سياسة بناء الإنسان من واقع الإسلام

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: لماذا تفتقد مجتمعاتنا قدراً كبيراً من حسن السيرة والسلوك..؟ ولماذا يغيب التعامل الإنساني فيما بيننا؟ وينعدم احترام الآخر؟ ويتراجع الشعور بالمسؤولية إزاء الآخرين؟ إنها قيم اخلاقية ومفاهيم انسانية تُعد من اللبنات الأساس في بناء أي أمة طامحة للتقدم وتحقيق النجاح.

في البلاد التي تسعى للانطلاق في عملية البناء الشامل مثل العراق، قال البعض: الأولوية للتخطيط والبرمجة والافكار.. فيما قال البعض الآخر: الأولوية للتجارب العملية الموجودة في البلاد المتقدمة، وآخر قال: المهم التخصيصات المالية، بدعوى أن المال يصنع المعجزات..! وأكثر من ذلك كله؛ قال البعض: نحن بحاجة الى "تجربة إنسان"،  وليس تجربة النظرية والفكرة والخطة.. بمعنى أن علينا استيراد النموذج الغربي – مثلاً- للإنسان المنظّم، والملتزم، والمنتج، ليحلّ محل إنساننا الكسول، واللامسؤول، والأناني و...، وفي خطوة مختصرة يذهب البعض الى تقريب هذا النمط او النموذج الى الذهنية الموجودة لدينا (لإنساننا) من خلال مطالعة الكتب وتنظيم الدورات وتلقي الدروس المحاضرات وتنظيم الورش الخاصة بهذا المضمون، حتى يتحقق للإنسان التجديد الذاتي – إن صح التعبير- ويتمكن من طيّ مرحلة الماضي المتخلف.

إنه لأمرٌ جيد وحسن، أن يكون التفكير والهمّ في المسألة الأساس خلال عملية البناء المجتمعي والحضاري، وهي "بناء الإنسان"، لكن ما يثير الحزن والأسف حقاً؛ ان نكون على مقربة من المعين الزلال، ثم نهيم على وجوهنا هنا وهناك، غير مستشعرين وجود هذا المعين بين أيدينا، متمثلة بسيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، وهذا ما ينبهنا اليه سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي – دام ظله- في كتابه "السياسة من واقع الإسلام"، حيث يشير بوضوح لا لبس فيه، أن النبي الأكرم هو أول من بدأ عملية البناء الإنساني، فهو، صلى الله عليه وآله، بدأ في المرحلة الاولى بهدم وإزالة مظاهر الشرك، وأرسى دعائم التوحيد، ثم كافح القيم اللا اخلاقية واللا انسانية في المجتمع المكّي الجاهلي، وفي مرحلة لاحقة بدأ ببناء الإنسان بكل جوانبه؛ النفسية ، والاجتماعية، والمادية، والبدنية، وغيرها.

من هنا نستلهم من هذا الكتاب القيّم، أن مسؤولية بناء الإنسان تقع على عاتق القيادة بالدرجة الاولى، ثم يكون للإنسان نفسه دورٌ تكميلي وتفاعلي مع هذا المشروع. والقيادة هنا يمكن ان تكون قيادة روحانية متمثلة بالمرجعية الدينية والحوزة العلمية، أو قيادة سياسية، متمثلة بالحكومات والأنظمة السياسية الحاكمة في بلادنا. وهذا تحديداً ما فعله النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، خلال السنوات العشر الاخيرة من عمره الشريف التي قضاها في المدينة. وعندما نتحدث في أدبياتنا عن سرعة انتشار الاسلام، وقوة تأثيره في النفوس الى ما وراء البحار والوديان، في أقاصي العالم، إنما الفضل يعود الى تلك اللبنات الذهبية التي وضعها نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله، في هيكل المجتمع الاسلامي الأول، فلم يعد الانسان العربي في الجزيرة العربية، ذلك الجاهل والقاسي والمعاند، إلا بعض الشواذ في المجتمع ممن ظل متمسكاً بنزعاته الدموية والسلطوية، مفضلاً المصالح الشخصية والقبلية على الدين والقيم.

لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي "أن النبي صلی الله عليه و آله، كان يتولّى تربية أفراد الأمّة بنفسه غالباً، ومهما سنحت الفرص، فيندمج معهم في الحديث، ويخوض حيثما خاضوا، ويصحح ما أخطأوا إمعاناً في جلب قلوبهم إلى الله ورسوله، وتعميقاً في هدايتهم إلى سبيل الله والرشاد..". ويعضد سماحته الفكرة بآيات من الذكر الحكيم: "لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين"، وقوله تعالى، نقلاً عن دعاء إبراهيم الخليل عليه السلام : "رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ويُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ" وقوله تعالى: "كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ). ويقول ايضاً: "وكان في حديثه صلی الله عليه و آله، مع المسلمين يندمج معهم كاملة، اندماج المعلّم العطوف المربي الذي يحب أن يصعد بنفسيتهم وثقافتهم وتربيتهم".

النبي.. القائد والمعلّم

وعندما يكون الحديث عن المعلم والمتعلم، ربما يتبادر الى الأذهان أجواء المدرسة، فهنا معلّم أو مدرس، وهناك طالب عليه السمع والطاعة لكسب العلم، وإلا فان الذي يسرح بذهنه بعيداً اثناء الحصة الدراسية، أو يجد فيه المعلّم قصوراً في الفهم والاستيعاب، فانه في أحسن الاحوال، سيتجاهله ولا يعبأ به بالمرة. بينما نجد الرسول الأكرم حيث يعبّر عنه سماحة السيد المرجع بأنه "المعلّم العطوف والمربي"، يقوم ليس فقط بدور المعلّم والمبلغ، إنما بدور أبوي حنون على الإنسان، فيعزز التعلّم ويحببه في النفوس، بحبه للآخرين والاندماج معهم ومراعاة مشاعرهم واحاسيسهم. واعتقد جزماً؛ أن هذه الفقرة بالذات، هي ضالة الكثير من المعنيين بأمر التبليغ والتربية والتعليم في عموم بلادنا الاسلامية. بل ذهب البعض الى أبعد من هذا في الانحراف عن سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، بانتقادهم من يتحلّي بالتواضع والتواصل مع الآخرين، بل حتى عدم احترامه وتهميشه من دائرة الرموز العلمية والفقهية اللامعة..!

سماحته يدعونا الى مطالعة السيرة النبوية الشريفة، عندما يعدد الحالات التي كان يمارسها ويكرّسها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وهي:

1- يكرر ثلاثاً

روي عن ابن عباس أنّه قال: كان رسول الله صلی الله عليه و آله إذا حدّث الحديث أو سُأل عن الأمر، كرره ثلاثاً ليفهم ويفهم عنه.

يقول سماحته معلقاً على الرواية: "ولعل معنى الخبر: لكي يفهم المخاطبين، ولكي لا ينقل خطأ أو سهواً، أمر آخر، عند ما ينقل عنه الحديث.. ويظهر من هذا الخبر أنّ التكرار كانت عادته، صلی الله عليه و آله، الغالبة على كلماته الشريفة.

2- يخوض فيما يحدّثون

روي عن زيد بن ثابت أنّه قال: إنّ النبي صلی الله عليه و آله، كنا إذا جلسنا إليه صلی الله عليه و آله، إن أخذنا بحديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا، فكل هذا أحدثكم عن رسول الله صلی الله عليه و آله.

يقول سماحته: "الدنيا، الطعام، الشراب، هي التي لا يفكر فيها رسول الله صلی الله عليه و آله إطلاقاً و أبداً، ولكنه لكي يستبقي على عواطف المسلمين، ولكي لا ينفروا منه كان يدخل في الحديث معهم في الدنيا، والطعام، والشراب.

3- يكرم بوسادته

روي عن سلمان الفارسي رحمه الله أنه قال: دخلت على رسول الله صلی الله عليه و آله، وهو متكئ على وسادة، فألقاها إليّ، ثم قال صلی الله عليه و آله: "يا سلمان ما من مسلم دخل على أخيه المسلم فيلقي لـه الوسادة إكراماً لـه إلا غفر الله له". يقول سماحته في ذلك: "و وسادته التي اتكأ صلی الله عليه و آله عليها يلقيها إلى سلمان رحمه الله تعميقاً في التلاحم بين القائد والقاعدة، وتعليماً للمسلمين لكي يمارسوا هذا التلاحم في كل الأبعاد وكافة المجالات.

4- رمى ثوبه إليه

روي عن جرير بن عبد الله قال: إنّ النبي صلی الله عليه و آله دخل بعض بيوته فامتلأ البيت ، ودخل جرير فقعد خارج البيت فأبصره النبي صلی الله عليه و آله، فأخذ ثوبه فلفه فرمى به إليه وقال: اجلس على هذا، فأخذه جرير فوضعه على وجهه فقبّله.

5- لا يعرف في مجلسه

وعن أبي ذر أنّه قال: كان رسول الله، صلی الله عليه و آله، يجلس بين ظهراني أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيّهم هو حتى يسأل..

6- يبدأ بالسلام

وكان رسول الله صلی الله عليه و آله، إذا مرّ على جماعة بدأهم بالسلام، حتى قال بعض أصحابه: إنّه كلما أراد أن يبدأ النبي صلی الله عليه و آله، بالسلام ـ إذا التقى به ـ فإذا بالنبي صلی الله عليه و آله يسبقه ويسلّم عليه.

7- مجلسه حلقة

روي عن أنس بن مالك ـ خادم رسول الله صلی الله عليه و آله ـ قال: كنا إذا أتينا النبـي صلی الله عليه و آله جلسنا حلقة.

أمام الرئيس خياران: البناء أو الهدم

هذه الفقرة، يسلط عليها سماحته الضوء بدقة لما لها من أبعاد اجتماعية وسياسية هامة، يقول: "هذا الخلق الرفيع الذي لا يدع المجلس صدراً و ذيلاً، ولا تهان كرامة أحد في المجلس لا عند الناس، ولا عند نفسه، فكل جالس في مثل هذا المجلس الدائري هو المبتدأ به، وهو الأخير، وهو الوسط.. هو الذي اتخذه الرسول صلی الله عليه و آله لسياسة جلساته مع المسلمين".

ويضيف سماحته موضحاً: "وقد تعلّم العالم هذا الخلق عن النبي الأكرم، صلی الله عليه و آله، بعد ما سار التمدّن فيه أكثر من عشرة قرون. ولذلك تجد مجالس البرلمان، ومجالس الوزراء، ومجالس الساسة ـ في كثير من بلدان العالم اليوم ـ دائرية".

طبعاً؛ سماحته ذكر العديد من الحالات والصفات التي قدمها لنا نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله، دروساً مضيئة، إلا اننا اقتطفنا بعضها مراعاة للحيز المحدود. ويؤكد سماحته على حقيقة هامة للغاية في هذا المجال؛ وهي أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، بسلوكه ومواقفه وأعماله بين المسلمين، نجح في أن يكمل صورة الإسلام أمام التاريخ ولدى الأجيال القادمة، ولن يكون باستطاعة شخص او جماعة أن تختط طريقاً ملتوياً للمسلمين وتأتي بنظام ومنهج وسلوك جديد، فتحرم وتكفّر وتأمر بما لم ينزل به الله من سلطان. لذا يقول: "نسجّل هذا لكي لا يتصدّى لتعريف الإسلام من يجهل الإسلام. وينقطع الطريق على الذين يشوهون بأقلامهم الإسلام. وتبرأ ساحة الإسلام الناصعة من كل ما يمارس باسم الإسلام في أكثر البلاد الإسلامية ـ في هذا العصر ـ مما الإسلام منه براء".

وهنا يضع سماحته يده على الجرح، فالحاكم الذي يدّعي الإسلام وهو يمارس سلوكاً ويتخذ مواقفاً وينتهج نهجاً بعيداً عن الإسلام، لن يكون جديراً بأن يقود المسلمين، في أي بلد كان، كأن يكون رئيساً للوزراء أو رئيساً للجمهورية أو ملكاً أو قائداً، لأن ببساطة، المسلم الذي يعتزّ بدينه وقيمه ويقدّس نبيه الكريم، ويعده الشخصية الاولى في العالم، بل ويفخر به أمام العالم والأمم بأنه يتبع هكذا شخصية عظيمة، بحاجة الى من يجسّد له تلك العظمة وتلك الصفات والحالات الحضارية والتنموية ما أمكن، والتي من شأنها ان تنتشله من واقعه المزري والمأساوي الحالي الى مراقي التطور والتقدم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 22/آب/2013 - 14/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م