رسالة مفتوحة إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام

كاظم فنجان الحمامي

 

اسمحوا لي بإرسال هذه الرسالة العراقية المفتوحة إلى مقام الأمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الذكرى السنوية لاستشهاده بمسجد الكوفة ليلة 21 رمضان سنة 40 هجرية.

نص الرسالة المفتوحة

السلام عليك يا أمير المؤمنين، وأمام المتقين، وقائد الغر المحجلين ورحمة الله وبركاته..

ظلامتنا وإن كانت فرع من ظلامتك، إلا إنني رأيت أن أرفعها إلى مقامك الأرفع، لأننا صغار أمام علوك، نتوقع أنّ ما يحل بنا عظيماً..

هذه يا سيدي رسالة شكوى ارفعها لمقامك الكريم، استعرض فيها الصور والمشاهد المؤلمة التي تتعارض تماما مع المبادئ التي ضحيت من اجلها، وتتقاطع مع المفاهيم التي آمنت بها، فإليك يا (صوت العدالة الإنسانية) أرفع همومنا، مع شعوري التام بالعجز عن الوفاء بما لك من مكانة عظيمة في قلوب المسلمين كافة، وقلوب غير المسلمين، وأنا اخط بقلمي الكال هذا في فنائك المهيع..

سيدي أبا تراب

يتعاقب الليل والنهار، وتتقلب الأزمان، وتنقلني الأيام في الألفية الثالثة إلى الكوفة لأقف بباب دارك، أتأمل جدرانها الطينية المتشققة، وأبوابها القصبية المفككة. أنظر إلى حصيرتها البالية الممدودة فوق ذرات التراب الساخن، فيدفعني الظمأ لأرتوي من ماء البئر المحفورة في باحة الدار، التي حفظت ذاكرة السنوات المشحونة بالإيمان والصبر والجهاد في سبيل الله الواحد الأحد الفرد الصمد، فتنهمر من عيني الدموع كلما نظرت إلى واجهات قصور منيفة، وأسوار مخيفة، ودور مزخرفة، يسكنها اليوم أصحاب السعادة الوهمية، والوجاهة الخيالية، والسمو المصطنع، في منتجعات مخملية تتوسطها برك للسباحة، وتحيط بها حدائق للعب واللهو، في قصور نأت عن ضواحي المدن العراقية، وتحصنت خلف أسوار خراسانية، ودعامات فولاذية، وعجلات مصفحة، شرفاتها لها أجنحة كأجنحة النسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة، يطوف حولها جنود غلاظ بعيون مبحلقة، ورؤوس حليقة، وعضلات مفتولة، ووجوه مبرقعة..

كان بوسعك ان تشيد القصور الفخمة، وتغلق الطرق المؤدية إليها بالحجارة المستوردة من أسوار الصين، وان تزرع الأسلاك الشائكة، وتحمي قصورك بالجيوش الملثمة، لكن حاشاك أبيت إلا أن تكون مع شعبك في معاناتهم، تتحسس آلامهم، وتسمع أنين ثكلاتهم، وصرخات جياعهم، فكنت كما قلت، القوي عندك ضعيف حتى تأخذ منه الحق، والضعيف عندك قوي حتى تأخذ له الحق؟؟..

سيدي أمير البررة، وأبا الأيتام والأرامل

كان بيت المال تحت تصرفك، وبيدك الخراج كله، وأنت الأمين على الغنائم في الأمصار والأقطار والثغور والقصبات، لكنك جعلت نفسك أفقر الفقراء المتعففين المتقشفين، فالعفاف عندك زينة الفقر، والغنى زينة الشكر، تلبس من الثياب ما قصر، وتأكل من الطعان ما جشب. لم تكن تملك دارا غير هذه التي استأجرتها من (أم هانئ)، ولطالما نظرت بازدراء لقصر الإمارة، حتى انك سميته (قصر الخبل)، اما اليوم فقد صار الخبل عنوانا لغرائز الولاة الجدد، بعد أن لوث الطمع عقولهم، فأصبحت العقارات هوايتهم، والترف ضالتهم..

أتلمس الجدران الناطقة بالحق منذ العقد الهجري الثالث فأسمعك تقول لأبن عباس: ((إنّ إمرتكم هذه لا تساوي شسع نعلي ما لم أقم بها عدلا وأدخر باطلا))، لكننا اليوم يا سيدي صرنا نرى فئات وفئات من المتكالبين على المناصب، يركعون تحت أقدام أصحاب النفوذ، يقبلون نعالهم، يتمسحون بأذيالهم، يحومون كما الذباب يحوم على موائدهم، في سباق محموم للوصول إلى الكراسي المرموقة والمناصب المغرية، يتقنون التزلف والتملق كحرفة دنيئة لا يجيدون غيرها، يتفننون بالتودد لمن هم في الأعلى، يتعمدون الإساءة لمن هم أكفأ منهم، يحيكون المؤامرات والدسائس، ينصبون الفخاخ، ينسجون الأحابيل، حتى انغمسوا في ممارسة الرذيلة، وضاعوا في سوء الكيلة، فانقلبت عندهم مفاهيم العدالة والاستقامة، وصار التعدي على المال العام في نظرهم شطارة، والكذب عندهم مهارة، والدين تجارة، والحيلة فطنة. والصدق بلاهة..

سيدي صاحب اللواء

أكاد أن أموت من القهر كلما قرأت كلمتك التي تقول فيها: ((إذا رأيت نملة في الطريق فلا تدسها، وأبتغ بذلك وجه الله عسى أن يرحمك كما رحمتها))، فينخلع قلبي لمنظر المواكب الاستفزازية لكبار المسؤولين وهي تجوب الشوارع جيئة وذهابا، بسرعات جنونية، ترعب الناس بصفاراتها المزمجرة، تثير الرعب في نفوسهم المتعبة، صراخ مزعج ينبعث من مكبرات الصوت، ينذر الناس بوجوب إخلاء الطريق، عجلات مصفحة، وأخرى مدرعة، تسابق الريح، لا تتردد في سحق من يقف في طريقها، وكأنها متوجهة لخوض معركة مصيرية وشيكة الوقوع..

أتُراك يا سيدي كنت تركب الخيول النفيسة المطهمة وتتبختر في ضواحي الكوفة، أم كنت تسير راجلا في الأسواق، أو على ظهر بغلتك الشهباء، حتى إذا اعترضتك قطة صغيرة وسط الطريق، حملتها برفق إلى الجانب الآخر..

سيدي لا أريد أن استعرض هنا تلك الحكاية التي تروي ما دار بينك وبين شقيقك عقيل في بيت المال، وقصة الجمرة التي وضعتها في يده، لأنها من الروايات الموضوعة بدليل إن عقيلا لم يفقد بصره إلا بعد استشهادك بأعوام، وهل يصدق أمرؤ أنك تفعل ذلك بأخيك المملق، وأنت الذي خلدك القرآن بتقديم طعامك ثلاثة ليالٍ متواليات ليتيم ومسكين وأسير، واكتفائك بالماء، لكن الذي لا يصدق هو ما يحدث أمامنا اليوم من تستر على اللصوص والسراق من الذين تظاهروا بالورع والدين والتقوى، ثم نهبوا المال العام ولاذوا بالفرار، وإن الذي لا يمكن تصديقه هو هذا الذي يحدث أمامنا من فساد مالي وإداري تساوينا فيه مع الصومال وجيبوتي بمقياس منظمة الشفافية العالمية، فما أحوجنا اليوم إلى التسلح بقوة الإيمان، فنردع السراق الذين انتهكوا الشرائع الأصيلة، وأساءوا إلى القيم النبيلة، وما أحوجنا اليوم إلى من يثبت على موقفك عندما عاتبك أصحابك على المساواة في العطاء بين الناس، وطلبوا تمييزا لبعضهم يرفعهم في العطاء فوق العامة، فقلت لهم: ((أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليهم، والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أم نجم في السماء نجما، ولو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله؟؟))، ثم قلت: ((ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا، ويضعه في الآخرة، ويكرمه في الناس، ويهينه عند الله)).

سيدي كم كنت صادقا عندما خرجت ومعك سيفك لتبيعه، فقلت: ((من يشتري مني هذا السيف، فو الذي فلق الحبة، لطالما كشفت به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله، ولو كان عندي ثمن إزار لما بعته))، أما اليوم فقد أضحينا ننظر بألم إلى هذا الثراء الفاحش للكثير من السياسيين، بينما يزداد المواطن العراقي البسيط فقراً، وأنت القائل ((لو كان الفقر رجلا لقتلته))، وها هو الفقر يتحدانا ويتمرد علينا ويقف في طريقنا تارة بصورة رجل، وتارة أخرى بصورة امرأة، من دون أن يقاتله أحد من المسؤولين، الذين لم يعد لدينا فرقا في تصريحاتهم، فكلهم سواء في وعودهم المؤجلة، حتى صارت وعودهم عندنا أشبه ما تكون بالكلمات المتقاطعة التي يصعب حل شفرتها، وأني وإن كنت أرثي هذه الأحوال المزرية التي وصلنا إليها، وما آلت إليه أوضاعنا، أكاد أرصد الكثير من المفارقات العجيبة، حينما أرى إن الفقر أصبح من الظواهر المؤسفة لشعب يمتلك الحصة الأكبر من الثروات الطبيعية في عموم كوكب الأرض، عوائل تعيش في المزابل وبين مكبات القمامة، وعوائل تمتهن التسول في الساحات العامة وعند تقاطعات الطرق الداخلية، وعوائل تسكن في بيوت الصفيح، وأخرى تنام مع الموتى في اللحود والمقابر..

سيدي هازم الأحزاب

أتعس ما نمر به اليوم شعورنا بالغربة داخل بيوتنا وأوطاننا، شعورنا بالخذلان بين أهلنا وذوينا، نحن غرباء في العراق لأن معظمنا لا ينتمي إلى العشائر المستبدة المتجبرة، التي ماانفكت تتمسك بشعار: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما) وتتفاخر بهذا الشعار في مجتمع اعتادت فيه الأسماك الكبيرة على ابتلاع الأسماك الصغيرة. نعيش في عزلة تامة لأننا لا ننتمي إلى الأحزاب المتنفذة، التي جثمت على صدورنا وتلاعبت بمصيرنا منذ بدايات القرن الماضي، فأسست في وطننا قواعد هذا البنيان السياسي الفوضوي المصطنع، فشهدنا وقائع مسلسل السنوات الخداعات، التي كان يؤتمن فيها الخائن، ويخوّن الأمين، ويُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب الصادق، حتى افترستنا الغربة حينما ضاعت في وطننا معايير التقييم والترقية، فتسيد الأميون والفاشلون على ذوي الكفاءات وأساتذة الجامعات..

سيدي نصير الضعفاء

تجرّعنا مرارة الغربة وآلامها، وشربنا من انهار عذاباتها منذ زمن بعيد، حتى أكلت الغربة ريع أعمارنا ولم تشبع، فطحنّاها بالعمل والأمل ولم تشبع، ثم سقيناها بالصبر والإيمان ولم تشبع، ورثنا عن أجدادنا الأوجاع القديمة كلها، رضعناها حليبا من أثداء الرافدين، صارت عندنا اليوم جيوش من الأرامل، وأبناء لم يسمعوا شيئا عن آبائهم، في العراق أفراحنا عزاء، وليالينا هموم تتكدس فوق بعضها، نخشى أن نضحك حتى في السر، فالضحك عند معظمنا من الممنوعات، وعند بعضنا من المحرمات.

يُخيل إلينا أحيانا أننا نعيش في (سيرك) تنكري كبير فقدت فيه القيم، وضاعت فيه المبادئ، وانتهكت فيه المعاني والعبارات، فلم نعد نشعر إلا بالغربة في وطن لا يعطينا سوى الموت والدمار، وطن لا يشبع من آلامنا ومآسينا، ولا يسمع صراخنا وعويلنا، ولا يستجيب لنا، فتعمق شعورنا بالغربة، حتى صارت غربتنا حقيقية، وخذلتنا الحكومات المتعثرة في تجاربها الفاشلة، وأصبح الخذلان رفيقنا، وتعددت مواقف الخذلان لتعتري أنماطا جديدة من حياتنا اليومية البائسة..

سيدي أبا الشهداء

لقد كان استشهادك في محراب الحق درسا للأمة تعلمت فيه معنى الثبات على المبادئ الصحيحة، وكانت كلمتك (فزت ورب الكعبة) درسا للسياسيين المختبئين خلف الستائر الفولاذية المصفحة، ودرسا للمتهافتين على اقتناء العجلات المدرعة، والسيارات المظللة..

لقد كنت يا سيدي رائعا في خلقك، كاملا في إيمانك، ثابتا في يقينك، فريدا في خصالك، فمتى يتعلم منك هؤلاء؟، ومتى ينهلون من علومك؟؟، فلك مني يا سيدي كل المحبة والولاء، ولك من كل مسلم كل المودة والوفاء، وأتضرع إلى المولى في علاه أن يجمعنا بك في رحمته تحت لواء سيد الأنام في جنة الفردوس عند الملك القدوس..

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/katheam%20fingin.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 29/تموز/2013 - 20/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م