الأفذاذُ الّذين يصنعون للإنسانيّة تاريخها، همّ نُدرة نَادرة من
بَيّن الكمّ العددي الكبير للبشريّة. فالذي يصنع التّاريخ، لا بدّ أَنْ
يَنذُرَ نفسَهُ لخدمة صالح الآخرين. وكلّما تماهى هذا الشخص، في
الاخلاص لمبادئهِ وقيمهِ الصّالحة التي يؤمنُ بها، ويُوظِّفُها لخدمة
الصالح العامّ، فإنّه يزداد سُموّاً ورفعةً في نظرِ البشريّة. وكلّما
كان عاملاً بشكلٍ فاعلٍ لتغيّر الواقع نحو الأفضل والأَحسن، انطلاقاً
من تعاليم قيمه ومبادئه الصحيحة، فإنّه يَشغَلُ مساحةً كبيرةً وحيّةً،
مِن ذاكرةِ التاريخ.
وهذه المساحةُ تزدادُ اتّساعاً وحيويّةً، كلما كانت التضحياتُ
كبيرةً والتفاني أكثرَ، وهكذا كانَ الإِمام عليّ بن ابي طالب (ع). فلَمْ
يعِشْ هذا الإنسانُ الصالحُ لذاتِهِ أبَداً، وإنّما وَهبَ ذاتَهُ
للآخرين على طولِ خطِّ مسارِ حياته، حتى يعيشوا بعافيةٍ مِن الدّين
والدّنيا.
لقدّ مرّت حياةُ الإِمام عليّ (ع) بأربع مراحل أساسيّة هي:
1. مرحلةُ التربيةِ الأساسيّة والاعداد العقائديّ والفكريّ.
2. مرحلةُ الدّفاعِ عن رسالة الإسلام.
3. مرحلةُ بناءِ كيان دوّلة الإسلام.
4. مرحلةُ قيادةِ الدّولة الإسلاميّة بعد الرسول(ص).
1. مرحلةُ التربيةِ الأساسيّة والاعداد
العقائدي والفكري.
لقدّ اهتم رسول الله بعليّ(ع) منذ ولادته، ويصف الإمام عليّ(ع) هذا
الاهتمام بنفسه فيقول: (وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ
اللَّه (ص)، بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ،
وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه،
ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه،
وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي
كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ)(نهج البلاغة).
فتعلّمَ الإمامُ عليّ(ع) المبادئ الرساليّة مِن أَصلِها، ونهلَ من
نَبعِها. ولازمَ رسولَ الله(ص)، في رحلةِ التّبليغِ فأعلن اسلامه (وهو
في العاشرة من عمرة أو أكثر بقليل). وصلى خَلْفَ النبي(ص) ومعهما أُمّ
المؤمنين خديجة بنت خويلد(رض)، ولمْ يكنْ أحدٌ قدّ أَسلمَ غيرَهُم.
يقولُ العبّاس بن عبد المطلب: (وأيم الله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً
على هذا الدّين إلاّ هؤلاء الثلاثة).
وعندما أَخذَ رسول الله(ص) يدعو إلى رسالته، تَعنَّتتْ قريشٌ
بشِركها، وبدأت تؤذي رسول الله، فتُرسلُ صبيانَها لإيذاءِ رسول الله(ص)،
للتقليل من شأنه. فكان عليّ (ع) يَنقَضُّ عليهم واحداً واحداً، فيقضِمُ
(يقطع بأسنانه) آذانَهم وأنوفَهم فسميَ (القَضِمْ)، فلمْ يَجرُؤ صَبيٌ
من الصبيان بعد ذلك، أنْ يتعرّض لرسول الله(ص) وعليّ(ع) يسيرُ خلفه،
وظلّت هذه الصّفةُ في ذاكرةِ العرب. ففي معركة أُحُد برز (طلحة العبدري)
لمعسكر المسلمين، وبرز إليه أمير المؤمنين(ع) فسأله طلحة: مَنْ أَنّتَ
يا غلام؟. قال: أنا علي بن أبي طالب. قال طلحة: قد علمتُ يا (قَضِمْ)
أَنّه لا يجسُر عليّ أحدٌ غيرَك. وكان عُمْرُ عليّ (ع) حينذاك ستة
وعشرين سنة.
2. مرحلةُ الدفاعِ عن رسالة الاسلام.
عاشَ عليٌّ(ع) محنةَ النبيّ عندما جَفَتهُ قريشٌ فقاطعت بني هاشم،
وفرضت عليهم الحِصَارَ في شِعْبِ أَبي طالب. وكان عليٌّ(ع) يتسلّل ليلاً
فيذهب إلى مكّة ليُحضرَ مايتمكن من طعام، ليَسُدَّ به رمقَ بعضِ
المحاصرين، وكان عمرهُ سبعةَ عشرَ عاماً. وعليٌّ (ع) فَدَى نفسهُ
بالنبيّ(ص) عندما أمره النبي(ص) بالمبيت في فِراشِه، وكانَ عمرهُ آنذاك
ثلاثةً وعشرين سنةٍ تقريباً، فَسَأَلَ عليٌ (ع) رسولَ الله(ص): أو
تَسْلَمْ يا رسولَ الله إنْ فديتكَ بنفسي؟. فكانت اجابة الرسول(ص):
نَعمْ بذلكَ وَعدني ربّي.
وتمّ ذلك، وعليّ (ع) يعلمُ أَنَّ قريشاً قرّرت أَنْ تجمع من كلّ
قبيلة رجلاً، ويجهزون على النبيّ (ص)، وهو نائمٌ في فِراشه. كما نفَّذَ
عليٌّ (ع) وصيّتين للرسول(ص)، هما ارجاع الأماناتِ التي أودعها الناس
عندَ رسول الله(ص)، وإيصال نساء بني هاشم، ومن يلتحقُ بالرّكبِ مِن
ضُعفاءِ المُسلمين إِلى المدينة. ونَفّذَ أبو الحسن(ع) مهمّتَهُ على
أَكمَلِ وَجهٍ، بعدَ أنْ قتلَ أَحَدْ الفُرسان الذين ارسلتهم قريش
لإجبار عليّ(ع)، للرجوع إلى مكّة.
3. مرحلةُ بناءِ كيان دوّلة الإسلام
عاشَ الإمامُ عليّ(ع) مع النبيّ (ص) في مكةَ، زُهاءَ ثلاث وعشرين
سنة. بعدَها بدأت مرحلةٌ جديدةٌ. هي مرحلةُ الهجرةِ إِلى المدينة،
فكانَت انطلاقةً جديدةً في حياة المسلمين، وهي الكفاحُ مِن أجلِ بناءِ
دوّلةٍ لها كيانٍ خاصٍّ، وهويّةٍ مميزةٍ. تستمدُ قوانينَها مِن القرآنِ
الكريمِ، وسُنّةِ النبيّ محمد (ص). هذه المرحلةُ اتّسمت، بخوّض الحُروب
مع أَعداءِ الإِسلامِ، وإِبرامِ معاهداتِ السَلامِ مع بعضِ القبائل. إنَّ
دوّلةَ الإسلامِ الفتيّةِ بحاجةٍ إلى تأكيدِ وجودِها، وضمانِ انفتاحها
على العالم، لتبليغ رسالتها للجميع. فأخذَ النبيّ(ص) يُرسلُ المبعوثينَ
لمراكز القوى في المنطقة وخارجها.
في السنةِ الثانيةِ مِن الهجرةِ، تَزوّجَ الإمامُ عليّ (ع) بسيّدة
النّساء فاطمة بنت رسول اللَّه (ص). واشترك في معركة بَدرٍ الكُبرى،
وأَثبتَ فيها جدارةً قتاليّةً منقطعةِ النّظير، وهو في الخامسةِ
والعشرينَ مِن عمرهِ الشّريف. فقَتَلَ مِن فُرسَانِ قُريشٍ أربعةً
وعشرين رجلاً بسيفه، وثمانيةً وعشرين آخرين، أشتركَ في قتلهم مع غيرهِ
من المقاتلين.
في السنةِ الثالثةِ مِن الهجرةِ، اشتركَ الإمامُ عليّ(ع) في معركة
أُحُد، وكانَ أوّلَ مَن بَرَزَ مِنَ المسلمين إلى خَصمهِ (طلحة بن
عثمان)، وبضربةٍ واحدةٍ مِن عليّ(ع)، قُطعَت ساقُ طلحةَ وسقطَ على
الأرض. فكبّر النبي(ص) وكبّر معه اصحابُه. وعندما تبدّل الموقف
العسكريّ، بسبب خطأ في إدارة المعركة، ارتكبهُ بعضُ المقاتلين، بسببِ
عدمِ التزامِهم بوصيّةِ قائدهِم رسول الله(ص). فانكشفت جبهةُ النّبي
(ص)، فقال لعليّ(ع)، إحمل عليهم، فحمل عليهم وقتل عدداً من المشركين.
(فقال جبرائيل: يا رسول الله هذه المواساة. فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (إنّه مِنّي وأنا منه. فقال جبرائيل: وأنا منكما، فسمعوا
صوتاً: لا سيف إلاّ ذوالفقار، ولا فتىً إلا عَلِيّ.)(ابن الأثير الكامل
في التاريخ ج2 ص148).
وفي السنةِ الرابعةِ من الهجرةِ، اشترك الإمامُ(ع) في معركة الخندق.
وحادثةُ قَتلِ عليّ(ع) لعمروبن ودّ العامري، (الذي كان يُعادلُ ألفَ
فارس) مشهورةٌ عند الجميع. وقولُ رسول الله(ص) عندما برَزَ عليٌّ(ع)
لعمرو بن عبد ودّ: (بَرَزَ الإيمانُ كُلُّه إلى الشِرك كُلِّه). وتوالت
تضحياتُ الإمام عليّ(ع)، في الدِّفاع عن الإسلام في بقيّة المعارك، وهو
يُسجِلُ فيها الانتصارات الرائعة. وفي السنةِ العاشرةِ مِن الهجرة،
شاركَ في فتحِ مكّة. بعدَها أوفدهُ النبيّ(ص) إلى اليمنِ لينشرَ
الدعوةِ هناك. تكملةُ الموضوعِ في الحلقةِ الثانيةِ انشاءَ اللهُ
تَعَالى.
* كاتب وباحث عراقي
[email protected]
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mohamedjoaad.htm |