
شبكة النبأ: ما أفرزته أحداث العنف
الدموية في العراق حالياً؛ إصرار حكومي على تصفية أوكار الارهابيين في
بغداد على وجه التحديد، ورد فعل عنيف وهستيري من لدن الجماعات
الارهابية، أو ربما جماعة واحدة، لا أحد يعرف.. فالاجهزة الأمنية،
متمثلة بوزارتي الداخلية والدفاع، بامكاناتها الضخمة وتخصيصاتها
المالية، تؤكد أن لها الأرض والشرعية، وليس من السهل زعزعة الاستقرار
السياسي والاجتماعي من خلال انفجار هنا وآخر هناك. بينما نجد من يقف
خلف هذه الانفجارات، يبعثون الرسالة تلو الأخرى على أنهم موجودون ايضاً
على الأرض، مدعومين بأموال سخية من الخارج (الاقليمي)، بما يجعلهم
قادرون على تحدي الدولة بأكملها والنظام السياسي القائم عندما يكونوا
مهمشين أو محاربين. والمثال البارز والجديد على هذه الجدلية، العمليات
الأمنية التي تقوم بها الحكومة بما يعرف بحزام بغداد. وما أعقبها من
ردود فعل جنونية، في بغداد نفسها، حيث انفجرت 15 سيارة مفخخة في يوم
واحد، حصدت خلاله العشرات بين شهيد وجريح.
والشعار الذي ترفعه الحكومة برئاسة نوري المالكي في حربها الشعواء
ضد "الإرهاب"، هو حماية الشعب وتنظيف البلد والوطن من العناصر
الارهابية والتكفيرية. إنها حرب من نوع آخر، ليست على شاكلة الحروب
التقليدية، حيث سوح المعارك المفتوحة والمتاريس وخطوط الجبهات، الأولى
والثانية والثالثة وخط الإسناد، والمشاة، والإسناد المدفعي والجوي،
وغيرها.. إنما هي حرب مفاجآت، وقد استغل "الارهابيون" حرص الحكومة على
تكريس الهدوء والاستقرار الاجتماعي في عموم مدن العراق، فجعلوا هذا
الاستقرار خيلا ملاذ لهم، ليتحركوا بنفس الهدوء والطمأنينة، وينظموا
شبكاتهم ويقيموا ورش التفخيخ وزرع القنابل في أماكنهم الخاصة، كما لو
أنهم يزالون أعمال الحدادة أو النجارة وغيرها..! وهذا ما جعل من الصعب
جداً توجيه ضربة موجعة ومباشرة لهم، مهما أوتيت الحكومة من إمكانات
وخطط واجراءات أمنية.
ثم ان المشكلة الاخرى التي ما تزال تقضّ مضاجع المعنيين بأمر الأمن
في العراق، عدم القدرة على التعامل مع الهوية الحقيقية للإرهابيين، فقد
بات مصطلح "الإرهاب" أو "الجماعات الارهابية"، مهلهلاً وفضفاضاً على
درجة الخرق، فعالم اليوم يقوم في معالجاته وتعاملاته مع مختلف القضايا،
على الشفافية التامة والتحديد، وليس التلبيس وتعكير المياه.
صحيح؛ أننا نسمع بوجود "تنظيم القاعدة" في العراق، بأسماء متعددة،
لكن الصحيح ايضاً، أن جذور هذا التنظيم في الخارج، إنما تمد أذرعها
الاخطبوطية الى أرضنا من خلال "حواضن" متعددة، ربما تكون واضحة بالمجمل
لدى المسؤولين، لكن مع عجز كبير في تحديد هوية هذه الحواضن، فهل هي
عشيرة أو قبيلة أو حزب أو شخص معين أو منطقة معينة..؟! مما يعزز
الاعتقاد لدى القاصي والداني بأن أحداث العنف في العراق لا تحكمها
معادلة واضحة، كما في سائر الدول حتى المتخلفة مثل الصومال، فهناك
جماعات تكفيرية، وأخرى للقرصنة البحرية، واخرى قطاع طرق وهكذا.. مما
تسهل مهمة التعامل معهم. لذا ما موجود في العراق، هو دوامة عنف دموية
لا نهاية منظورة لها.
وما يكرّس هذا الواقع المؤلم والخطير في آن، حالة التشظّي في تحمل
مسؤولية الأمن لدى الساسة العراقيين، حتى بات من المستساغ سماع اتهامات
مباشرة وصريحة من نواب البرلمان للأجهزة الامنية بانها مخترقة، وأنها
غير كفؤة في الحد من التفجيرات والهجمات الارهابية.
هذا ما يتعلق بالوضع الداخلي، أما على الصعيد الخارجي، والدور
الامريكي تحديداً في مسرح الارهاب، فربما يكون وقع الصدمة على وزير
الخارجية العراقي هوشيار زيباري، كبيراً وهو يسمع اللغط في واشنطن حول
طلب العراق بتزويده مروحيات مقاتلة من طراز "أباتشي"، حيث أعرب عدد
كبير من اعضاء الكونغرس معارضتهم للصفقة، بحجة امكانية استخدامها في
سوريا لدعم الموقف العسكري للحكومة السورية، بينما المطّلعون يؤكدون أن
المؤيدين لمشروع الانقلاب في سوريا، يجدون في امتلاك العراق "أباتشي"
يعني قطع الطريق بين العناصر الارهابية المسلحة في سوريا وحواضنها في
العراق. نظراً الى أن هذا النوع من المروحيات تتميز بقدرتها القتالية
الدقيقة في ظلام الليل. هذا في وقت تعاني فيه عديد الفصائل الارهابية
في سوريا من وضع حرج وخطير أمام اكتساح القوات النظامية لمواقعها
والمناطق التي كانت تسيطر عليها، بعد انقلاب ميزان القوة على الأرض
لصالح القوات الحكومية، بعد سلسلة من الاسقاطات والجرائم التي أظهرت
حقيقتهم أمام الرأي العام العالمي، ثم تراجع اوروبا عن وعودها
لتسليحهم، و إنشغال تركيا بمشاكلها الداخلية.
ويبدو أن الحكومة العراقية برئاسة المالكي، ارادت من خلال رسالتها
الطويلة والمفصلة الى الادارة الامريكية بأنها تريد الخروج من الدوامة
لتكون على الطريق لتلمّس النهاية المنظورة لمسلسل الارهاب، فكان
الاعلان عن عجز الحكومة العراقية عن القضاء على الارهاب في العراق
لوحدها، طالبةّ المساعدة الامريكية في هذا المسعى، لاسيما الجهد
الاستخباري، وهذا أمر حسن في كل الاحوال، فالعديد من الدول تستعين
بخبرات وتجارب الآخرين في مكافحة الارهاب والمخدرات وعصابات الجريمة
المنظمة وغيرها. لكن على الحكومة العراقية أن تتذكر دائماً أن مسألة
الأمن، لن تكون سياسية بامتياز، كما انها ليست مهمة عسكرية بحاجة الى
قوات نخبة وخبرات قتالية ومعدات متطورة، بقدر ما هي مسألة تتعلق بالوضع
الاجتماعي ثم السياسي، فالفرد في المجتمع عندما لا يثق بحكومته في أي
مجال كان، ما الذي يدفعه لأن يدافع عنها بالعمل على سلامة الوضع
الاجتماعي او الاقتصادي ثم السياسي، فلا مانع لديه من تفجير انبوب نفط
استراتيجي، أو تخريب منشأة اقتصادية أو انتاجية عامة، أو حتى تفجير
سيارة ملغومة او عبوة وسط أناس أبرياء، لأنه يجد في كل ذلك ، محاولة
منه للتشفّي من الحكومة التي لم تستوعبه ولم تتفهمه. وهذا بحد ذاته، هو
الذي جعل المناطق الغربية في العراق، الحاضن المعلن للجماعات الارهابية
القادمة من الاردن والسعودية وسوريا وغيرها في الايام الاولى للاطاحة
بصدام، فجاءت الخطوة المتأخرة بتشكيل "الصحوات" وتحييد قدر لا بأس به
من هذه الشريحة الاجتماعية وإبعادهم عن الجماعات الارهابية والتكفيرية،
لكن وجدنا حتى النسبة التي يمكن القول أنها قليلة، من هذه الشريحة،
والتي خلقت مشاهد الاعتصام في الانبار والموصل وسامراء، أعادت الى
الأذهان تلك المشاهد المريعة من التكشّر عن الأنياب وحد المخالب
لمواجهة السياسات المتخذة من قبل الحكومة، والتي يصفونها بانها
"جائرة".
وعليه؛ فان المراقبين يرصدون حالة لدى الحكومة الماسكة حالياً بزمام
الملف الأمني في العراق، مفادها؛ أن كل شيء يجب أن يتغير لصالح الدولة،
ولن تنفجر قنبلة واحدة، ولا تثور رصاصة، فيما هي تبقى على حالها دون
تغيير لأنها ربما ترفع شعار "الشرعية"، وما تقوم به من اجراءات أمنية،
تعبر عن إرادة عراقية شاملة، بل انها تمثل العراق برمته، ومن يقاتلها
ويقف في وجهها إنما يقف بوجه العراق! |