العراق... الاجراءات الأمنية ورائحة المصالح السياسية

 

شبكة النبأ: اذا كانت العمليات الارهابية – الدموية التي تنفذها الجماعات التكفيرية في العراق، تحصد أرواح المئات من الابرياء، فان الاجراءات الأمنية والعسكرية المضادة، تسببت في أضرار وعراقيل كبيرة لحياة الناس الذين لم تطالهم نيران السيارات المفخخة وبقوا حتى الآن سالمين.

ربما يكون التبرير واضحاً ومفهوماً، وهو ما تسوقه السلطات الأمنية والعسكرية عند أي اعتراض أو تذمّر. لكن من غير المنطقي وغير المفهوم أن تصطدم هذ الاجراءات بالحياة العادية للناس، فما فائدة الحفاظ الى حياة المواطن بواسطة تحديد حركة سيره في الشارع، أو التضييق على مصدر رزقه في الزراعة والتجارة؟ فخلال السنوات الاولى من هذا الصراع الدامي، ألحق بالمزارعين العراقيين أفدح الخسائر، عندما تحولت قراهم ومناطق الزراعية الى مسارح لعمليات الكرّ والفر بين الجانبين، لاسيما بساتين النخيل الواسعة والاراضي المثمرة والمعطاء في المناطق المتوترة، الامر الذي أجبر الأهالي والمزارعين على ترك هذه المناطق وهجر الزراعة بشكل تام، بسبب امتداد الأذرع الاخطبوطية للجماعات الارهابية الى مناطقهم، ثم مطاردة الاجهزة الأمنية بإجراءاتها الصاعقة والمشددة من قبل السلطات المعنية.

هذا ما شهدته مئات الهكتارات من الاراضي الزراعية في محافظات ديالى، وصلاح الدين والانبار والموصل. أما اليوم، وبعد المواجهات في الأرياف، باتت المواجهات والاجراءات الأمنية مطبقة وسط المناطق السكنية وفي قلب العاصمة بغداد، وسائر المدن، وهي تلقي بظلالها الثقيلة على حياة الناس بشكل مباشر، فقد بات انتشار السيطرات الأمنية، وقطع الطرق وتطويق المناطق السكنية بالحواجز الكونكريتية، أمراً مألوفاً لسكان المدن العراقية، في مقدمتها العاصمة بغداد خلال السنوات الماضية. وهذه  المرة شهدت مدن عراقية وضع حواجز حديدية متحركة، أو أسلاك شائكة، على طول الشوارع، وقبالة المحال التجارية والاسواق التي تشهد حركة تبضّع نشطة، بداعي الحفاظ على الأرواح من احتمال مداهمة الناس بالسيارات المفخخة! وتطور الأمر الى الترويج للتخلّي عن مجالس العزاء والفاتحة على الأموات، بحجة تعرض بعض منها لهجمات ارهابية، والتسبب بسقوط ضحايا!

لمن يلقي نظرة خاطفة على الشارع العراقي، يجد أن المواطن يتعرض لإجراءات تكبيل وتقييد، وإن اراد الحركة، فمن خلال بذل المزيد من الجهد العضلي والعصبي والنفسي، بطي مسافات في الشوارع، او الانتظار لساعات طويلة في طوابير "السيطرات"، بينما يجد المواطن أو يشعر أن الارهابي المبعوث من قبل تنظيم "القاعدة"، بحزامه الناسف أو سيارة المفخخة، أكثر حرية منه، فهو قادر الى درجة كبيرة من تنفيذ المهمة الموكلة اليه.

وبالرغم من كثرة السيطرات، ووجود جهاز "السونار"، والحواجز والقطوعات، إلا أن قناعة الناس اليوم، هي أن الجماعات الارهابية تخوض صراعها الدامي والشرس ضد الحكومة وأجهزتها الأمنية، أما الهدف السهل فهم النساء والاطفال والباعة والمتسوقين وغيرهم من المواطنين العاديين، وهذا ما جعل الناس يخرجون عن صمتهم بعض الشيء، بعد تحمّل كل هذه الضغوطات التي تضاف على ضغوطات المعيشة، والحديث بصوت عالٍ عن عدم جدوائية الاجراءات الأمنية المتبعة، ولعل أجهزة كشف المتفجرات (السونار)، والفضيحة المدوية التي ضربته من دولة المنشأ (بريطانيا)، وحتى من أوساطنا الأمنية والسياسية، يكون خير دليل على صحة ما يشكوه المواطنون.

وقبل أن يأتي رد التهدئة وتطييب الخاطر من الجهات المسؤولة لأبناء الشعب العراقي، وإثارة الروح الوطنية وتعميق الشعور بالمسؤولية الجماعية، ظهرت أصوات من مواقع التواصل الاجتماعي تتحدث بـ
"لغة وطنية"، لكنها في غير اتجاه الارادة الاجتماعية، بل ونقيضها تماماً، عندما دعا عدد من اصحاب الصفحات على "فيسبوك"، أصحاب مجالس الفاتحة، التخلّي عن هذا التقليد والعمل المستحب، ليتجنبوا استهدافهم من قبل الجماعات  الارهابية.

ويبدو ان وراء هذه الدعوة "حملة" منظمة ومدعومة، لأن المتحدث وهو، "احمد الدايني" يسوق عدة أسباب في صفحته الشخصية بان "الهدف من الحملة الغاء مشروع الارهاب باستهداف المسؤولين والقادة الأمنيين والشخصيات الاجتماعية والعشائرية من خلال اضطرارهم لتأدية واجب التعزية مما يجعلهم أهداف للاراهاب وخسارة البلد الكبيرة التي لا تعوض نتيجة الخسائر في الكفاءات السياسية والقادة الأمنيين والشيوخ والوجهاء وذوي الشهادات والاختصاصات النادرة..."!! والأنكى من ذلك يتحدث "الدايني"، عن "الهدر في الاقتصاد الوطني وما يترتب عليه من ارتفاع الأسعار و استنزاف الأموال..."! وأيد هذا التوجه عدد آخر على "فيسبوك"، واكثر من ذلك، حيث طالب "علي عبد الستار الحجية" الى تبني حملة إلغاء صلاة الجمعة حفاظاً على ارواح المواطنين..!

لقد بات المواطنون يشمّون بقوة رائحة المصالح السياسية من وراء الاجراءات الأمنية، فرئيس كتلة بدر النيابية، قاسم الاعرجي، يحذر "الجهات السياسية وبعض القنوات الاعلامية من المتاجرة بدماء العراقيين لاسباب ودوافع حزبية و فئوية و لاغراض انتخابية رخيصة"! فيما انتقد عضو ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه رئيس الحكومة، نوري المالكي، قرار مجلس محافظة بغداد، إلغاء العمل بإنشاء ثمانية عشر نقطة تفتيش "نموذجية"، حسب وصف النائب سعد المطلبي، عادّاً هذه النقاط بأن من شأنها ضبط الأمن والاستقرار في بغداد، منتقداً بشدة حجة "الشبهة المالية" وراء المشروع، مؤكداً إن عدم وجود هذه النقاط "سيلحق ضرراً بالملف الامني للعاصمة"!

هذا المآل المرير والمأساوي، يستدعي وقفة تأمل من لدن المسؤولين المعنيين بالشأن الأمني وايضاً السياسي، لأن يفكروا ملياً بالموضوع، بعيداً عن المهاترات السياسية والتجاذبات والبحث عن المصالح الخاصة، فالقضية تتعلق هذه المرة بحياة ومصائر وكرامة الناس، وهم مدركون جيداً أن التفجيرات المتتالية في العاصمة بغداد وغيرها، وحصد المئات من أرواح الابرياء وتكرار مشاهد  الدمار والدماء في الشوارع، الهدف منه وضع حاجز كبيرة وعال يفصل بين الشعب العراقي وبين النظام السياسي القائم، والإيحاء بأن الحكومة والبرلمان وعموم الساسة في العراق غير جديرين بالحكم، عندما يعجزون عن حماية ارواح المواطنين. وإذن؛ فالضربة تقع هنا على رأس المواطن العراقي، وليس المسؤول الجالس في الاماكن المحصنة التي يصعب على الارهابي الوصول اليها. وعليه، فان الاجراءات الامنية يجب ان تستهدف بالدرجة الاولى الارهابيين بشكل أو بآخر، ولا تمسّ حياة الناس العاديين قدر الإمكان.

ليتصور أحدنا، ان لديه سيارة بسيطة تنقله من بيته الى مكان عمله، ثم يصدر بيان خاص من وزارة الداخلية في حكومته توصيه بأن يتوخى الحذر من مغبة تلغيم سيارته بعبوة لاصقة.. ماذا يكون شعوره؟!

هذا يعني أن المواطن العراقي، بات أحد افراد الاجهزة الامنية دون أن يشعر، ويجب أن يتركز همّه على المساهمة في تحقيق الامن له ولجيرانه ومدينته، وليس في الانتاج والابداع والتقدم. فمن مفردات هذا المواطن؛ طالب المدرسي والجامعة، والفلاح والمهندس والطبيب والصناعي والحرفي وغيرهم. وهذا يعني – في حال تكريسه كأمر واقع- أن نشهد المزيد من التدهور والتقهقر في الواقع الصناعي والزراعي والتعليم، وعموم البنية التحتية اللازمة لبناء بلد متطور واعد. وهذا ما لا نتمناه بالمرة، فماذا عن مسؤولينا الامنيين والسياسيين؟!

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 28/آب/2013 - 20/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م