الفساد اخلاقي واجتماعي اولا

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: خلال شهر واحد اخذت احد ابنائي لمكانين للعلاج من التهاب في اذنه.. الاول طبيب معروف في منطقتي التي اقطن فيها، دلني عليه احد الاشخاص، عند انتظاري لدوري في الكشف والمعاينة، كان كل من يخرج من الطبيب يسأل السكرتيرة عن الصيدلية الفلانية، وكانت تدلّهم عليها من خلال الوصف والتحديد.. ولما كنت ابن المنطقة منذ سنوات طويلة فاني لا اتذكر ان هناك صيدلية على الشارع العام تحمل هذا الاسم الذي يسالون عنه.. المهم دخلنا الى الطبيب، وبعد الكشف والمعاينة، كتب الوصفة الطبية الباهرة، وطلب مني جلبها من الصيدلية اياها، لم استطع الانسحاب من امامه دون طرح السؤال الذي الح كثيرا علي اثناء الانتظار، لماذا هذه الصيدلية تحديدا؟ انزعج من سؤالي، واخذ بالدفاع عن نفسه، واخبرني انها تعطي الادوية الاصلية التي تكتب في الوصفة.

نزلت الى الشارع، اتلفت يمينا وشمالا بحثا عن هذه الصيدلية، لا اثر لها، مائة متر الى يمين العيادة ومثلها الى اليسار لكل جهة من الشارع، ولا اثر لها.. ارسلت ابني الى العيادة لسؤال السكرتيرة، جاءني وهو يقول انها في هذا الشارع الفرعي.

الشارع الذي تقع فيه الصيدلية، لايمكن ان يكون محط اهتمام للمرضى لا من قريب ولا من بعيد، لانه باختصار شارع فيه محلات تبيع المواد الانشائية والصحيات والاصباغ، الصيدلية تقع بين هذه المحلات، وهي قد تم افتتاحها حديثا، ولا يصل اليها احد المرضى الا بتوجيه من الطبيب الذي يزوره، الصيدلي صديق الطبيب.

بجردة حساب بسيطة، وبالنظر لاسعار الوصفة التي صرفتها من هذه الصيدلية، هناك فرق بالاسعار يبلغ سبعة الاف دينار، مراجعي الطبيب وبالنظر الى تسلسلي في المراجعات وحتى اغلاق عيادته، يبلغ بحدود الاربعين مريضا، كل وصفة مع فارق السبعة الاف دينار مضافا اليها الارباح الحقيقية، تكون الحصيلة المالية للصيدلي زهاء التسعة ملايين شهريا، بهامش ارباح صافية سبعة ملايين شهريا بعد طرح الايجار والمصاريف الاخرى.

الحادثة الثانية في مجمع طبي في منطقة اخرى، وهذه المرة طلب مني الطبيب، بعد ان شخص الحالة، واؤكد (بعد ان شخص الحالة)، بعمل تخطيط للسمع عند طبيب اخر في نفس المجمع، وايضا سالته لماذا التخطيط وقد تم تشخيص الحالة؟ اجابني للاطمئنان اكثر.. الطبيب المختص بالتخطيط، سالني ان كنت قد راجعت طبيبا اخر قبل ذلك، اخبرته عن طبيب منطقتي وقصة الصيدلية، كان احد اصدقائه جالسا معه، ضحك هذا الصديق، ودافع طبيب التخطيط قائلا لاداعي للاتهامات.. اجرة التخطيط مثل اجرة الفحص، عدت الى الطبيب الاول، لم ينظر الى النتيجة، وكتب وصفته الباهرة على ضوء تشخيصه العياني..

في منطقتي التي اسكن فيها، احدى الصيدليات تديرها، ام...، وقد حققت نجاحا في عملها، حيث يقصدها الكثيرون، ام... معلمة وليست صيدلانية.

صيدلية... يديرها احد باعة الفلافل سابقا، ولما كان مشروع الصيدلية مربحا، تشجع ابن عمه، سائق التاكسي وافتتح صيدلية في مكان قريب منه.

كيف تفتتح صيدلية في العراق؟ يتم ذلك عن طريق تاجير شهادة احد الصيادلة المنتمين الى نقابة الصيادلة بمبلغ يتراوح بين السبعمائة وخمسون الفا وبين المليون دينار، يتم تعليقها على احد جدران الصيدلية، ولايهم من يصرف لك وصفة الدواء، بائع فلافل او سائق تاكسي..

في منطقتي اياها، وهي احدى مناطق بغداد القديمة والكبيرة، هناك صيدليتان مكتوب على اللافتة المعلقة فوقهما وبعد الاسم كلمة (الصيدلاني) ولم افهم المراد من ذلك الا بعد معرفتي بتلك المعلومات..اي ان صيدليتان فقط هما من يديرهما مختص في مجال عمله.

انتقل الى مثل اخر، وهو من احدى الوزارات العراقية، اخبرني به صديقي المدير العام في تلك الوزارة، حيث تم تقديم مناقصات لشراء حفارات ذات مواصفات عالية جدا، ورسى العقد على احد المقاولين، وقد تلكأ هذا المقاول بالتجهيز بعد ان تم صرف مبلغ من المال له ليس بهين، لدى البحث عنه وجلبه الى الوزارة، اتضح انه لاعلاقة له بالحفارات لا من بعيد ولا من قريب، انه كان صاحب كشك لبيع الفلافل.

للوهلة الاولى لايبدو ان ثمة علاقة بين الفلافل والصيدلية او الحفارات، او غيرها من الامور الاخرى اذا تعمقنا كثيرا في البحث والاستقصاء، ولكن لها علاقة حسب راي كاتب السطور بالفساد الذي يراه فسادا مجتمعيا بالدرجة الاولى وليس فسادا سياسيا، كما يصور لنا ذلك الكثير من المحللين السياسيين (مهنة من لامهنة له) وكثير من الاكاديميين الذي يصرون على ان تسبق الدال البهية اسماءهم (دكتور)، وكثير من مثقفي المقاهي الثقافية الذين ينادون بالويل والثبور لان احدا لم يوجه لهم الدعوة من وزارة الثقافة للاشتراك في مشاريعها الثقافية، وهي الوزارة التي لايعترفون بها ممثلة لهم.

اذا نزلنا الى مستويات وطبقات اخرى من المجتمع، بعد ان ضربنا عددا من الامثلة عن طبقات تدعى بالنخبة، او الانتلجينيسيا، على حد تعبير المقاهي الثقافية، لوجدنا ان الحالة نفسها، تتشابه في الكثير من الخطوط العامة، وتختلف في التفاصيل.

ماذا يعني ذلك؟

في السنوات السابقة للعام 2003، وبعد اكثر من عقد من الحصار الاقتصادي والتجويع، اضافة الى سياسات البعث على اكثر من جانب، ساهم ذلك كله في احداث الخلل الكبير في المنظومة القيمية للمجتمع العراقي، واذا كان الفساد المالي لم يظهر بهذا الشكل الصارخ الا بعد العام 2003، فان ذلك يعود بالدرجة الاساس الى قمع النظام السابق، وحصرت ظاهرة الفساد، وخاصة الإداري والمالي برأس النظام وأطرافه.

تلك السياسات السابقة حولت الفساد بنفس الوقت إلى ما يشبه الفيروس الخامل تحمله قطاعات اجتماعية واسعة، وجدت في إسقاط النظام والطريقة أو السيناريو التي هوى فيها النظام فرصة مواتية لينشط هذا الفيروس ويتحول من حالة الكمون أو الخمول إلى حالة الفعالية أو النشاط الكامل ليتحول إلى وباء شامل ينشط بطرائق أخطبوطية وبمدى يصعب التحكم والسيطرة عليه أو تحديد سقف له، وقد وفرت الظروف السياسية ما بعد السقوط وطريقة أداء الحكم بيئة صالحة لنشاط فيروس الفساد ليلتف بدوره حول السياسة ويضربها في الصميم ويعيد بعث ظاهرة الفساد السياسي المتمثلة بالاستئثار بالسلطة واستغلال النفوذ السياسي وتكريس قيم الحزب الواحد عند الكثير من الكيانات السياسية، ولعل المثل الصيني " الماوي " القائل : (رب شرارة أحرقت السهل كله) يلقي مصداقية كبيرة في تفسير الفساد في العراق. كما يرى الباحث العراقي نبيل علي صالح.

ويضيف الباحث: أن إحدى تجليات الخوف من الفساد الإداري والمالي هي تحوله إلى ثقافة سائدة أو ما يسمى ( ثقافة الفساد ) مضفيا على نفسه الشرعية في الشارع وفي المعاملات الرسمية اليومية، وبالتالي يتحول الفساد من كونه عمل منبوذ اجتماعيا وقيميا إلى عمل يلقي الاستحسان ويندمج ضمن المنظومة الايجابية للأخلاق والأعراف، ويعتبر نوعا من  الشطارة أو الدهاء الشخصي لصاحبه، وأحد معايير الشخصية الدينامية والمتكيفة القادرة على حل المعضلات بطرائق سحرية.

وعلى هذا الأساس يتحول الفاسد من شخص مجرم يجب أن يساق إلى العدالة إلى شخص قاضي حاجات أو (حلاًل مشاكل ). اليوم يفتخر الفاسد بمكتسباته وبمهاراته وماله الحرام ، ولم يعد الفاسد يخشى المواطن بل انتقل الخوف إلى المواطن وأصبح الجميع يحسب آلف حساب له،  لأنه يمتلك السلطة والمال والقرار السياسي، فهو الكادر الحزبي أو القيادي في حزب ما، وهو المدير العام، وهو الموظف الصغير والوزير أو عضو البرلمان وهو أيضا حامل المفخخات والأحزمة الناسفة.

أن القبول بالفساد كأمر واقع شكًل احد عوامل الضغط على المنظومة القيمية والتربوية لدى أفراد المجتمع العراقي وفي تبديد قناعاته الأخلاقية والوطنية، فقد انتشرت اللامبالاة والسلبية بين أفراد المجتمع، وبروز التطرف والتعصب في الآراء وشيوع الجريمة كرد فعل لانهيار القيم وعدم تكافؤ الفرص، كما شاعت قيم فقدان احترام العمل والتقبل النفسي لفكرة التفريط في معايير أداء الواجب الوظيفي وتراجع الاهتمام بالحق العام والشعور بالظلم لدى الغالبية مما يؤدي بدوره إلى الاحتقان الاجتماعي وانتشار الحقد بين شرائح المجتمع وانتشار الفقر، وقد جاء ذلك على خلفية التراكمات التي افرزها النظام السابق متبوعة ومعززة بالإفرازات السلبية التي سببتها الاستقطابات السياسية والتحالفات المشوهة والاعتبارات الفئوية والطائفية والقبلية حيث غياب مفهوم المواطنة ومصالح البلاد العليا.

يرى الباحث الاجتماعي سلمان علي (إن الفرد العراقي صار من اكثر المشجعين للرشوة والفساد، فهو في الغالب يبحث عن شخص أو واسطة قبل الشروع في معاملته، سعيًا لكسب الوقت وكسب امتيازات لا تنطبق عليه وفق القانون، لكنه يسعى إلى حيازتها عبر إغراء الموظف المكلّف بانجازها عبر الرشوة. ويرى علي أن الرشوة عادة اجتماعية قديمة تزيد وتقل بحسب الظروف السياسية والاقتصادية التي يمر بها المجتمع، كما تتأثر بالمستوى الطبقي والأكاديمي للأشخاص.

ويتابع: (الرشاوى بين النخب والساسة وأصحاب المناصب ضخمة جدًا، بآلاف الدولارات إن لم تكن بالملايين، لكن بين الناس من محدودي الدخل لا تتجاوز العشرات من الدولارات).

تصر الكثير من الجهات السياسية، ويصر الكثير من الباحثين على ان السبب في الفساد المستشري في العراق بشقيه المالي والاداري يعود الى سبب واحد وهو (السياسي)، على اعتباره يملك السلطة والقوة، ولهذا يتم شخصنة الفساد من خلال اسماء ووقائع، يطغى عليها الصخب والضجيج الاعلامي، وكأن برحيل تلك الاسماء فان الفساد سيرحل معها.

واقع الحال في العراق ليس كذلك، مع انهيار المنظومة القيمية والاخلاقية، سيبقى الفساد مستشريا وينمو باستمرار طالما هناك قبول اجتماعي للفساد والمفسدين، وثقافة اجتماعية لاتخجل من اشهار علاقتها بالفاسد، كبيرا كان ام صغيرا، في سبيل تحقيق مصلحة ما على حساب الاخرين وامنهم الاجتماعي.

غابت عن القائمين على اصحاب الشان السياسي في العراق بعد العام 2003 اعادة (إعمار الانسان) وماتهدم وانحل وانحط من قيمه وسلوكه،  الذي بدونه فان الخراب مستمر الى ماشاء ربي.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 27/تموز/2013 - 18/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م