المدينة الفاسدة!

حيدر قاسم الحجامي

 

على عكس المقولة المثالية التي نادى بها الفلاسفة بحثاً عن مدينة فاضلة، تعكس ذي قار مزاج المقولات وتبدل مقاييس القيم الاخلاقية، لتصبح هذه المرة، وبامتياز "مدينة فاسدة " تتصدر كعادتها التصنيفات الحكومية وغير الحكومية، بكونها الاولى في الفساد المالي، حسب تصنيفات هيئة النزاهة "الوطنية "، التي اعلنت مؤخراً احصائيات مخجلة، وتكشف عن انهيار اخلاقي وقيمي وقانوني مدمر في بلد يعد سادساً بين الدول الاكثر تديناً !، لكنه يحتل في ذات الوقت تسلسلاً متقدماً بين اكثر البلدان فشلاً وفساداً، لا تسبقهُ سوى دولتين في التصنيف العالمي !، وهذا ايضاً ببركات مشروع سياسي يقوده الكثير من الفاسدين والمرتشين واشباه المتعلمين الذين اشاعوا ثقافة النهب المنظم جهراً، بعد ان كان سراً في العهد الذي سبقهم.

ما نشرتهُ هيئة النزاهة من احصائيات يثير اكثر من علامة تعجب واستفهام، ويجعل المرء حائراً حول الطريقة التي تتبعها المؤسسات الحكومية في العراق في انفاق المال العام المخصص للخدمات والبنى والاعمار، فكيف تسمح كل الاجراءات البيروقراطية الطويلة بحدوث خرق مالي كبير خلال فترة قياسية دون ان تكتشف واحدة من اجهزة "البيروقراطية " الخلل المالي، ايعقل هذا؟ ام ان كل الدوائر تشترك في طبق واحد، وتأكل من ذات المائدة؟، في الاحصائيات تتحدث النزاهة عن ضبطها تلاعباً بالمال العام خلال الاشهر الستة الاولى من العام الجاري وصل الى اكثر من 131 مليار دينار عراقي، تورط فيه اكثر من 2500 شخصاً، هذا يعني ان ما كشفتهُ النزاهة لا يمثل بالضرورة حجم التلاعب بكامله، فهذا الرقم بسيط جداً بحسابات وزرات وهيئات ومؤسسات يخصص لها سنوياً عشرات المليارات من الدولارات وتنفقها كيفما اتفق دون محاسبة جدية، واذا ما علمنا هيئة النزاهة التي يفترضها الدستور مستقلة، هي في الحقيقة غير ذلك، بل ان رئيسها لا زال معيناً من شخص رئيس الحكومة ويديرها بالوكالة وهذا يكشف ايضاً عن حجم اخر لمدى غض النظر والمجاملات والسكوت عن فساد هائل في مختلف مؤسسات الحكومة "المتحزبة ".

لكن مع ذلك الاحصاءات مفيدة في معرفة تقريبية لحجم هذه الافة التي تنخر جسد الدولة العراقية منذ 2003 ولا تجد لها من يوقفها عند حد معين حتى بان النخر وتهرأت الدولة الى اقصى حدود التهرئ الى الحد الذي بات من الصعب جداً حماية سجن يضم عتاة المجرمين ولو جئت بآلاف الرجال والمعدات الحربية، وابو غريب شاهد حي على هذا.

كما ان مناقشة هذه الاحصاءات مفيدة لكشف ملف المحافظات التي تعاني منذ اعوام من فشل خدمي مريع، ولا احد يعرف عن اسبابه الحقيقة، سوى تعليقاً هوائياً وشبحياً عن فساد مالي يمارس فيها، لكن لا يستدل عليه المواطن ولا يشار اليه بوضوح، ففي محافظة بائسة مثل ذي قار تخصص الدولة منذ اعوام موازنات بسيطة، لكنها هائلة بالنسبة لما ينفذ على الارض، فمع كل عام تصل المحافظة الى انفاق قياسي لأكثر من نصف مليار دولار كما تعلن، دون يحدث ذلك تغيراً ما على الارض، يسأل المواطن ويحتج دون اجابة شافية عن مصير الاموال ومخرجات انفاقها.

هذه المرة تشير النزاهة الى ان ذي قار تصدرت كل محافظات البلاد، عدا الاقليم، في نسبة الفساد والتلاعب بالمال العام فمن أصل 131 مليار دينار، تلاعب الفاسدون في ذي قار بأكثر من 67 مليار أكثر من 50% اذن نسبة التلاعب خلال ستة اشهر فقط !، وتقول النزاهة انها استطاعت كشف هذا التلاعب الذي تورط به 119 شخصاً دون الكشف عن تفاصيل ادق حول شخوص هؤلاء المتلاعبون او المؤسسات التي حدث فيها التلاعب، وهذا من يضمن اغلاق الملفات بسهولة بعد ان تعقد الصفقات الخاصة كما يشاع.

ان ما نشر كارثة بحق محافظة ذي قار وهو صرخة موجهة بقوة الى مجلس المحافظة الحالي والمحافظ المنتخب للتحرك سريعاً وفتح ملف هذا التلاعب الخطير بالمال العام والكشف عن المتورطين فيه، كما انه يدعو الى مراجعة شاملة لكل الاعوام الماضية والكشف عن مصير الاموال التي انفقت وجرى التلاعب فيها دون ان تكشف الجهات المتورطة، والا فأن مزيداً من التلاعب سيجري وسينتج من مزيداً من الاحتقان والغضب في شارع يائس ومحبط من عملية سياسية اصبحت ماكنة ضخمة لإنتاج الفاسدين وسراق المال العام.

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/haiderqasim.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 15/آب/2013 - 7/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م