شبكة النبأ: كيف يمكن الاقتراب من
عليّ، وهو له تلك الصور المتعددة، في الوجدان او المخيال، التي صنعتها
اقلام المؤرخين، حبا باسمه وصفاته، او كرها من الاخرين، وما بين
الاثنين ضاع الكثيرون.
كيف يمكن وعبر اربعة عشر قرنا ان نسائل تلك الصور، وان نتمكن من
استنطاقها والحديث عنها، وكل صورة نجهل عمق الحقيقة الطافح منها،
والحقيقة بسيطة عند عليّ، جهد عمره في قولها لنا، لكننا بعيدون عنه وعن
حقيقته، لاننا بعيدون عن انفسنا.
كيف يمكننا الوصول الى عليّ، وهو الدائرة وقطب الرحى، للناقمين منه
والمدافعين عنه، ومابينهما اتجاهات اخرى متعددة، كل يدعي وصلا به، وانه
يدور حيث تدور تلك الدائرة.
شغلت شخصية عليّ، الكثيرين وهي محل اشغال وانشغال متجدد الى اخر
نبضة قلم قبل الصيحة الكبرى.
كان الجميع يقترب منه بحذر، من احبه ومن كرهه، فهو للقسم الاول
شخصية لن تتكرر، له مهابة في الحضور او في الغياب، وهي لايمكن ان
تتساوى مع اشخاص اخرين، لاتستطيع ان تتطاول قاماتهم الى تلك القامة
التي ارتفعت وساوت قامة الاسلام، فعلي حين يذكر، يذكر الاسلام معه،
بقاءا وعنفوانا وتجددا.
وعليّ للقسم الثاني، يشبه غيره من شخصيات، فلا فضل ولا سابقة ولا
لاحقة، وربما تفوق عليه اخرون في مجالات الفضل او السبق او اللحاق بهم،
وهؤلاء حين يساوون بين الجميع، لاينظرون الى المساواة الا كفعل اخلال
في الموازين، وغياب بصيرة لاترى من الحق الا ماتعودت عليه عقولهم بعد
ان غابت الحقيقة عن نفوسهم، وهم ينشغلون بالهامش على حساب المتن، وهو
هامش كثيرا ما لايلتفت اليه، لانه مهما كبر او تعاظم فهو سقط متاع، او
لغو وحشو وهذيان لايملأ اماكن النص مهما تعاظم علو صوته.
كتب الكثيرون عن ابن ابي طالب، وتنوعت منطلقات تلك الكتابات تبعا
لتنوع المرجعيات الفكرية الناظمة لاقلام الكتاب... فهو عند انصار
الحركات الاشتراكية اول اشتراكي في التاريخ الاسلامي عبر عدالته
الاجتماعية، وهو لدى مناصري الحقوق المدنية اول ناطق باسمهم عبر عهده
لمالك الاستر، وهو عند نحّاة اللغة اول نحوي في تقعيد الكلام لاسم وفعل
وحرف جر، وهو للمتصوفة واصحاب الطرق الصوفية اول زعيم لهم، وهو
للفلاسفة اول معلم لهم، وقل غير ذلك في صفات نفسية او جسدية اخرى تنجذب
اليها فطرة الانسان في كل زمان ومكان.
ترافقت في شخصية عليّ، جميع مايمكن ان يطمح اليه انسان من تكامل في
الصفات والاخلاق، وعدّ نموذجا وقدوة صنعها الاسلام وقال هذا نموذجي
المتكامل.
من الكتّاب الذين حاولوا ان يرسموا صورة لابن ابي طالب، الكاتب
اللبناني جورج جرداق عبر خماسيته الشهيرة (الامام علي صوت العدالة
الانسانية) والتي وزعها عبر خمسة عناوين رئيسية هي:
علي وحقوق الانسان، علي والثورة الفرنسية، علي وسقراط، علي وعصره،
علي والقومية العربية.
منذ سنوات القراءة الاولى، جذبتني تلك العناوين، ولم يكن وقتها
بمقدوري ان اطرح الكثير من الاسئلة، امام ازدهار الاجوبة التي اجدها
امامي في جميع الكتب التي قرأتها.
بعد سنوات اصبحت الاسئلة اكثر مما تستطيع الكتب ان تجيبني عليها، او
انني احيانا لا استطيع اللحاق بها.
خلال كل تلك السنوات كانت الاسئلة هي نفسها، والاحداث تتسابق
وتتراكم في حياتنا، واصداء صوت العدالة الانسانية يتردد في اذني، وعاد
للتردد بقوة خلال الفترة الماضية، فترة شهدت ازدهارا في المطالبات
بحقوق الانسان، واندلعت الثورات العربية، مع تذبذب في التقدم والتراجع
لافكار ومشاعر القومية العربية، وظهرت الجماعات التي تبحث عن الخلاص،
في عصر يتشابه مع عصور سابقة في صراعه الازلي بين الحق والباطل.
عدت قبل فترة لكتاب جورج جرداق، وجميع الافكار التي حملها كتابه
نعيشها، كاننا نعيش عصر ابن ابي طالب، الذي تعاصرنا افكاره وتعاليمه.
في علي وسقراط، يشرح جورج جرداق سبب المقابلة بين عظيم اثينا وعظيم
الكوفة، فكلاهما كان في عهده مظهرا لمجتمع جديد وحاجات جديدة. فراح
يهدم ويبني، فعادوه وتالبوا عليه، فثبت لهم كالطود الراسخ وازداد بالحق
ايمانا. وكلاهما جابه الطغاة والوجهاء وكانزي الذهب واهل السلطان
واصحاب الجيوش، بسلامة الفطرة الانسانية، وقدرة العقل وحرارة القلب
ووهج الضمير والايمان بخير الحياة. وكلا الرجلين تراث للانسانية عظيم.
وكلاهما من الذين ماعملوا عملا الا رأينا فيه صورة الانسان المتفوق
العظيم في كل ارض، وما قالوا قولا الا اصغينا فيه الى ضمير الانسان
المتحد بعدالة الوجود وقيم الحياة. وكلاهما يخدمان حقيقة واحدة في جوهر
ما قالا وما عملا.
وكلاهما تزعم في تاريخ الفكر والروح لامة من الامم، طور الاستاذية
فكان له في حياته تلاميذ وانصار هلكوا في ضلال زمانهم، وتلاميذ وانصار
اخرون حملوا رايته بعد موته فعاشوا في ظلها او قضوا لافرق لديهم بين
حياة وموت، وكلاهما احدث انقساما في الاراء والمذاهب قلما احدث مثلها
بشر من قبل او من بعد.
وسقراط، الذي يمكن اعتباره أبا الفلسفة الغربية، كانت فلسفته، تقوم
على الاعتقاد بأن فطنة الكائن البشري إنما علَّتُها تلك الروح العاقلة
القوَّامة على الجسد، ذات الأصل الإلهي فإنه يصير بوسعنا قبول ذلك
المفهوم الداعي إلى ضرورة تفهُّم أفضل للنفس، أي (اعرف نفسك)، التي
اتخذها سقراط شعارًا: (حياة لا يُفحَص عنها لا تستحق أن تعاش). لأن
أكثر ما يشدِّد العزيمة، حينما يتعلق الأمر بفناء الجسد، هو الإيمان
بخلود الروح.
يعتقد سقراط أن الكرامة الحقيقية للنفس إنما تنبثق من العلم الذي هو
ميراثها الحق. جاعلاً من علم الأخلاق في القلب من مسعاه الفلسفي. لأنه،
وفق مفهومه، بات يجب على الروح، التي تخلَّت عن محاولة فهم الكون،
الهبوطُ إلى أعماق نفسها، كي تستنبط الحقائق الأساسية الكامنة في تلك
الأعماق على شكل حالات بالقوَّة.
وبما أن موهبة (فنَّ) العيش السليم، كطريق إلى السعادة (والخير هو
السعادة وفق المأثور القديم)، مرتبطة بمعرفة النفس، فإنها، متجاوزةً
حذاقة السفسطائيين، تكشف ضلال البشر الذين لا يهتمون، في معظم الأحوال،
إلا بالأشياء التافهة الزائلة (كالثروة، والسمعة، إلخ)، ويتجاهلون ما
هو أساسي، أي الحقيقة الكامنة في نفوسهم. وتبدأ المعرفة، بحسب سقراط،
بفعل تطهُّر، يُظهِر، من خلال التخلُّص من الأفكار المسبقة بإظهار
بطلانها، مختلف الخصال الحميدة (كالاعتدال، والعدالة، إلخ)؛ تلك التي،
إنْ أحسن المرء استعمالها، تتحول إلى فضائل؛ إذ (لا أحد شرير
باختياره)، وإنما بسبب الجهل. كما عبر عن تلك الافكارقاموس ناثان
الفلسفي.
في علي والثورة الفرنسية، يفسر الكاتب هذه المقارنة، التشابه بين
الحكومة الفرنسية القائمة بالملك والنبلاء والاقطاعيين والمستغلين قبل
الثورة، وبين البلوتوقراطية العربية الجاهلية التي استعادت وجودها
وخصائصها في عهد عثمان، قبيل استخلاف علي. ونحن اذا قارنا بين مباديء
هذه الثورة والمباديء العلوية، تبين لنا بوضوح خالص مركز ابن ابي طالب
بين صانعي المباديء الانسانية في التاريخ. وهو تشابه كائن بين مباديء
الثورة الكبرى، نصوصا منطوقة ومباديء عليّ.
ومثل ذلك يقال عن بقية المقارنات الموجودة في العناوين الاخرى، التي
تتشابه في كثير من ملامحها مع مانعيشه في عصرنا هذا.
الخماسية المسيحية لجورج جرداق، لم تنطلق في تصور الكاتب كما قد
يعتقد البعض، من محاولة لردم الهوة بين المسيحية والاسلام، بل هي
محاولة لرسم صورة لشخصية اسلامية بريشة مسيحية متجاوزة اختلاف الالوان
او قماش اللوحة، الذي كثيرا ماننحصر فيه وبداخله حتى لانعود قادرين على
التمييز بين الالوان الطافحة بالحياة والمحبة، عبر عيسى ابن مريم وعلي
ابن ابي طالب. |