هدم البقيع... (90) عاماً على الجريمة

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: بقاء مقبرة "البقيع الغرقد" على مدى تسعين عاماً، على شكل أرض جرداء، ليس فيها إلا الحجر والتراب، وعناصر الشرطة وأزلام الوهابية، يأتي تحت يافطة "التوحيد"، وعدم الشرك بالله، والتوجه اليه وحده، فنفس هؤلاء الأزلام الموجودين في البقيع، منتشرين ايضاً حول مرقد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، ولا يسمحون لأحد أن يطبق الآية الكريمة: "أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة ايهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ان عذاب ربك كان محذورا" (سورة الإسراء /57). أو حتى النظر الى المرقد الشريف للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله، فضلاً عن اتخاذه خير وسيلة في الدعاء الى الله تعالى.

لا اعتقد أن مشايخ الوهابية ومثقفيهم وأكاديمييهم، تفوتهم أحاديث مروية في كتب العامة – وليست كتب الشيعة- تؤكد السنّة النبوية لزيارة القبور والدعاء للموتى والترحم عليهم. منها ما رواه "النووي" عن أبي هريرة، قال: "زار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قبر أمه فبكى، وأبكى مَن حوله... ثم قال: زوروا القبور فإنها تذكركم الموت، والمستحب أن يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون". ونفس هذا الحديث ورد في "سنن ابن ماجة، (ج1/ ص500).

وهذه غيض من فيض، بما يؤكد أن المسألة ليست عقائدية، إنما هي سياسية بامتياز.. فعندما نتحدث عن إعادة بناء قبور الأئمة المعصومين عليهم السلام، وسائر أولياء الله الصالحين في المدينة المنورة وبقاع أخرى، فاننا بالحقيقة نتحدث عن إحياء للرموز المقدسة التي أعلا الله شأنها في الدنيا قبل الآخرة، من خلال مآثر لهم وانجازات للدين والانسانية. وبقاء هذه الرموز راسخة في الأذهان والضمائر والعقول، من خلال مشاهدهم وأضرحتهم، يعني مما يعني، استمرار النهج الرسالي الذي اختطه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله لإنقاذ الانسانية من العبودية والجهل والتخلف والسلام. بينما نجد بموازاة هذا الخط، خطٌ آخر ممتد الى يومنا هذا، يدعو بكل شدّة الى الجهل والدموية وتحريف الحقائق.

إذ القينا نظرة خاطفة على قصة قوم "ثمود" ونبيهم صالح، عليه السلام، نجد أن نبيهم قد أفحمهم بمعجزة باهرة، أن أخرج بإذن الله تعالى، ناقة من وسط الصخور الجبلية، وبعد فترة، ولدت هذه الناقة "فصيلاً" صغيراً، هذا المولود، شكل للمشركين والكفار مصدر خطر ماحق، إذ إن استمرار وجود هذه الناقة وفصيلها وتناسلها، يعني استمرار وجود المعجزة في الأرض، ولا مكان بعد ذلك للكفر بالله وبقدرته ووحدانيته وصفاته الحسنى كلها. لذا كان لابد من القضاء على مصدر الخطر، وهو المعجزة الإلهية، بقتل الفصيل، والذي شكّل بالحقيقة تحدٍ كبير من لدن الكفار للإرادة الإلهية فجاء العذاب وحصل ما حصل من دمار شامل لقوم ثمود. وحسب رواياتنا، فان الأرض لن تصاب بالعذاب الإلهي مهما حصل، كرامة للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله، الذي دعا ربه، فيما كانت الدماء تسيل من بدنه بسبب أذى المشركين: "اللهم أغفر لقومي فانهم لا يعلمون".

من هنا نفهم سر مخاوف "الوهّابية" من الرموز المقدسة، فهنالك رموز مقدسة وكبيرة لديهم، لا يرغبون بوجود من ينافسها في الشارع السعودي، أولاً، ثم الشارع الاسلامي، مع علمهم بالعمق التاريخي والحضاري لتلك الرموز في الضمائر والعقول، طوال اربعة عشر قرناً من الزمن، إلا إن حدة الصراع كحد السيف، وكونه الفاصل بين الحياة والموت، فانهم يفعلون المستحيل لإلغاء أي رمز مقدس بالقرب منهم، وعلى الأرض التي يحتلونها في الوقت الحاضر، ثم يحاولون التمدد الى البلاد الاسلامية ضمن مخطط استراتيجي يحسبونه فاعلاً لدرء المخاطر عن عروشهم في داخل "السعودية"، بتمويل وتسليح جماعات مسلحة تحمل نهج التكفير والتصفية الدموية، لتدمير المراقد المشرفة في البلاد الاسلامية، هذا الى جانب المشروع الدعائي من خلال أبواق اعلامية عديدة، تجادل وتماري في مسألة زيارة مراقد أولياء الله الصالحين.

هذه الحقيقة، تكشف عن حقيقة أخرى من جملة حقائق مغيبة عن الرأي العام، ما تزال تشد اللثام حول وجه النظام السعودي والفكر الوهابي، أكذوبة الولاء للنبي محمد صلى الله عليه وآله. فاضافة الى نكران الاحاديث الجمّة له حول استحباب زيارة القبور للعِبرة والتكريم، فانهم لا يبرحوا يكيلون عليه أنواع الاساءات بشكل غير مباشر.. وكيف لا يفعلون ذلك، وهم في فكرهم الوهابي الضال، لا يجدون في النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، سوى مبلّغ من قبل السماء، ولا شأن له بحياة الانسان والمجتمع وبناء الدولة ومستقبل الأمة. إنما يجدون هذه الصفات في اشخاص آخرين طالما حامت حولهم الشكوك والاستفهامات، في عهد النبي الأكرم، وذلك في حوادث عديدة، منها هروبهم من ساحة المعركة في "أحد"، وتشكيك أحدهم بتفضيله علي ابن ابي طالب، وقوله: "أهذا منك أم من الله..."؟! ومقولته الشهيرة سيئة الصيت، في حضرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وفي ساعاته الأخيرة: "إن الرجل ليهجر.."! كل هذه المواقف وغيرها كثير تدلنا على عدم الإيمان العميق والحقيقي بأنه صلى الله عليه وآله مبعوث من السماء، وأنه المقصود بالآية الكريمة: "وما ينطلق عن الهوى إن هو وحيٌ يوحى".

ولا أنسى الموقف الذي هزّني بالحقيقة من الاعماق، عندما كنت في زيارة للمرقد النبوي الشريف، وبينما كنت أهم أداء الصلاة، كان المتحدث يزعق عبر مكبرة الصوت بأحاديثه المنسوبة عن النبي، إحداها، ما مفاده، أن عمر كان خلف النبي الأكرم وهو يهمّ بتقبيل الحجر الأسود، وعندما تقدم عمر الى الحجر، قال: وما فائدة تقبيلك لولا تقبيل النبي لك...؟!!

هذا إن دلّ على شيء، فانما يدل على الولاء الظاهري للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله، لدفع خطر الفكر الشيعي الذي يحمل كل الأدلة الدامغة على أحقيته وصدقه واتصاله بالرسالة المحمدية السمحاء، ومنها مسألة الرموز المقدسة والقيادة والولاية، التي تمثل بالنسبة للسعوديين قنبلة نووية لا تبقي لهم ذكراً..

من هنا؛ يجدر بالمثقفين والمفكرين والعلماء، تسليط الضوء اكثر على السيرة النبوية المطهرة، في وسائل النشر والاعلام ومن على المنابر، للكشف عن الحقائق للشيعة وللسنة ولعموم المسلمين في كل مكان، وأن الصراع الدائر اليوم بين "الوهابية" وأذيالها من "السلفية" و الجماعات المسلحة والتكفيرية الاخرى، وبين عموم المسلمين، إنما هو امتداد لذلك الصراع الذي خاض غماره النبي الأكرم في فترة حياته في مكة والمدينة مع رموز الجهل والكفر والشرك، بل وفي الفترة التي اعقبت رحيله عن دار الدنيا. يكفي أن نعرف أن أول محارب لزيارة قبور الصالحين، وأول خائف من الرموز المقدسة، هو مروان بن الحكم الأموي، وهو ابن ذلك الرجل القبيح والسيئ الذي سمّاه النبي بـ "الوزغ" لتجسسه عليه صلى الله عليه وآله في خلوته. يذكر التاريخ أنه جاء ذات يوم الى مرقد النبي الأكرم، فرأى شخصاً منكباً على تراب القبر يشمّه ويبكي عليه، فأمسك برقبة ذلك الرجل، وهو يصيح به: ماذا تفعل....؟! فرفع رأسه، واذا به الصحابي الجليل أبي أيوب الانصاري، وهو ذلك الصحابي الذي نزل عنده النبي في المدينة، لدى وصوله هذه المدينة مهاجراً من مكة. فأجابه الصحابي بكل هدوء، دون أن يقابله بالمثل: لم أعبد وأشرك بالله إنما اتقرب الى اليه تعالى بنبيه الأكرم صلى الله عليه وآله.

إن الدعوة الى بناء مقبرة البقيع، وتحويلها مشاهد مشرفة كالتي نراها في مدننا المقدسة، حيث البناء الفخم والكبير والإنارات المشعة وكثرة الزائرين، وغيرها من مظاهر التكريم، لا ينبغي ان تكون من قبيل الدعوة لتشييد تمثال أو نصب تذكاري، إنما هي مسألة ثقافية وحضارية، ينبغي أن يؤمن بها المسلمون في كل مكان، وفي المقدمة سكان الجزيرة العربية والحجاز. وهم بذلك ينصروا نبيهم الأكرم صلى الله عليه وآله في سنته وتراثه، كما يثبتوا إيمانهم العميق والحقيقي بالإسلام الذي تميز على سائر الأديان السماوية بأن جعل للمسلمين امتداداً للحجة الإلهية الممتدة والمتصلة بالنبي الخاتم، فهم آمنون، متقدمون، متحضرون بفضل هذه الصلة العظيمة، ولن يشعروا بالضياع والخيبة والفتن المظلمة، كالذي يعيشونه اليوم.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 18/آب/2013 - 10/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م