الحماقة... غريزة لا ينفعها التأديب!

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: انها أعيت من يداويها.. وهي الناشبة لأضفارها في الاقوال والافعال، في التفكير والسلوك، في السياسة والثقافة والاعلام، وفي كل زاوية يسقط عليها ضوء الشمس، او كل بقعة يلفها الظلام بعد مغيبها في عراقنا، عراق الأفاعيل المبهرة والاعاجيب الباهرة.

هي الطائعة والمطيعة لكل اشارة من اي يد تلوح بها اليها، وهي البضاعة الرائجة في سوق السلع المطلوبة شراءا، اقتناءا رغم انتهاء صلاحيتها، او هكذا يظن الحالمون.

كتب "إراسموس فون روتردام" مادحا لها، لانها الحال والاحوال لتزييف الوعي وتزييف العقول، مثلما هزل معنا هوميروس حول الضفادع والفئران، وفيرجيلوس في "تبعيض" البعوضة، وإيسوكراتس في مديح الظلم، وسينيسيوس في مديح الصلع، ولوقيانوس في مديح الذباب والطفيليات. كما كتب احدهم، محتفلا بها على عادة اليائسين.

غير أنَّ إراسموس في "مديح الحماقة" يختلف عن هؤلاء الكتَّاب؛ إذ هو ينتصر للعقل والحرية.

إراسموس في كتابه (مديح الحماقة) كأنَّه يهجو الحماقة وليس يمدحها فحسب، لأنَّه يريدنا أن نتحامق ونمرِّرها؛ ونقبلَ بالجمهور الأكثرِ بلاهةً وقذارةً من البشر ـ بالتجَّار؛ الذين لا بدَّ من وجودهم، فيمارسون العمل الأكثر إثارةً للاشمئزاز ـ التجارة. تجارة في كل شيء ولأجل اي شيء، من اجل الهة الزمن المعبودة في عصرنا وما اكثرها.

وإراسموس في كتابه حين كتبه كان متأثَّراً بكتاب "سفينة الحمقى" لسيباستيان برانت، يدافع بقوَّةٍ عن حريَّة البحث عن الحقيقة، وهذا ما أعطى مديحه قوَّة مقاومة الاضطهاد الفكري والسياسي الذي يمارسه رجل الكهنوت ورجل السياسة على البشر.

يقول حكماء النفوس ان الحمق غريزة. فاذا بلغك ان غنيا افتقر, فصدق واذا بلغك ان فقيرا استغني, فصدق واذا بلغك ان احمق استفاد عقلا فلا تصدق. فالحمق فساد في الذهن موضوع في اصل الجوهر وهو غريزة لا ينفعها التأديب وانما ينتفع بالتأديب من اصل جوهره سليم. والناس يتفاوتون في العقل وجوهره ومقدار ما اعطوه منه. ولهذا يتفاوت الحمق. ومن اسماء الحمق الرقيع الحائق، الازبق، الهجهاجه، الهلباجه، الخطل، الخرف، المسلوس، الفقاقه، الانوك، الطابقاء، وغيرها كثير ولو لم يكن من فضيلة للاحمق الا كثره اسمائه لكفي. واذا اردت ان تعرف عقل الرجل من مجلس واحد فحدثه بحديث لا اصل له, فان رايته اصغي وقبله فاعلم انه احمق وان انكره فهو عاقل.

 ومن خصال الاحمق فرحه بالكذب من مدحه وتأثر بتعظيمه, وان كان غير مستحق لذلك.

 والاحمق ان اعرضت عنه اغتنم, وان اقبلت عليه اغتر, وان حملت عنه جهل, وان احسنت اليه اساء, وان اسأت اليه احسن اليك.

وصنف الاحمق من خلال صفاته، فهو (إذا استغنى بطر، وإن افتقر قنط، وإن قال فحش، وإن قيل له لم يفقه، وإن فرح أشر. ويعرف بالعجلة والخفة والجفاء والغرور والسفه والجهل، والغضب من غير شىء، والإعطاء فى غير حق، والكلام من غير منفعة، ولا يفرق بين عدوه وصديقه، ويتوهم أنه أعقل الناس، مع أنه عدو نفسه بما يسببه لنفسه من الضرر).

ومما يميز الاحمق من خصال وافعال: ترك النظر في العواقب, والثقة بمن لا يعرفه والعجب وكثره الكلام ومن علامات الحمق ايضا الخلو من العلم. فالعقل لابد ان يحرك الي اكتساب شيء من العلم وان قل. وهي صفات لا تكاد تغادر روزنامة ايامنا، فهي معنا في برامجنا الاعلامية وفي تصريحات نوابنا، وفي زعيق ساستنا، يسخر الجمهور منهم، طيلة اليوم ليتحامق ويمنحهم فرصة اخرى، تلو الاخرى، فرحا وهو يصبغ اصبعه بالبنفسج، من يضحك على الاخر؟

 قيل لعيسى بن مريم عليهما السلام: يا روح الله، إنك تُحيي الموتى؟ قال: نعم؛ بإذن الله. قيل: وتُبرئُ الأكمَهَ؟ قال: نعم بإذن الله. قيل: فما دواء الحمق؟ قال: هذا الذي أعياني".

وقال بعض الحكماء: "من أخلاق الأحمق: إن استغنى بطر، وإن افتقر قنط، وإن فرح أشِرَ، وإن قال فحُش، وإن سُئل بخِلَ، وإن سأل ألحَّ، وإن قال لم يُحسن، وإن قيل له لم يفقه، وإن ضحك نَهَقَ وإن بكى خارَ".

انها الحماقة التي قال الشاعر فيها: لكل داء له دواء يستطب به... إلا الجهالة أعيت من يُداويها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 20/آب/2013 - 12/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م