النفس بين الغِنى والفقر

مئة كلمة وكلمة في قواعد الحياة

 

شبكة النبأ: توجد في كتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين، الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، قواعد للفكر والسلوك، يمكنها، فيما لو التجأ إليها الفرد والمجتمع، أن تفتح مسارات صحيحة لهذا البناء، شريطة الالتزام بالتطبيق بعد الايمان بها، وهي من نوادر الحكم وجواهر الكلم، وكلنا نتفق على ان الانسان يحتاج الى قواعد صحيحة للبناء، لكي يبني حياته بالصورة الصحيحة، وطالما ان المجتمع يتكون من مجموع الافراد وتقاربهم مع بعض، فإن المجتمع برمته يحتاج الى تلك القواعد السليمة حتى يبني عليها حياته، وهذه القواعد موجودة في نهج البلاغة، إذ تهدف سلسة مقالات (مئة كلمة وكلمة)، أن تصل الى قواعد تساعد الانسان على البناء السليم، لاسيما اننا نعيش في عالم محتقن، تحكمه ضوابط ومصالح وأخلاقيات مادية بحتة.

تتميز النفوس الكريمة بنكران الذات، ونبذ الطمع، والتفكير بالآخرين أكثر من الذات، وينطبق عليهم مضمون القول النبوي الشريف (أحبب لأخيك ما تحب لنفسك)، لذلك غالبا ما تُسهم نفوس الكرماء بالافضل والاجمل والاصحّ دائما، لأنها تنطلق من قاعدة انسانية سليمة راسخة الجذور والبنيان، تؤمن بقيمة الانسان، وتصون حرماته، وتقف الى جانبه في المحن.

هذه الصفات الانسانية تتوافر في النفوس الكبيرة، نفوس الكرماء، أولئك الذين يبذلون الخير أينما تواجدوا وأينما حطوا الرحال، أولئك الذين يبذرون الخير أينما كانوا، لذلك دائما تراهم أو واكثر المضحين من اجل الآخرين، فيتم وصفهم بذوي النفوس الكبيرة والكريمة، هؤلاء هم الذين يفكرون بالاخرين قبل أنفسهم وقبل ذويهم واهلهم واصدقائهم، فالكل لديهم سواسية، استنادا الى الرابط الانساني المشترك، الذي يجعل الناس جميعا عندهم، في مرتبة انسانية ذات مقياس واحد وقيمة متساوية.

صولة الكريم

وهناك سمات راقية تتحلى بها النفوس الكريمة، يصفها الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، بدقة في كتاب (نهج البلاغة)، فهذه النفوس، على الرغم من صبرها على الشدائد، وقدرتها الكبيرة على التضحية والايثار، وتفضيلها للآخر على ذاتها، إلا أن هذه النفوس الكريمة لا تقبل بالإذلال، ولا ترضى بمن يحاول ان يفرض عليها الظلم، أو يتجاوز على الكرامة والحقوق، نعم هي نفوس كبيرة تتعامل بصبر، وتوازن، وتحكمها نظرة انسانية عميقة، وحكيمة في الوقت نفسه، ولكن هناك حدود في كل شيء، وهناك سقف لا يجوز عبوره، هؤلاء يصفهم الامام علي عليه السلام بالقول البليغ: (احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَ اللَّئِيمِ إِذَا شَبِعَ).

إذن صاحب النفس الكريمة يتميز بالكرم والسخاء، والعطاء الدائم، ولكنه في الوقت نفسه مع سمة او ملكة الصبر التي يتحلى بها، قد يثور على من يتجاوز عليه، عندما يبلغ السيل الزبى، ولم يعد للصبر نفع، وعندما يثور الكريم فإن ثورته تختلف عن غيره، أو نقيضه، وهو اللئيم، فالكريم يكون صاحب ثورة لا يشق لها غبار، هي ثورة الاحرار التي لا تبقي ولا تذر، وهي صولة تعيد الحق الى نصابه، وتضع النقاط على الحروف، ولا تسمح باستمرار الخطأ ولا الظلم ولا الاجحاف، وهي ثورة التصحيح التي يقودها وينفذها الكرماء، ضد من هم مرضى في العقل والنفس والتفكير والسلوك ايضا، اولئك الذين نطلق عليهم وصفا او تسمية تليق بهم، وهي صفة اللؤم، لأنهم من اصحاب النفوس الضعيفة.

واللئيم غالبا ما يتجاوز على كرماء النفوس، خاصة اذا تمكن من الحاق الاذى بهم، كأن يكون قد تمكن من السلطة، او حصل على منصب يجعله فوق رؤوس الناس ورقابهم، مثل هؤلاء اذا تمكنوا على غيرهم فتغيب الرحمة من قلوبهم، ويتعاملون مع الآخرين بتعال وتكبر، وبنفوس لئيمة يقودها الجهل والضغينة والحقد، فضلا عن نزعة الاستحواذ والجشع التي تتحكم بنفوسهم وتشكل ميولا دائمة ومستمرة لسكوهم واهدافهم.

مثل هؤلاء المتكبرين يضيقون الخناق على الكرام، ويجعلونهم يشعرون في الغربة وهم في اوطانهم، بسبب حالات التهميش والاقصاء التي يتعرضون لها من لدن صغار النفوس، فيصبح الاغنياء بالافكار فقراء بالمادة، بسبب حالات الحرمان التي يتعرضون لها، وهكذا يصبحون غرباء وهم في اوطانهم، مع انهم كرماء، وهم الذين ينطبق عليهم قول الامام علي عليه السلام الذي ورد في (نهج البلاغة): (الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ وَ الْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ).

المال ومضاعفة الشهوات

تثبت الوقائع، وكما يشير علماء النفس، أن هناك ترابطا وثيقا بين كثرة الاموال وكثرة الشهوات في نفس الوقت، أي ان هناك علاقة طردية بين الاثنين، ولكن هذا ينطبق على النفوس الضعيفة التي اصابها الغنى فجأة من بعد طول جوع، والجوع هنا ليس جوع الجسد، انما هو نقص السمو الروحي والاخلاقي، الذي تفتقد له نفوس الضعفاء.

يقول الامام علي عليه السلام في نهج البلاغة: (الْمَالُ مَادَّةُ الشَّهَوَاتِ). والسبب في الربط بين المال والمادة، هو قلة سيطرة اصحاب النفوس الضعيفة على رغباتهم وشهواتهم، إذ يدفعهم المال الى تحقيق رغباتهم، التي غالبا ما تكون غير مشروعة، بسبب الميول المنحرفة التي تتواجد في بنائهم النفسي المنحرف.

وهكذا نلاحظ التقلبات الكثيرة التي تتعرض لها النفي وهي تواجه الغنى حينا والفقر في حين آخر، ويبقى مقياس التوازن حاضرا لدى اصحاب النفوس الكبيرة فقط، اولئك الذين لا تدفعهم كثرة المال والغنى الى الانحراف، ولا يجعلهم الفقر في حالة من فقدان التوازن، فيسيئون للاخرين بالتعالي والسلوك الشائن.

وغالبا ما يتحلى اصحاب النفوس الكبيرة التي تعيش الغنى حتى في حالات الفقر الحقيقية التي تتعرض لها، غالبا ما يتحلى هؤلاء، بالقناعة، والقبول بما لديهم من اموال حتى لو كانت قليلة، فالاصل لديهم ليس البذخ ولا الجاه ولا كثرة المال ولا السلطة، الاصل لديهم رضى الله تعالى اولى، وهم اول من يؤمن ويتصرف وفقا للقول الذي ينص على أن: (رأس الحكمة مخافة الله).

وتنطبق عليهم ايضا مقولة الانان علي عليه السلام في نهج البلاغة الذي ينص على أن:  (الْقَنَاعَةُ مَالٌ لَا يَنْفَدُ).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 15/آب/2013 - 7/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م