هل فشلت سياسات التقشف الاقتصادية في اوربا؟

حاتم حميد محسن

 

عرّف ليونيل روبنس (Lionel Robbins) الاقتصاد باعتباره دراسة تخصيص الموارد النادرة بين الاستخدامات المتنافسة. هذا التعريف يُعتبر توصيفاً جيداً للاقتصاد حين يكون في حالة الاستخدام الكامل، وحيث تكون كلفة الفرصة للانفاق الحكومي هي مقدار المستبعد من الانفاق الخاص. ولكن ماذا لو كان هناك عجز في الطلب المتراكم فيه تكون موارد الدولة ليست مستخدمة بالكامل – كما في حالة البطالة الاجبارية الكبيرة؟ في هذه الحالة، بقدر ما يؤدي الانفاق الحكومي الى توظيف طاقات غير مستخدمة، فهو سيخلق زيادة في الموارد المتوفرة للاستثمار والاستهلاك. وهذا يمكن قياسهُ تقليديا بـ "المضاعف" او المتعدد – وهو نسبة المخرجات الاضافية لكل وحدة من الانفاق الحكومي. فاذا كان المتعدد يساوي واحد، مثلا، فسوف لن تكون هناك كلفة فرصة للانفاق العام، وبالتالي فان الموارد ستكون غير مُستخدمة.

في مقالة له عام 1933 بعنوان "وسائل الازدهار" جادل (جون ماينرد كينز) بان "مقدار المتعدد سيكون على أقل تقدير 2 ". زيادة الضرائب وتقليل مدفوعات المساعدات الاجتماعية سوف يقللان الى حد كبير من صافي تكلفة الميزانية للتوسع المالي. لكن هذا الحساب يتوقف صراحةً على "الظروف القائمة". في ظروف الاستخدام العالي، وكما لاحظ الاستاذان J Bradford Dlong و Lawrence Summers في ورقتهما لمارس 2012، ان "سياسة المتعدد القريب من الصفر هي في الحقيقة افضل تقدير لعمل السياسات الموجهة نحو اهداف محددة ". سوف لن تكون هناك اي مخرجات من زيادة الانفاق، وانما ستنتج فقط زيادة في الاسعار.

ان التناقض بين رؤية روبنس وبين رؤية كنز انعكس في النقاش العنيف الدائر في اوربا حول المدى والسرعة التي تتم بها سياسة التقشف (fiscal consolidation (1 في الظروف الحالية. الرسالة التي سنفهمها من النقاش المبكر هي ان خطط التقشف يجب ان تأخذ بالاعتبار تأثير العوامل الخارجية الايجابية(2). فمثلا، "التقشف" في زمن الركود هو اسيء فهمهُ: ذلك لأن احد ما سوف يستغل التأثير الخارجي الايجابي للانفاق العام لكي يوسّع الطلب. هذا باختصار، ما يقولهُ الرئيس الاقتصادي الأعلى في صندوق النقد الدولي اوليفر برانشد في ورقته الأخيرة التي كتبها مع زميله (دانيل لي).

في الحقيقة، ديلونك وسومر طرحا حجة اكثر قوة بالنسبة للانفاق الحكومي في زمن الركود. هذا الانفاق لا يخلق فقط فوائد ايجابية بالنسبة للمخرجات الحالية وانما يتجنب ايضا التأثيرات السلبية للفاصل الزمني (hysteresis effects (3 على مستقبل العرض. الحجة هي ان العوامل غير المستخدمة حالياً ذاتها ستصبح اقل استخداما في المستقبل.

وكما بالنسبة لكنز، كان ديلونك وسومر مهتمان بهدر الموارد غير المستخدمة وبكيفية تخفيف ذلك الهدر. لا شيء في تحليلهما يرفض سياسة التقشف المالي الاضافي ان كان ذلك ملائما وذلك عبر خفض الانفاق لتقليل نسبة الدين الى الناتج الاجمالي المحلي GDP، حينما يعود الاقتصاد الى حالة الاستخدام الكامل.

اما آخر المساهمات في نقاش التقشف تتمثل بآراء Ryan Bourne و Tim Knox من مركز دراسات السياسة. هما يعتقدان ان ديلونك وسومر يجب ان يكونا مخطئين لأن الحوافز ستعني "شيء مجاني"، ملتن فريدمن قال بعدم وجود شيء من هذا القبيل. هما استمرا للتحقق من اي دليل عن وجود تأثيرات الفاصل الزمني وحذّرا من ان مخاطر كلفة الاقتراض قد تكون أعلى مما يفترضه الرجلان. فكم هي خاطئة هذه النقاشات؟

ان القضية الجوهرية الآن، كما في الثلاثينات من القرن الماضي، هي ماذا يُتوقع ان يفعل وكلاء القطاع الخاص من اجل مصالحهم. اذا كان الطلب المتراكم يقع وبمسافة بعيدة دون العرض، سيكون هناك حافز كافي للحكومة اما نحو زيادة الانفاق العام مباشرة او بدعم انفاق القطاع الخاص. اذاً كيف ستبدو الامور؟

على مدى ثلاث سنوات من ادارة وزير الخزانة جورج اوسبن كان اداء الاقتصاد البريطاني سيئا جداً: الناتج المحلي الاجمالي اليوم يقف عند 2.6% نقطة اقل من اعلى مستوى بلغهُ قبل الركود، وهي أدني نسبة انتعاش منذ القرن التاسع عشر. الشركات تعمل تراكمات نقدية كبيرة، ارباب المنازل المثقلون بالديون يتوقفون عن الانفاق، الاقتصاد عمليا في ركود تام. إرخاء السياسة النقدية ربما خفف من الركود لكنه لم يحفز الانتعاش. ولذا فان ظروف التأثيرات الخارجية الايجابية من سياسة التوسع المالي هي متحققة.

ماذا عن حجة ان كلفة خدمات الديون أعلى مما يسمح به الاقتصاديان ديلونك وسومر؟ المردود من الاقراض المرتبط بحركة التضخم في المملكة المتحدة هو في الحقيقة اقل من صفر – اقل من النسبة التي يفترضها ديلونك وسومر في تحليلهما.

ان بورن ونوكس يتجاهلان التأثيرات اللاحقة للفاصل الزمني، وهما يستشهدان بعمل اقتصادي امريكي لم يجد دليلاً على ان " الزيادة المؤقتة في الانفاق الحكومي ادت الى زيادة دائمة في المخرجات في الماضي". لم نحصل على اي معلومات عن البيانات التي تقود الى مثل هذا الاستنتاج: ولكن ما لم يتقيد الانفاق بالفترات التي فيها قدرات احتياطية مؤكدة، فانه سوف يخطئ الهدف.

ليس فقط في المملكة المتحدة وانما في اوربا كلها ادت سياسات التقشف بتوقيتها الخاطئ لتلقي بضلالها قبل كل شيء على الشباب ليعانوا من الفقر والبؤس. اذاً لماذا لا يتم اجراء التقشف المالي في وقت لاحق حينما تكون الكلفة اقل كما يذكر بلانشرد و لي؟. الحجة المضادة المألوفة هي تتعلق بالمصداقية: لا يمكن للمرء الوثوق بالحكومة التي تنفق المزيد اليوم وتقول انها ستنفق القليل لاحقاً.

هذه ليست الحجة التي يستخدمها بويرن ونوكس لكنها تستحق الاهتمام الجدي. ما تقترحه هو ليس تشجيع التقشف وقت الركود وانما تدعو الى التخطيط المتوسط الأجل للتقشف عند الانتعاش.

الاقتصاديان الاثنان يشجعان اعتماد سياسة مالية غير ملائمة في سعي مهزوم ذاتيا نحو اهداف بعيدة المدى في تخفيض الدين. السياسة الصحيحة هي – تقليل الخسائر في المخرجات الآن لأن التقشف الحالي هو ذو نتائج عكسية وان الاقتصاد النشط سيدعم الهدف البعيد المدى في خفض الدين- انها سياسة ستكون اكثر عقلانية واكثر انسانية.

..............................................

Marcus Miller and Robert Skidelsky، كل منهما بروفيسور في الاقتصاد في جامعة وارك- بريطانيا.

هوامش توضيحية:

(1) وهي سياسة تعتمدها الدولة للعمل وفق ما متاح لديها من وسائل (خفض الانفاق الحكومي وزيادة الضرائب) لأجل خفض العجز المالي والدين العام. هي تتضمن جهود لرفع العائدات وخفض الهدر في الانفاق العام مثل الإعانات. هذه السياسة تتطلب من الحكومة المشاركة في العملية ضمن ممارسة طويلة المدى تنطوي على خارطة طريق للإصلاح المالي بدلاً من الاقتصار على إعلان ميزانية لمرة واحدة.

(2) التأثيرات الخارجية الايجابية هي المنفعة التي يتمتع بها طرف ثالث غير مشارك في العملية الاقتصادية. الطرف الثالث قد يكون فرداً او منظمة او صاحب ملكية. الافراد الذين يستفيدون من التأثيرات الخارجية الايجابية دون ان يدفعوا تكاليفها يُطلق عليهم "المستهلكين مجاناً "، وانه من مصلحة المجتمع تشجيع هؤلاء المستهلكين على استهلاك السلع التي تخلق منافع خارجية كبيرة.مثال على ذلك التعليم، حيث ان المهارات التي تقدمها الجامعة للفرد يمكن ان تنفع الجالية بعدة طرق. ان دور الحكومة هو تشجيع التأثيرات الايجابية وذلك اما من خلال زيادة العرض او زيادة الطلب للسلع والخدمات والموارد التي تولّد منافع خارجية. في جانب العرض، المنح والاعانات التي تقدمها الدولة للمنتجين ستساعدهم في خفض كلفة انتاج السلع والخدمات. الطرق والجسور والمطارات كلها تولد منافع خارجية ايجابية. اما في جانب الطلب ذلك يتمثل بالسعي لخفض السعر الذي يدفعه المستهلك، مثل إعانات اجور الدراسة في الجامعات تشجع الطلاب على الدراسة وبالتالي المزيد من المنافع للاجيال القادمة.

(3) وهو مصطلح من اصل يوناني يعني "العجز". وضعهُ المهندس والفيزيائي الاسكتلندي sir James Ewing)1935-1855)، ويشير الى الانظمة والمجالات التي تمتلك ذاكرة، حيث ان نتائج اي مدخلات ستظهر بعد فاصل زمني. في مجال الاقتصاد يحصل تأثير العامل الزمني عندما يضطرب الاقتصاد متأثراً باحد العوامل، مثل التأثيرات المؤجلة للبطالة. عندما تزداد البطالة، المزيد من الناس يتكيفون مع المستوى المتدني الجديد للمعيشة. وحين يصبحون معتادين على هذا المستوى المتدني، سوف لن يبقى لديهم التصميم والرغبة لبلوغ المستوى السابق للمعيشة. ومع تزايد أعداد الناس العاطلين عن العمل سيكون هناك قبولاً اجتماعياً اكبر للفرد ليبقى عاطلاً. ومتى ما عاد سوق العمل الى وضعه العادي المألوف، سيفقد بعض العمال الرغبة والحافز للرجوع الى سوق العمل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 25/آب/2013 - 17/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م