المسلمون في اوروبا ... قضايا الاندماج والعزلة

اعداد: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: تشكل قضية اندماج المسلمين في المجتمعات الاوربية مجالا خصبا للاخذ والرد بين دعاة توجهين: التوجه الاول، وهو الذي تتبناه الدول الحاضنة للمسلمين عبر الكثير من القوانين والتشريعات. التوجه الثاني، يتبناه المسلمون انفسهم، عبر سلوكهم الذي تفرضه الثقافة الدينية التي ينتمون اليها.

التوجهان يتصادمان عبر سؤال مطروح بقوة وهو: هل يحق للمسلمين التمتع بحقوق المواطنة السياسية على رغم رفضهم الصريح لثقافة الدولة (المضيفة)؟. وهذا التساؤل قد يجد له الإجابة الشافية في ما يذهب إليه بعض الكتاب المعاصرين من ضرورة التفرقة داخل المجتمع الواحد بين المواطنة السياسية التي يخضع لها جميع أفراد المجتمع والمواطنة الثقافية التي تميز الجماعات الفرعية الموجودة داخل ذلك المجتمع عن الثقافة العامة التي يشار إليها أحياناً باسم الثقافة الرسمية المميزة لمجتمع الدولة ككل.

المواطنة الثقافية كما يذهب الى ذلك احمد ابو زيد الانثروبولوجي المصري،  تعني حق الجماعات الفرعية والأقليات في الاحتفاظ بهويتها الثقافية الخاصة حتى لا يتم احتواؤها ودمجها تماماً في الثقافة العامة الرسمية السائدة في المجتمع بشرط ألا يترتب على ذلك عدم المشاركة في شكل إيجابي وفعال في مختلف أنشطة الحياة والالتزام التام بالقوانين والقواعد الأساسية المنظمة للحياة العامة في الدولة, وهذا يعني ضمناً تقبل مجتمع الدولة لوجود هذه الجماعات المتمايزة ثقافياً والاعتراف بحقها في الاحتفاظ بمقومات ثقافتها الخاصة وتفهمه للمبادئ التي تقوم عليها تلك الثقافة والقيم التي تكمن وراء مظاهرها الخارجية من سلوكيات وعلاقات قد تختلف اختلافاً جوهرياً عما درج عليه الأهالي الأصليون الذين يؤلفون غالبية السكان.

ويذهب الأستاذ ريناتو روزالدو أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة ستانفورد الأميركية - وهو الذي صاغ في الأصل تعبير المواطنة الثقافية - إلى أن جماعات الأقليات التي تعيش في أي مجتمع وتعتبر أعضاءها مواطنين في ذلك المجتمع يمكنها الحصول لأعضائها على حقوقهم العامة كمواطنين كاملي المواطنة وعلى اعتراف الدولة والشعب بوجودهم ككيان متمايز داخل الدولة وذلك من طريق العمل الجاد من أفراد هذه الأقليات على نشر ملامح وخصائص ومقومات ثقافاتهم الخاصة والحرص على التعبير عنها بقوة ومثابرة وبكل الطرق والوسائل إلى أن يتم (حفرها) وتثبيتها في ذاكرة المجتمع وبذلك يفرضون ذاتيتهم وهويتهم الخاصة على المجتمع, الكبير بحيث يضطر في آخر الأمر إلى تعديل مواقفه المعارضة ونظرته الرافضة.

وعن هذا الموضوع كتبت جين رولاند مارتن مقالاً عن (المواطنة الثقافية) نشر في مجلة بوسطن ريفيو تقول فيه إنه في دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية التي قامـــت منذ البداية على أساس الاختلاف والتنوع والتعدد النوعي والعرقي والديني فإنه يكون من التعسف أن يخضع كل هذا الخليط المتنافر من الثقافات لهيمنة ثقافة واحدة هي ثقافة فئة معينة من المهاجرين البيض الوافدين من أوروبا, وأن يطلب من كل (الآخرين) تقبل هذه الثقافة بحذافيرها وإغفال ثقافاتهم الخاصة التي قد تكون أقدم وأعمق وأكثر عراقة من ثقافة هؤلاء الأوروبيين البيض, وأن مثل هذا المطلب يعتبر سياسة خاطئة وخطيرة, وبخاصة إذا تم فرضها بقوة القانون لأن عملية الدمج في هذه الحالة ستأتي من طرف واحد وتتعارض مع حقوق الإنسان ومبادئ الديموقراطية الصحيحة.

تنبني الدلالة اللغوية لكلمة الاندماج (Integration) على مفهومين، لا يستقيم معناها إلا بتوفرهما، أو لا يكتمل أحدهما إلا بوجود الآخر.

وهذان المفهومان هما: الأول: الدخول، والثاني: الاستحكام أو التجانس مع الكل كما جاء في القواميس الغربية. وهذا معناه أن الشيء لا يصبح مندمجا اندماجا صحيحا وكليا في بنية ما، إلا إذا دخل في تلك البنية وتجانس مع باقي مكوناتها، واستحكم فيها عن طريق توثق الصلة مع كل البنية أو مع البنية كلها.

إن عدم تجاوب بعض المسلمين مع بعض قيم الثقافة الغربية، لا يعني أنهم لم يندمجوا، بقدرما يشير إلى أنهم استطاعوا أن يتقنوا اللغات الغربية، ويتعرفوا إلى ثقافات البلدان التي يوجدون فيها، وينتظموا بشكل إيجابي ومنتج داخل سوق الشغل، لكنهم تحفظوا من الانخراط غير المعقلن في ثقافة الآخر، لأنه انخراط يحمل في طياته بذور الموت لثقافاتهم الأصلية.

التحدي الذي يواجهه المسلمون في الغرب، يترافق معه تحدي من نوع اخر وهو ظاهرة (الاسلاموفوبيا) التي تتراوح حدتها بين صعود وهبوط مع كل حدث يقوم به مسلمون متطرفون في تلك البلدان..

يرى آلان غريش، رئيس تحرير مجلة «اللوموند ديبلوماتيك» في باريس «اننا نعيش عصر الإسلاموفوبيا بامتياز. ففي كل يوم نجد برهانا جديدا على هذا الكره المسبق للعرب والإسلام. وهذا الكره متولد بشكل عفوي ومنبث بشكل عام في كل أنحاء المجتمع.. وهنا وجه الخطر والخطورة.. أنه يعبر عن ظاهرة مترسخة في أعماق المجتمع الغربي، ويصيب الناس جميعا كيفما اتفق يمينا ويسارا مثقفين أو غير مثقفين هكذا لا على التعيين. ». ويتهم آلان غريش، اليهودي من أصل مصري، بعض المثقفين والصحافيين الفرنسيين كبرنار هنري ليفي وسواه بتغذية هذا التيار المعادي للاسلام والمسلمين في الساحة الباريسية. فهؤلاء أصدروا مؤخرا بيانا جاء فيه ما معناه «بعد أن انتصرنا على الفاشية والنازية والستالينية الشيوعية فإن العالم يواجه الآن خطرا شموليا من نوع توتاليتاري: إنه خطر الأصولية الإسلامية. ونحن ككتاب وصحافيين ومثقفين ندعو إلى مقاومة هذه التوتاليتارية الدينية والتصدي لها».

والاسلاموفوبيا يعرّفها الكاتب الأميركي ستيفن سكوارتز في موضوع له في مجلة «فرونت بيج» ، بأنها إدانة الإسلام كليا، وإدانة تاريخه، ووصفه بالتطرف، وإنكار وجود غالبية مسلمة معتدلة، واعتبار الإسلام مشكلة تواجه العالم، وأنها تتمثل في توجيه أصابع الاتهام للطرف المسلم في كل الصراعات التي يكون أحد طرفيها مسلما، وأنها التحريض على الحرب ضد الإسلام.

ويواجه المسلمون في الغرب في سبيل تحقيق الرغبة في التعايش والاندماج دون ذوبان في المجتمع مع الحفاظ على ثقافتهم وهويتهم الإسلامية، الكثير من التحديات، من بينها: اللغة، التي تعد المفتاح الأساسي لتحقيق ذلك.

كما أن تحدي البطالة وصعوبة الحصول على فرصة عمل ونوعيته وطبيعته وارتباطه بالمكانة والتأثير في المجتمع وصياغة القرارات، قد ساهم أيضا في صعوبة اندماج الجالية المسلمة وبخاصة مع تزايد صور الإساءة للإسلام والمخاوف من تشغيل المسلمين وافتقارهم لمهارات سوق العمل، لهذا فقد اتجهت الغالبية منهم للعمل في الأنشطة التجارية.

ومن القضايا الأخرى المهمة المرتبطة بتحدي الاندماج في المجتمع الغربي، التي تشهد جدلا واسعا، قضية الأئمة وخطابهم الديني، فقدوم معظم الأئمة من خارج دول الغرب ومعرفتهم المحدودة بلغة وثقافة الغرب، وخطابهم الديني الذي لا يتماشى مع عوامل الزمان والمكان، قد جعل من الصعب عليهم توصيل رسالتهم وأفكارهم بسهولة حول الكثير من القضايا الدينية والفكرية المستجدة في الغرب، وبخاصة تواصلهم مع الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين.

كما أن الكثير من وسائل الإعلام الغربية تسيء للإسلام والمسلمين من خلال نشر تقارير سطحية ورؤى وأفكار وصور سلبية هدامة، نتيجة عن جهل أو تجاهل للوجه الحقيقي للإسلام، الأمر الذي يؤثر على الرأي العام الغربي، وبالتالي في إعاقة المسلمين عن الاندماج والمشاركة الإيجابية في المجتمع الغربي.

يلمس أحد الباحثين العرب كيفية تغيّر نظرة المسلمين إلى أنفسهم وحاضرهم ومستقبلهم في مجتمعاتهم غير الإسلامية من خلال مقارنة أجراها بين محاولتين فكريتين كانت لهما أهمية وتأثير في تشكيل رؤية المسلمين لأنفسهم في بلاد البلقان، في زمنين مختلفين، أحدهما ينتمي إلى حقبة الستينات وأوائل السبعينات من القرن العشرين، حين دعا الدكتور علي عزت بيجوفيتش، إلى ما اسماه (الإعلان العالمي)، في كتاب له صدر عام 1981م، والثاني ينتمي إلى ما بعد الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول حين دعا الدكتور مصطفى تسيريتش، رئيس هيئة العلماء في البوسنة والهرسك، إلى إعلان إسلامي آخر، أطلق عليه (إعلان المسلمين الأوروبيين).

في الإعلان الأول نظر بيجوفيتش إلى اندماج المسلمين في أوروبا بالعالم الإسلامي، وربط مصيرهم بمصير الأمة الإسلامية، ونهضتهم بنهضة العالم الإسلامي، على قاعدة الاشتراك في الهوية. وفي الإعلان الثاني نظر تسيريتش إلى اندماج المسلمين في أوروبا بمحيطهم الأوروبي، على قاعدة المواطنة والعقد الاجتماعي والسياسي. وقد جاء الإعلان الثاني بمثابة نداء موجه باسم المسلمين الأوروبيين إلى الاتحاد الأوروبي، داعياً إلى عقد اجتماعي يؤسس لعلاقة المواطنة على أساس "أن حماية الهوية ليست بالعزلة لأنها ستؤدي إلى ضمور الهويات وتكلسها".

يؤكد إعلان تسيريتش أن المسلمين الأوروبيين ملتزمون بالكامل وبشكل صريح بحكم القانون العادل، ومبادئ التسامح، وقيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، وبالاعتقاد أن كل إنسان له الحق في أن تُصان حقوقه الضرورية الخمسة، وهي: النفس، والدين، والعقل، والمال، والعرض. ومن الواضح أن هذا الإعلان يشجع الأوروبيين على الاعتراف الرسمي بالإسلام والمؤسسات الإسلامية في أوروبا، وحمايتهم من جرائم التطهير العرقي، والإبادة الجماعية.

ولكن الاندماج موضوع البحث محفوف بالمزالق، وهو مُعرض إلى أن ينتهي بالذوبان كما حدث في تجارب سابقة للمسلمين؛ لذلك ينبغي أن تُحدَّد له ضوابط وقواعد تسير به في مساره الوسط المُنتج، وتعصمه من الانعزال أو الذوبان، منها:

أ- تحديد معنى الاندماج المطلوب، وتحديد محتواه، بحيث يتميز عما يُراد منه من قبل بعض الجهات حيث تعني به الذوبان. ولذلك ينبغي السعي إلى التحاور مع المؤسسات الأوروبية للاتفاق على مفهوم مشترك للاندماج.

ب- أن يكون مُقيّداً بالمحافظة على خصوصية المسلم الممثلة في العقيدة والشعائر والأخلاق والأحكام الشرعية خصوصاً ما كان منها قطعياً، وأن تكون المرونة فيه في سياق ما هو قابل للاجتهاد من أحكام الدين.

ج- أن يتم من خلال احترام القوانين التي تُنظم المجتمعات الأوروبية.

د- أن يكون مبنياً على أساس من البحث العلمي للواقع الأوروبي.

هـ- أن يقوم على استثمار الفرص والإمكانات الكثيرة المُتاحة في المجتمع الأوروبي.

و- أن يكون قائماً على أساس من الحوار المستمر مع مُكونات المُجتمع الأوروبي الثقافية والسياسية والاجتماعية.

وفي الواقع أن سياسات "الاندماج" المتبعة في الدول الأوروبية تتراوح،  بين اتجاهين: اتجاه يغلّب جانب الانصهار في المجتمع ولو أدّى ذلك إلى التخلي عن الخصوصيات الدينية والثقافية للفئات المندمجة، واتجاه آخر يدعو إلى ضرورة الموازنة بين مقتضيات الاندماج ومقتضيات الحفاظ على الخصوصيات الثقافية والدينية. وأن الاتجاه الثاني هو الذي يعبّر عن الاندماج الإيجابي، الذي يجب أن تحدد مقتضياته بوضوح، ويجري الاتفاق على أنه مسؤولية مشتركة بين المسلمين أفراداً ومؤسسات من جانب، وبقية المجتمع الأوروبي أفراداً ومؤسسات من جانب آخر. ولذلك فقد خرج البيان بجملة توصيات ومقترحات للمسلمين في أوروبا، من أهمها:

1- الالتزام بالقوانين الخاصة بحقوق المواطنة وواجباتها.

2- الالتزام بالقوانين واللوائح الموضوعة من قبل الجهات الرسمية.

3- العمل على تحسين صورة الإسلام والمسلمين عن طريق الالتزام بقيم الإسلام ومبادئه العظيمة وإقامة البرامج التي تعرف بالإسلام وقيمه الحضارية.

4- تجاوز العادات والتقاليد الموروثة المسيئة للإسلام.

5- إقامة دورات وبرامج تعمل على تحقيق الاندماج الإيجابي والتفاعل المثمر.

6- النهوض بالدعاة والعاملين بين المسلمين وتأهيلهم ليكونوا قدوةً حسنةً في تحقيق التفاعل الإيجابي، وإعداد نخبة تتقن لغة الحوار مع الغرب للحديث عن الإسلام وتقديم صورته المشرقة له.

7- إقامة المراكز الإسلامية المتكاملة التي تشمل إلى جوار المسجد: المكتبة والنادي الثقافي والاجتماعي والرياضي والمطعم وغير ذلك من الإمكانات، وقيامها بأنشطة مختلفة، مع التركيز على أنشطة الاندماج.

8- المشاركة الإيجابية والفعالة في مؤسسات المجتمع المدني والأنشطة البيئية والاجتماعية في الحي والمدينة وعلى مستوى الدولة.

9- بناء العمل المؤسسي، والبعد عن التمحور حول العرقية والمذهبية والطائفية والحزبية.

10- تشكيل لجان حقوقية قانونية للدفاع عن حقوق الأقليات ومناهضة التمييز العنصري.

11- السعي إلى الاعتراف الرسمي بالإسلام كدين، وبالمسلمين كأقلية لها حقوقها التي كفلتها الشرائع والدساتير والمواثيق، على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 8/آب/2013 - 30/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م