من أهم المبادئ التي يقوم عليها الدين الإسلامي الحنيف، والتي
ساهمت أيما مساهمة في انتشاره بين مختلف الأمم والأعراق، هو مبدأ
التسامح بمفهومه الاجتماعي والديني والسياسي. والأول ينصب على العلاقة
بين أفراد المجتمع بعضهم ببعض، أما الثاني فينصب على علاقة أصحاب ديانة
بأصحاب ديانة أخرى، بينما يتمثل الثالث، وهو محور حديثنا في هذه
المقالة، في التسامح السياسي الذي ينصب على العلاقة بين الحاكم
والمحكومين، والعلاقة بين المسلمين وبين الأمم الأخرى في المجال
السياسي.
وعلى رغم ما تنطوي عليه العلاقات السياسية والعمل السياسي من قيم قد
تبدو متناقضة مع مفهوم التسامح ومقتضياته مثل الصراع والمساومة
والاصطفاف، فإن الإسلام تجاوز هذه التناقضات الظاهرية وأضفى على
العلاقة السياسية بين المجتمع والدولة وبين الأفراد وبعضهم بعضاً وبين
الدولة الإسلامية وغيرها من الدول طابعاً سلميّاً قوامه التسامح.
فقد أشار القرآن الكريم في عدد من الآيات التي دلت بسياقها ومضمونها
على مبادئ فلسفية عظيمة تمثل أسمى ما وصلت إليه الإنسانية من قيم تصب
في سلوك الإنسان القويم الذي يتسم بمبدأ التسامح، كما دلت على أن
الإنسان الذي استوعب مبادئ الإنسانية وارتشف من معينها العذب تراه
يتسامح ويغض الطرف حتى مع خصومه وألد أعدائه.
وفيما يأتي نستعرض أهم تلك الآيات التي أشارت إلى ذلك.
أولاً - في مجال العلاقة بين الحاكم والمحكوم:
أسس القرآن الكريم العلاقة بين الحاكم والمحكوم على قاعدة ذهبية من
التعاقد الشرعي بين الجانبين قوامه التزام كل منهما بتقديم واجبات هذا
التعاقد على أكمل وجه، في مقابل حصوله على حقوقه في جو من الود
والتسامح.
وقد تواتر التأكيد على هذه المبادئ في أكثر من موضع في القرآن
الكريم. وهو ما يتضح في النصوص الآتية:
- «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ
كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ
وَّأَحْسَنُ تَأْوِيلا» (النساء: 58 و59).
وتدل هاتان الآيتان الكريمتان بصورة واضحة على أن أساس العلاقة بين
الحاكم والمحكوم هو التعاقد بينهما على أن يقوم الحاكم بأداء الأمانة
التي أؤتمن عليها -وهي الحكم- على أكمل وجه، وأن يحكم بين الناس
بالعدل، في مقابل أن يقوم المحكومون بطاعته فيما يتخذه من قرارات. وقد
حث النص القرآني الجانبين على توخي عدم التنازع بينهما بقدر الإمكان في
إطار الحرص على ودية وسلمية العلاقة بينهما، وإن لم يكن هناك بدٌّ من
الخلاف فلا أقل أن تسود روح المحبة والتسامح بينهما بالعودة إلى مرجعية
واضحة ولا خلاف عليها لحسم الخلاف وهي كتاب الله وسنة رسوله.
ثانياً - في مجال العلاقة بين المسلمين وغيرهم
قال تعالى: »فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل
الله لكم عليهم سبيلاً» (النساء: 91). وهنا يوضح الكتاب العزيز أنه حين
يجنح غير المسلمين إلى الكف عن قتال المسلمين، يجب على المسلمين أن
يكفوا عن قتالهم أيضاً. ولا يخفى أن مثل هذا السلوك من شأنه التمهيد
لإقامة علاقة سلام كاملة بين المسلمين وغيرهم في إطار من الود
والتسامح.
كما أكدت على هذا المعنى الآية 91 من سورة النساء، حيث تقول «ستجدون
آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم»، أي يطلبون الأمان بألا تنشب
معكم معارك. وقد عززت هذا الخطاب الآية 61 من سورة الأنفال التي تقول:
«وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه سميع عليم». وتمهد تلك
الآيات للحكم النهائي على العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين الذي ورد
في الآية 13 من سورة المائدة «فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين»،
وكذلك الآية 166 من سورة الأعراف: «خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن
الجاهلين».
إن نهج التسامح في العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبين المسلمين
وغيرهم الذي اختطه لنا الخالق سبحانه وتعالى هو نهج جدير بأن نجعله نصب
أعيننا جميعاً وأن نهتدي بهديه. |