الامام الحسن... السياسة الاخلاقية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كثيرا ما أثارت سيرة الامام الحسن عليه السلام، اشكالية عميقة للدارسين لحياته، وخاصة ما يتعلق منها بالجانب السياسي، وتحديدا صلحه الشهير مع معاوية، وهو المعروف بصلح الامام الحسن.

مرد هذه الاشكالية هو النظر الى الصلح من واقع السياسة بما آلت اليه في عقول الباحثين، وليس ما يفترض ان تكون عليه، حركة راشدة تستشرف الضر والنفع، بعيدا عن اساليبها التي الت اليها تحت الشعار الشهير (الغاية تبرر الوسيلة) وهو شعار يكتنف في داخله وحوله جميع المبررات والاعذار البراغماتية التي تطيح بالحقوق والمباديء.

وهي اشكالية ايضا على صعيد ماورثه الامام الحسن من ابيه (عليهما السلام)، وما سيرثها الامام الحسين في تعاطيه مع يزيد في الشان السياسي العام.. الاشكالية الموروثة، حددها الامام علي عليه السلام من خلال رفضه بالاستعانة بالفاسدين او المنحرفين لكسبهم الى صفه في قتاله لمعاوية، الذي لم يكن يتردد في الاستعانة بهؤلاء في عمليات شراء للذمم تدفع من بيت مال المسلمين.

لم تقتصر هذه الاشكالية على حد الاختلاف او الخلاف في النظر الى السياسة، بين ماجرت عليه او بين مايفترض ان تجري عليه، ولم تكن مجرد اختلاف للاراء قابل للحلول الوسط، بل تعدى ذلك الى وصولها الى اقصى المديات في الغاء الاخر المخالف، الغاء ماديا، وقتله اغتيالا في واقعتين، او في ساحة المعركة في واقعة ثالثة.

الاشكالية ايضا تفرز نمطين من الحكومة التي الت اليها بشكلها (الخليفي) بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه واله وسلم، هذان النمطان يتحددان بصيغتين رئيسيتين، هما (ان تحكم)، و(ان تتحكم)، وهما صيغتان للحكم انقرضت الاولى من قاموس التداول السياسي الاسلامي بصيغته الشهيرة (الملك العضوض)، وآل الحكم الى الصيغة التي ارتضتها (مؤسسة الخلافة) بعد معاوية وابنه يزيد وهي أن تتحكم، وماجرته من مصائب ودواهي لازال العالم الاسلامي يدفع اثمانها، حتى بعد سقوط مؤسسة الخلافة، عبر النزوع الدائم الى الصيغة الثانية.

في الكتابات التاريخية، وفي الكتابات الحديثة، لا ينظر الى المآلات التي قادت اليها الاحداث التي هي موضع البحث والدراسة، بل تميل اكثر تلك الكتابات الى التوصيف، توصيف الاشياء والاحداث من زاوية نظر ضيقة.. انها تنشغل بالمكاسب اللحظية التي حصلت نتيجة لواقعة معينة، ومدى اقترابها من معطيات المناهج البحثية التي يميلون اليها.. والادلة على ذلك كثيرة لا يمكن احصاؤها في هذه السطور.

الاوربيون في كتاباتهم وتحليلاتهم للاحداث التاريخية قد انتهجوا نهجا مغايرا للعرب والمسلمين في الكثير من كتاباتهم، وخاصة الاحداث الكبرى منها.. فهم على سبيل المثال، لم يقتصروا في كتاباتهم عن الحربين العالميتين، الاولى والثانية، على ذكر الانتصارات والهزائم، وعدد القتلى وغير ذلك، بل امتد اهتمامهم الى ما افرزته الحربان من ظواهر في السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة بعد خمسين عاما او اكثر، عبر مناهج تحليلية تنظر الى الصورة من جميع جوانبها.

ما الذي قاد الى الصلح الشهير بين الامام الحسن عليه السلام وبين معاوية؟.. ينقل ابن عساكر في (تاريخ دمشق) ترجمة الامام الحسن عليه السلام، قال: (قام الحسن بعد موت ابيه امير المؤمنين عليهما السلام فقال بعد حمد الله جلّ وعزّ: إنا والله ماثنانا عن اهل الشام شك ولا ندم، وانما كنا نقاتل اهل الشام بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في منتدبكم الى صفين ودينكم امام دنياكم، فاصبحتم اليوم ودنياكم امام دينكم، الا وإنا لكم كما كنا، ولستم لنا كما كنتم.

الا وقد اصبحتم بعد قتيلين: قتيل بصفين تبكون عليه، وقتيل بالنهروان تطلبون ثأره، فاما الباقي فخاذل، واما الباكي فثائر، الا وان معاوية دعانا الى امر فيه عز ولا نصفة، فان اردتم الموت رددناه عليه وحاكمناه الى الله جلّ وعزّ بظبا السيوف، وان اردتم الحياة قبلناه واخذنا لكم الرضا، فناداه القوم من كل جانب: البقية البقية. فلما افردوه امضى الصلح).

وكانت شروط الصلح على ما يذكره المؤرخون في هذا الشأن: يلزم على معاوية ان يعمل بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه واله وسلم).

- ان يكون الامر للامام الحسن عليه السلام من بعده، وليس لمعاوية ان يعهد به الى احد.

- عدم تسمية الحسن عليه السلام معاوية بأمير المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة.

- ان يترك سب امير المؤمنين عليه السلام، والقنوت عليه بالصلاة، وان لا يذكر عليا عليه السلام الا بخير.

- ان لا يأخذ احدا من اهل العراق بإحنة، وان يؤمن الاسود والاحمر ويحتمل مايكون من هفواتهم، ولا يتعرض لاحد منهم بسوء، ويوصل الى كل ذي حق حقه.

- الناس امنون حيث كانوا من ارض الله في شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم.

وكان محلّ الصُلح في مكان يسمى (مسكن ساباط)؛ قريباً من موقع مدينة بغداد اليوم، حيث كان معسكر الإمام الحسن (عليه السلام).

فلمّا أن تمّ ذلك رجع الإمام(عليه السلام) بمن معه إلى الكوفة، وسار معاوية إلى النخيل، موضع قرب الكوفة وكان يوم جمعة، فصلّى الضحى عند ذلك وخطبهم فقال في خطبته: (إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلوا ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، ألا وإنّي كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدميّ لا أفي بشيءٍ منها له).

يذكر العقاد في كتابه (معاوية) شارحاً سياسته: كانت له حيلته التي كررها وأتقنها وبرع فيها واستخدمها مع خصومه في الدولة من المسلمين وغير المسلمين، وكان قوام تلك الحيلة، العمل الدائب على التفرقة والتخذيل بين خصومه، بإلقاء الشبهات بينهم، وإثارة الإحن فيهم، ومنهم من كانوا من أهل بيته وذوي قرباه، كان لا يطيق أن يرى رجلين ذوي خطر على وفاق.. فلو أنه استطاع أن يجعل من كل رجل في دولته حزبا منابذاً لغيره من رجال الدولة كافة لفعل! ولو حاسبه التاريخ حسابه الصحيح لما وصفه بغير مفرق الجماعات.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 24/تموز/2013 - 15/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م