيله كان بسبب شجرة صنوبر صغيرة جدا، كان قد زرعها احد اصحاب المحلات مقابل باب جارهم، اي انه كان متجاوزا على (حمى) او حدود هذا الجار والتي يجب ان تحترم.. بعد ان اخذت تكبر شجرة الصنوبر، اصبحت تضايق الداخل والخارج من والى المنزل، وتحدثوا مع زارعها حول تشذيبها او قطعها، الا ان رده لم يكن كريما معهم، في ساعة غضب واندفاع قام احد سكان هذا المنزل بكسر تلك الشجرة، ليندفع صاحبها الى داخل المنزل مزمجرا ومهددا ومتوعدا بالويل والثبور، وكانه يردد ما قالته صاحبة الناقة (سراب) قبل اكثر من الف وخمسمائة عام (واذلاه! واجاراه!) لم يكن من صاحب المنزل وقد رأى وسمع تلك التهديدات التي لم ينفع معها الضحك او التطمين او تطييب الخواطر الا ان اخرج بندقيته واطلق رصاصتين باتجاه الحائط لإخافة المهاجم عليه.

تنادى اخوة صاحب المحل بالويل والثبور، وتراشق الجميع بالسباب والشتائم، وانفضت صولة الشجرة واطلاق الرصاص على جلسة عشائرية بدأت بمبلغ اثنين وثلاثين مليون دينار لتنتهي بعد جبر خاطر فلان وعلان عند الرقم خمسة ملاين دينار.

لم يكن احد معني بوجود الشجرة الصغيرة والتي هي اشبه بمسمار جحا، ولا معني بتعدي صاحبها على حرمة البيت وساكنيه، انتهى الفصل العشائري حيث انتهت اليه الاحداث، وهي اطلاق الرصاص، فقد جفت الاقلام ورفعت الصحف.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 11/أيلول/2013 - 4/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م