أصدقاء إيران يدفعون الثمن

د. خالد عليوي العرداوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

 

هناك مقولة في السياسة مفادها: صديق عدوي عدو لي، وهي مقولة صحيحة إلى حد بعيد، لأنه عند تحليل ما يجري في منطقة الشرق الأوسط من أحداث وتقلبات درامية، يتضح وبما لا يدع مجالا للشك، أن هذه الأحداث ليست بعيدة عن ظاهرة الاستقطاب الإقليمي - الدولي الشديد الذي تشهده هذه المنطقة بين إيران والدائرين في فلكها من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل والدائرين في فلكهما من جهة أخرى، وتترك هذه الظاهرة تأثيراتها المباشرة على شكل صراعات سياسية عاصفة تتركز ساحاتها الرئيسة في دول عدة منها: العراق، سوريا، مصر، لبنان، اليمن نوعا ما، البحرين، وقد التحقت بهذا الركب تركيا بشكل ما مؤخرا.

فما يحدث في العراق على مدار السنوات العشر المنصرمة، يحكم بالإفلاس على الرواية الرسمية للحكومات العراقية المتعاقبة، التي ترجع أسبابه إلى تنظيم القاعدة وبقايا البعثيين والجماعات والمليشيات المتطرفة.. لأن الهجمات والتفجيرات في هذا البلد لا يوجد لها نظير في باكستان وأفغانستان، وهما البلدان الذين يشكلان مقر القاعدة ومهدها الأول في العالم، على الرغم من وجود القوات الأمريكية والدولية المحتلة المستفزة للشعور الديني والوطني هناك، فكيف يعقل أن يمتلك أيمن الظواهري زعيم القاعدة الحالي، وسلفه أسامة بن لادن القدرة، والإمكانية لتحريك الأحداث وإثارة المشاكل السياسية إلى حد السعي لكسر الإرادة السيادية لحكومات وشعوب دول مثل العراق وسوريا واليمن وغيرها، ولا يمتلكان مثل هذه القدرة في أماكن تواجدهما وقيادتهما المباشرة؟

 قد يقول قائل أن التفجيرات والعمليات المسلحة تحصل – أيضا - في باكستان وأفغانستان، لكن الرد على هذا القول أنها لا تقارن بتلك التي تحصل في الدول الأخرى المذكورة أعلاه، كما أن العمليات التي تحصل في باكستان اغلبها موجه نحو أبناء المذهب الشيعي، وليس نحو النظام السياسي القائم، إذا فان تحميل تنظيم القاعدة والبعثيين والتكفيريين والمليشيات.. فقط مسؤولية التدهور المستمر للأوضاع في العراق، يعد قراءة سياسية قاصرة وغير دقيقة، وتضخيم مقصــود لدور هذه القوى للتغطية علـــى المــحرك الحقيقي للأحداث والمسؤول الأول عن استمرارها؟.

وإذا نظرنا إلى الصراع الدائر في سوريا اليوم، سنجد انه قد خرج عن موضوع كونه صراعا بين نظام حكم مستبد، وبين شعب يكافح من اجل نيل حريته وبناء نظامه الديمقراطي، سواء على مستوى طبيعة الصراع وحجم الدمار الذي يخلفه أو على مستوى الأجندات الفكرية المطروحة، والتدخلات الدولية التي تفرض نفسها، فلماذا أخذ الصراع هذا المدى؟ ولماذا أصبح الدكتاتور الحاكم بالنسبة للبعض رمزا دينيا، وسياسيا، ونضاليا، يستدعي الواجب الشرعي مناصرته، في الوقت الذي يتم شيطنة كل معارضيه والرافضين لوجوده، فيما تكون المعارضة له عند البعض الآخر جهادا شرعيا، وعملا بطوليا، وصرخة تحررية، حتى لو لبس بعض أطرافها ثوب البربرية والانحطاط والظلامية، في الوقت الذي يتم شيطنة النظام ولعنه والتبرؤ من وجوده؟

وعند تحليل أحداث مصر منذ ثورة 25 يناير 2011 التي جاءت بالإخوان المسلمين إلى سدة الحكم بانتخابات ديمقراطية، الظاهر منها أنها كانت نوعا ما أكثر ديمقراطية من كل الانتخابات التي سبقتها في العهود السالفة، مرورا بمظاهرات الثلاثين من يونيو 2013 وما تبعها من أحداث انتهت بتدخل العسكر وإسقاط حكم الإخوان، وجاءت بمرحلة انتقالية مؤقتة لا تقبل الإخوان كطرف فاعل فيها برئاسة المستشار الحقوقي عدلي منصور، فيما سارعت السعودية والإمارات والكويت إلى مساعدة نظام ما بعد مرسي اقتصاديا، بمباركة دول خليجية وإسلامية وعربية أخرى، مع اكتفاء الولايات المتحدة والغرب بالاعتراض والشجب الخجول لما تعرض له حكم الاخوان. أن الأمر يشير إلى أن المشكلة لا تكمن فقط بأخطاء الإخوان السياسية في سنة حكمهم اليتيمة، بل له أسباب أخرى لا تظهر للعلن؟.

وفي تركيا، تجد أن ما بدا للكثيرين انه نظام ناجح، ومستقر على المستوى السياسي والاقتصادي والثقافي، بزعامة حزب العدالة والتنمية، يتعرض بشكل مفاجئ إلى مشاكل شعبية عاصفة حول قضية غير متوقعة تتعلق بإعادة التخطيط العمراني لميدان تقسيم، فيصل الأمر بالاتحاد الأوربي، ردا على هذه الأحداث إلى إعادة النظر بطلب تركيا الانضمام إلى عضويته العتيدة، مع تضخيم إعلامي مقصود لتشويه صورة النظام الحاكم - الشعبية والدولية - وتقييد مساحة مناوراته السياسية الإقليمية والدولية. إن دراماتيكية الحدث تشير – أيضا - إلى أن للموضوع امتدادات اكبر من ميدان تقسيم، بل واكبر من تركيا ذاتها؟.

وفي لبنان يشتد التضييق على حزب الله، لتقييد حرية تحرك كوادره، وتشويه صورة حلفائه، واستنزاف قدراته من خلال الصراع السوري، وإرسال رسائل قوية وواضحة إليه بأنه إذا لم يعدل خطابه السياسي ومواقفه الإيديولوجية، فانه سيحترق هو ولبنان كله معه، ومن هذه الرسائل حادثة تفجير الضاحية الجنوبية حيث المقر الحصين للحزب في منتصف شهر آب 2013، فلماذا هذا التحدي والتهديد الخطير لوحدة لبنان أرضا وشعبا بهدف إخضاع حزب الله وكسر إرادته؟.

وفي فلسطين، هناك محاولة أمريكية لإطلاق جولة جديدة من المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية في مرحلة حرجة تواجهها المنطقة، كما تواجهها مقاومة هذا الشعب للكيان الغاصب لأرضه، مع إقصاء واضح للطرف المتشدد في المطالبة بحقوقه الذي تمثله حركات المقاومة الإسلامية، فلماذا هذا التوقيت بالذات للحديث عن جولة المفاوضات الجديدة؟.. وعلى هذا المنوال يمكن التساؤل عن تقلبات الأحداث السياسية الجارية في البحرين واليمن؟.

لا نريد الإطالة في سرد كل ما يجري في المنطقة من أحداث قد تبدو للبعض معزولة عن بعضها، لكنها في الحقيقة مترابطة، وتتحكم بمجرياتها، ظاهرة الاستقطاب الإقليمي والدولي التي اشرنا إليها في مطلع هذا المقال، ففي ظل هذا الاستقطاب يجب أن يدفع أصدقاء إيران الواقعيين أو المحتملين الثمن غاليا من خلال تفكيك نسيجهم الاجتماعي، وعدم استقرارهم الأمني، وإضعاف دورهم الإقليمي والدولي، وتدمير بنيتهم الاقتصادية، وإسقاط أنظمتهم الحاكمة أو خلق المشاكل لها، وتشويه سمعتهم إعلاميا، وإثارة مشاعر الشك والريبة حول وجودهم السياسي.. لذا تجد أن العراق يفتقد الاستقرار السياسي والأمني لا لأن تنظيم القاعدة والتنظيمات المتطرفة الأخرى قوية فيه، بل لان حكومته لم تنجح في فك عرى تحالفها مع إيران، كما لم تنجح في اقناع الآخرين بحياديتها، واستقلال مشروعها السياسي، بل بقيت حكومة تتصرف كما لو أن العراق يمثل الفناء الخلفي للسياسة الإيرانية والمجال الحيوي لمصالحها الإقليمية، ومثل هكذا حكومة سواء كانت حكومة نوري المالكي أو غيره، وسواء حكم فيها الشيعة أو السنة، العرب أو الأكراد عليها أن تدفع الثمن، لأنها ستكون حكومة غير مرغوب فيها من المحور المعادي لإيران في المنطقة.

وفي مصر، سقطت حكومة الإخوان، التي على الرغم من أخطائها الداخلية الواضحة التي استفزت البنية الثقافية للمجتمع المصري، ومحاولاتها للانفراد بالحكم، فانه كان يمكن لها أن تستمر وتعالج أخطائها، وتقبل في المنظومة السياسية الإقليمية السائدة، لكن الخطأ الاستراتيجي لهذه الحكومة كان تذبذبها في تحديد شبكة علاقاتها الإقليمية والدولية، ومحاولة رئيسها المعزول محمد مرسي كسر حاجز القطيعة مع إيران، والخروج عن الاصطفاف الإقليمي المعهود لمصر، فكان يجب معاقبة هذه الحكومة ومنعها من تحقيق أهدافها، لأنها – أيضا – أصبحت حكومة غير مرغوب فيها، وهناك سبب آخر سنتحدث عنه بعد قليل.

وفي سوريا ولبنان، لا يحتاج المرء إلى كبير عناء لتلمس هذه الحقيقة، فحكم البعث في سوريا حليف تقليدي لإيران، كما أن حزب الله هو كذلك، فالقضاء على هذين الحليفين، لتصفية النفوذ الإيراني في هاتين الدولتين، هو من ضرورات لعبة التوازنات والاستقواءات بين المحاور الإقليمية، لذا يبدو الدكتاتور السوري لحلفائه مناضل شهم حتى لو احرق البشر والحجر، وقام بكل ما لا يقبله ضمير إنساني حي، بينما يصور أعدائه على أنهم شياطين خبيثة حتى لو كانوا أحرارا مخلصين، هدفهم الأمن والسلام والكرامة الإنسانية، والعكس صحيح بالنسبة لأعداء هذا النظام، فليست القضية قضية ديمقراطية أو حرية أو كرامة شعب أو منهجية مذهب.. تحرك الأحداث والمواقف في هذين البلدين، وسيستمران بدفع الثمن غاليا لتحالفهما مع إيران حتى تنفك عرى هذا التحالف، وما يطيل أمد الصراع في سوريا اليوم هو أن أعداء إيران لا يريدون استبدال عدو بعدو حتى لو كان البديل ديمقراطي وانساني حد النخاع، بل يريدون نظاما جديدا حليفا لهم، ولا يهدد مصالحهم، ومتى ما وجد هذا الحليف سينتهي الصراع بهزيمة احد الطرفين، كما ستواجه لبنان أياما عصيبة تنعكس على بنيته السياسية والاجتماعية والاقتصادية نتيجة مواقف حزب الله الداعمة لإيران..

أما تركيا، فتدفع الثمن بشكل آخر، فهي الداعم والملهم للجماعات الاخوانية في المنطقة، وهذه الجماعات عندما وصلت إلى السلطة في اكبر دولة عربية حاولت أن تكسر قواعد اللعبة المسموح بها، وتغير مواقع اصطفافها، كما أن مواقف رئيس الحكومة التركية أظهرت توجها بارزا في دعم حكومة حماس في غزة على حساب إسرائيل، كما اتخذت موقفا عدائيا لإسرائيل عندما قطمت العلاقة معها بعد حادثة العبارة مرمره، وأصبح إلهامها ونجاحها الاخواني مثار ريبة وشك أمريكا وإسرائيل والغرب وحلفائهما في المنطقة، حيث توجست هذه الأطراف من الطموح الإقليمي التركي الجديد، الذي يتجاوز الخطوط الحمر المرسومة لتركيا، لذا توجب توجيه الضربة إليها مرتين: الأولى بخلق المشاكل الداخلية لحكومتها، ليكون تركيزها على وجودها في الداخل أكثر من تركيزها على التأثير في المنطقة والإقليم، والثانية من خلال إسقاط حليفها الاستراتيجي المستقبلي المحتمل الذي مثله حكم الإخوان في مصر، بل إن تغيير أمير قطر حمد بن خليفة وأقطاب حكمه الرئيسة الداعمة للجماعات الاخوانية لا يمكن قراءته بعيدا عن هذا التحليل، إذ لو نجحت تجربة الإخوان في مصر، وحققت النجاح في تركيا ومصر بدعم قطر والجماعات الاخوانية في المنطقة لكان ذلك كفيلا بخلق محور استقطاب جديد في المنطقة، اقل ما يقال عنه، انه لن يكون ودودا تماما مع المحور الإسرائيلي – الأمريكي – الغربي وحلفائه في المنطقة.

أن ترابط الأحداث في المنطقة، وعلاقتها المباشرة بمواقف مراكز الاستقطاب الرئيسة فيها، وتطورها بالشكل الذي آلت إليه من فوضى عارمة، تبدو للبعض أنها غير موجهة، يهيئ البيئة المناسبة للحديث عن جولة مفاوضات جديد بين الفلسطينيين والإسرائيليين ستصب في مصلحة إسرائيل لا محالة، فما يجري هو محاولة كسر إرادة، وإخضاع للدول والمحاور الرافضة أو المحتملة الرفض والتهديد للمصالح الأمريكية – الإسرائيلية – الغربية وما يرتبط بها من أحلاف، وإعادة إنتاج للقوى والمواقف والأنظمة السياسية، بشكل يبسط الأرضية لخدمة هذه المصالح على المستوى الاستراتيجي القريب والمتوسط والبعيد، لذا إذا شئنا تغيير عنوان هذا المقال بشكل آخر فأنه سيكون: أعداء أمريكا وإسرائيل وحلفائهما يدفعون الثمن.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

www.fcdrs.com

[email protected]

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/khaledalevi.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 21/آب/2013 - 13/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م