ماذا حدث لمعجزة الهند الاقتصادية؟

حاتم حميد محسن

 

الاقتصاديان (Amartya Sen) و (Jean Dreze) ذكرا في كتابهما الجديد عن الاقتصاد الهندي ( المجد غير الواضح، الهند وتناقضاتها) الكثير من الفضائل الهندية. من بين تلك الفضائل، الصبر الذي اُعتبر شكلاً مبسطاً من اليأس المتنكر برداء الفضيلة وفقاً للتعريف المقتبس من قاموس (ديفل).

ومن بين تلك الفضائل التحمّل الاستثنائي لعدم المساواة، وللتراتب الطبقي والانقسامات...، الاستقالة الصامتة للمرأة الهندية، القبول الدائم لعدم المسائلة وانتشار الفساد. وهناك ايضاً خنوع الطرف الأضعف في المجتمع لإستمرارية البؤس والاستغلال والإذلال.

كتاب "المجد غير الواضح" هو عمل ضخم لإثنين من أرقى وأذكى الكتّاب الحاليين في الشؤون الهندية. فيه يحققان في مستقبل غير مؤكد للاقتصاد الهندي بعد الصعود المذهل "للهند الجديدة" وما أثارهُ ذلك الصعود من تكهنات.

(سين) هو من بين العقول العظيمة في الوقت الحالي. هو حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، المدير السابق لكلية ترنتي، وكامبرج، والآن بروفيسور في جامعة توماس لامونت بهارفرد، هو نال من الدرجات الفخرية اكثر مما ناله اي انسان في العالم (هناك حوالي 100 شهادة تقديرية في سيرته الذاتية).

شريكهُ في الكتابه، (Dreze)، مع انه اقل شهرة في هذا البلد، لكنه ايضا اقتصادي شهير. هو من اصل بلجيكي ثم اصبح هنديا بعد عقود من الاقامة في الهند ودرّس في كل من مدرسة لندن ومدرسة دلهي للاقتصاد. هو يُعتبر أهم باحث في المجاعة والفقر وصحة الاطفال، وهي المواضيع التي رفع بها التوصيات الى رئيس الوزراء الهندي مانموهان سنك، قبل تقديم استقالته يائسا حين رأى جميع توصياته ذهبت ادراج الرياح. هذا الكتاب هو ثالث كتاب للكاتنين سين ودريز وهو من اعظم الكتب اهميةً.

اطروحتهما باختصار هي: ان فشل الهند في مسايرة الصعود السريع للصين يعود في جزئه الاكبر الى فشل الدولة في توفير" الخدمات العامة الاساسية - وهو فشل يكبح مستويات المعيشة ويقود الى هبوط متواصل للنمو:

عدم المساواة هي عالية في كلا البلدين، لكن الصين نجحت اكثر من الهند في زيادة المتوقع من سنوات العمر، ووسعت التعليم العام وأمّنت الرعاية الصحية لشعبها. تمتلك الهند مدارس نخبوية بمختلف المستويات من التميز، لكن من بين جميع الهنود بعمر السابعة او اكبر، هناك واحد من بين كل خمسة ذكور وواحده في كل ثلاث اناث اميون.... نظام الرعاية الصحية الهندي هو في فوضى عارمة. الفقراء عليهم الاعتماد على الرعاية الطبية الخاصة الاستغلالية والرديئة النوعية، بسبب عدم وجود رعاية صحية عامة لائقة. وبينما تخصص الصين 2.7% من ناتجها المحلي الاجمالي للانفاق على الرعاية الصحية، نجد الهند تخصص فقط 1.2%.

كتاب "المجد غير الواضح" يأتي في وقت بدأ فيه المراقبون في جميع انحاء العالم إعادة تقييمهم لتوقعاتهم عن مستقبل الهند. الطفرة الاقتصادية التي بدأت عام 1991 واقلعت في اواخر التسعينات، خلقت طفرة صغيرة اخرى في الكتب عن الهند الجديدة، بعضها افضل بكثير من الاخرى. في مقدمة تلك الكتب كتاب (India Unbound) لـ Gurcharan Das الرئيس التنفيذي السابق لشركة (بروكتر وجامبل)، الذي حقق كتابهُ الصادر عام 2001 افضل شهرة عالمية وطرح حجة مقنعة بان المستقبل سيكون للهند: كل ما مطلوب هو اجراء اعادة تنظيم وهيكلة اخرى للاقتصاد والابتعاد عن التعقيدات الاقتصادية التي يُشار لها بـ "رخصة راج" التي تكبّل الفيل الهندي وتحول دون ضمان مستقبل الهند كقوة عظمى.

الاحصاءات كانت مدهشة: الهند تدرّب على الدوام مليون مهندس خريج كل سنة، مقابل 100 ألف في امريكا واوربا، والبلد برز كثالث دولة في القدرات التقنية والعلمية بعد الولايات المتحدة واليابان متقدما على الصين. بين عامي 1991 و 2001 تضاعف الاقتصاد الهندي ثلاث مرات في الحجم، وقطاع المعلومات التكنلوجية لوحده استلم ما يقارب 50 بليون دولار سنويا، معظمه من عائدات التصدير. جزء من تلك الارباح صُرفت على شراء شركات اجنبية راقية - مثل، الاكتساب الشهير لجاكور ولاند روفر من جانب شركة تاتا للسيارات.

بعض هذه الاندماجات لا زالت مستمرة. متوسط الدخل خُطط له ليستمر يتضاعف كل عشر سنوات. عدد مستخدمي تلفونات الموبايل قفز من ثلاثة ملايين عام 2000 الى 100 مليون عام 2005 ثم الى 929 مليون عام 2012. عدد قنوات التلفزيون ارتفع من واحدة عام 1991 الى 150 قناة عام 2007 ثم الى اكثر من 500 قناة اليوم. في 2006، بلغ عدد المليارديرات الهنود في قائمة فوربس العالمية حوالي 23 ملياردير، وفي هذه السنة تضاعف الرقم ليصل الى 55 ملياردير.

وفي اعقاب هذا النمو المذهل، ظهر اثنان من الكتب المتعلقة بنفس الموضوع من (داس) وكذلك سلسلة من المذكرات القيمة عن الهند الجديدة بالاضافة الى دراسات من مؤلفين امثال باتريك فرينس، واناند جردهارداس واكاش كابور. من بين افضل الكتب التي تنظر في المستقبل الاقتصادي للهند كتاب بعنوان (رغم الآلهه) للكاتب ادوارد لوس وهو مثقف رائع ومراسل سابق للفايننشال تايمز من نيودلهي.

"المتخصصون بدارسة المستقبل الاقتصادي في الـ CIA وفي مصارف الاستثمار والجامعات الغربية وشركات الاعلام والصحافة كلهم يتفقون على ان الصين والهند سيكونان في مرحلة ما من القرن الواحد والعشرين هما المسيطران على الاقتصاد العالمي"، هو كتب، قبل عقد تقريبا. " حسب تقديرات الاستخبارات في واشنطن، سوف تتغلب الصين على الولايات المتحدة بين الاعوام 2030 و2040 وان الهند ستتغلب على الولايات المتحدة في عام 2050، بقياس الدولار." وطبقا لـ لوس، كان هناك انقساماً واضحاً في الرأي عن السرعة التي سيتحقق فيها المستقبل: اضافة او طرح نقطتين من نسبة النمو السنوي الهندي سيجعلها تتغلب على الولايات المتحدة في عام 2040 او في عام 2090 في ابعد حد".

مع البرود الحاصل في المناخ الاقتصادي في السنوات الخمس الماضية، كانت هناك مراجعات هائلة للتوقعات تلك والكتب التي صدرت اخيراً عكست ذلك. في 2009، نشرت دار دبينكار كوباتا كتاب " الفينق المقيد: هل تستطيع الهند الطيران؟" وهو اول كتاب ينظر بإحكام في القيود الهيكلية لقصة النمو الهندي. كتب كوبتا بانه بالرغم من وعود الاستقلال والتحرر، استمرت الهند في البقاء في قفص التخلف. لماذا لم تُترجم قصة النمو الى تنمية؟ لماذا لم تؤدِ وفرة رأس المال البشري الهندي الى التميز؟ كيف يمكن للحرمان والازدهار يتعايشان جنباً الى جنب؟

ومع استمرار الهبوط الاقتصادي منذ عام 2010، اصبح المزاج العام اكثر تشاؤماً: نسبة النمو في الهند تراجعت الآن من 9.3% في الربع الاول من عام 2010 الى حوالي 5% سنويا، بانحدار من ثاني اسرع اقتصاد نامي في العالم الى تسلسل عاشر في هذا المؤشر. مؤشرات اقتصادية اخرى تطلق نفس التحذير: الاقتراض العام تضاعف اربع مرات في السنوات الخمس الماضية، العجز القومي يتصاعد، والتضخم يرتفع وقيمة الروبية الهندية هبطت بنسبة 20% في موسم الصيف. وفي سنوات قليلة، تراجعت الهند من منزلة الاقتراب من الهيمنة الاقتصادية العالمية الى ما يسمى بـ "رهان الـ 50- 50".

هبوط الاقتصاد الهندي، كما يذكر Ruchir Sharma مؤلف كتاب (انفجار الامم)، كان ناتجاً في جزء منه عن صعوبات عالمية واسعة خارجة عن السيطرة: تقريبا جميع الاسواق الصاعدة كانت تنمو بنسبة 7% بين 2003 و2008، فقط ثلاث منها كانت اقل من تلك النسبة. الهند عملت جيدا فكانت متوسط نسبة النمو 8.9% خلال سنوات الطفرة هذه لكنها لم تكن مفاجئة. وبفضل الركود العالمي، هبطت نسب النمو بشكل عام. في هذه السنة، يتوقع ان تنمو الصين بنسبة 7.7% والبرازيل اقل من 2.8%. الهند لا تزال لديها فرصة جيدة للنجاح، لكنها ليست افضل فرصة من اي من الاقتصادات الصاعدة.

كتاب سين ودريز لم يكن كتابا صحفياً مثل كتاب (الهند تنادي) لـ Giridharadas، ولا هو كتاب حكائي مثل كتاب (الهند الفرنسية)، ولا هو مذكرات ادبية. هو لم يعرض طريقة جديدة وواضحة للنظر في الفقر كما في كتاب (الاقتصاديات الفقيرة). ما يقدمه وبوضوح نادر هو استخدام شامل ورائع لبيانات معقدة ويطرح اساساً واقعياً للوضع الذي تقف فيه الهند الان وما ينبغي عليها فعله اذا ارادت بلوغ طاقاتها القصوى. هو يبين المدى الذي انتقلت فيه الهند منذ زمن الهيمنة البريطانية حينما كان معدل سنوات العمر عام 1931 فقط 27 سنة. اليوم بلغ 66 سنة. نسبة تعلم الاناث في الهند ارتفعت ايضا من 9% عام 1951 الى 65% حاليا.

ومن جهة اخرى، يبيّن الكاتبان سين ودريز ان " ربع السكان الهنود يبقون اميين بشكل فعال". البنية التحتية جرى تجاهلها بشكل سيء: الخدمات العامة الهندية بقيت موحشة بشكل مرعب، ونظام الرعاية الصحية والتعليم يعانيان من تدهور خطير. حتى اليوم، ثلث الهنود ليس لديهم كهرباء مقارنة بـ 1% في الصين. " نصف منازل الهنود لا تحتوي على مرافق صحية، بما يجبر نصف الهنود على التغوط في العراء. الاجور في المصانع في الصين زادت بنسبة 12% منذ عام 2000، مقارنة بـ 2.5% في الهند، و90% من الهنود لازالوا يعملون بما يسمى "القطاع اللارسمي". وبينما تسلقت الهند سلم النمو الاقتصادي بسرعة، لكنها جاءت خلف النيبال وبنغلادش في درجة المؤشرات الاجتماعية. البرازيل، ذات النمو الاقتصادي الاكثر بطئاً، لديها سجلات افضل بكثير في مجال تقليل الفقر. الهند تبقى شاذة بين مجموعة دول بريكس: "معدل الناتج المحلي الاجمالي الهندي لكل فرد هو اقل من نصف ما لدى الصين، ويعادل ثلث ما لدى البرازيل، وربع ما لدى روسيا".

نأتي الى الجزء الاشد صدمة في الكتاب. في كل سنة، يموت عدد من الاطفال الهنود اكثر من اي مكان في العالم: 1.7 مليون طفل بعمر الخامسة يموتون بسبب امراض يسهل التغلب عليها مثل مرض الإسهال. من بين منْ يبقون احياءاً حتى سن الخامسة، 48% يصابون بالوهن نتيجة نقص الغذاء: سوء التغذية في الهند أعلى مما في ارتيريا.

وفي هذا الجانب يذكر الكاتبان سين ودريز، "ان الإطعام في الهند اسوأ بكثير مما في جنوب الصحراء الافريقية. اكثر من 40% من اطفال جنوب اسيا يعانون من نقص الوزن حسب تقارير منظمة الصحة العالمية، مقارنةً بـ 25% في جنوب الصحراء الافريقية".

ان معظم الاجراءات الصحية الاساسية التي تقوم بها اي حكومة لشعبها هي تطعيم الاطفال الصغار، ولكن في الهند، فقط 43.5% من الاطفال يتم تلقيحهم بالكامل، مقارنةً بـ 73.1% في بنغلادش: "الهند تأتي وراء كل بلد من بلدان جنوب اسيا، باستثناء باكستان، في مجال المؤشرات الاجتماعية". على سبيل المثال، سنوات الحياة المتوقعة كانت متساوية في الهند وبنغلادش عام 1990 ولكن الحياة في الهند اليوم تقل عن بنغلادش بمقدار اربع سنوات، 65 و 69 حسب التعاقب. وكذلك بالنسبة لوفيات الاطفال، قُدرت بحوالي 20% أعلى في بنغلادش منه الى الهند عام 1990، لكنها انخفضت بسرعة في بنغلادش لتصبح الآن 25% أقل مما كانت عليه في الهند عام 2011".

في صحراء افريقيا الكبرى، فقط 8 من بين 25 دولة لديها ارقام تطعيم بنفس درجة السوء السائدة في الهند. تعليم الابجدية للبالغين في الهند ليس هو الأقل في العالم وانما هو بنسبة 65%، هو بنفس مستوى التعليم في مالاوي والسودان. تعليم الابجدية في الصين هو 91%. وماهو اسوأ في الموقف الهندي حين يذكر الكاتبان بان الديمقراطية الهندية هي مقيدة بشكل فادح بمدى وبطبيعة التباين الاجتماعي.

ان تحسين التعليم هو جوهر الحل للمشكلة. ضعف الأداء الهندي يمكن تعقبهُ الى الفشل في التعلم من التقدم الحاصل في الاقتصادات الاسيوية، التي فيها كان التوسع السريع للقدرات الانسانية هو هدف بذاته وايضا عنصر مكمل في عملية النمو السريع. اليابان كانت اول من دشن ذلك الاتجاه، مبتدئةً باصلاحات ميجي عام 1868، التي دعت لتحقيق مجتمع متعلم كلياً خلال عدة عقود. وكما اوضح كيدو تاكايوشي احد قادة ذلك الاصلاح بقوله: "شعبنا لا يختلف عن الامريكيين او الاوربيين الحاليين، المسألة كلها تتعلق بالتعليم او بنقص التعليم.

الهنود يثمنون عاليا هذه الرؤية، لكن تعليم حكومي فعال يبقى بعيداً عن متناول الملايين. القطاع الخاص عادة هو ممتاز لكن مدارس الدولة – المتوفرة لمعظم الهنود العاديين – تبقى سيئة جداً.

بعض الكتّاب ذكروا ان الخطر الاكبر الذي يواجه الهند هو ليس باكستان وانما الثقة المفرطة. صحيح ان السياسات الديمقراطية توفر فرص لمعظم المحرومين الهنود في التخلص من الحرمان ولكن بالاضافة الى التنظيم السياسي، ما هو حيوي هو "فهم منطقي وواضح للمدى المكثف وللطبيعة الغريبة للحرمان وعدم المساواة في الهند. وهي احدى التحديات الرئيسية التي تواجه الهند اليوم.

ما عرضهُ الكاتبان من بيانات عن الفقر وبصيغة شديدة الوضوح، يكونان قد ساهما في ايجاد طرق لحل المشاكل التي يواجهها ملايين الهنود.

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/hatimhameed.htm

.............................................................

كتاب (المجد غير الواضح: الهند وتناقضاتها) للكاتبين Jean Dreze و Amartya Sen، صدر في تموز 2013 عن دار بنغوين في 448 صفحة.

NewStatesman، عدد 5 تموز 2013.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 3/آب/2013 - 25/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م