(الروتين) كلمة فرنسية الأصل تعني الرتابة والمنهجية والنمطية
والعمل بوتيرة واحدة، ولاشك أن كل فرد منَّا يعاني من (الروتين) سواء
العام- وهو الذي فرضه عليه المجتمع الذي يقطنه أو الدائرة التي هو
رهينها- أو الخاص – وهو الذي فرضه عليه تخصصه أو عمله أو مهامه الخاصة
المناطة إليه - والكل منّا يسعى لمحاربة هذا (الروتين) وتبديد الآثار
النفسية والإجتماعية المترتّبة عليه بإختلاق جو مناهض له، وعمل نشاطاتٍ
مغايرةٍ له.
نجد أنفسنا نعيش حياةً رتيبةً طيلة أشهر السنة، مليئة بالتكرارية،
ومتخمة بالملل، فننام في نفس الوقت، ونستيقظ في نفس الوقت، وقد نأكل
نفس الأكل تقريباً وإن اختلف شكلياً، ونقابل نفس الوجوه، ونسمع نفس
الكلام، وإن اختلفت الجمل في صياغتها، فإنها تحافظ على ذات المضمون،
ونقوم بنفس المهام في أعمالنا، ونرتاد نفس الأماكن، ونتعامل مع ذات
الأشياء.
نحاول اقناع أنفسنا أننا كسرنا (الروتين) وانتصرنا لـ (التغيير)
عندما نقتني ساعةً جديدةً أو حذاءً جديداً، أو عندما نشتري عطراً
مختلفاً، أو عندما نزور مطعماً جديداً، أو عندما نغير طقم الكنب، أو
عندما نزور دولةً سياحيةً ممتعةً، لكن سرعان ما نكتشف أنه شعور وقتي
وسرعان ما تلاشى وعدنا لنفس النقطة التي انطلقنا منها.
لكن عندما يُقبل علينا شهر رمضان، فإنه يضفي على حياتنا رونقاً
مميزاً، وتجديداً رائعاً، لأن التغيير الذي يضفيه هذه الشهر بطقوسه
يبدأ بالروح ثم البدن، وهذه هي ضالتنا. بالتالي، ينعكس هذا التغيير على
الكثير من الأشياء من حولنا. نشعر بكمٍّ كبيرٍ من الروحانية تجتاح
صدورنا، ونتلمّس ارتفاع معدل الطاعات والعبادات من حولنا، ونتسابق لختم
أجزاء القرآن، ويكون لكل ذلك تغذية راجعة علينا أيضاً، لأن كل فردٍ
منَّا يمثّل حلقةً من سلسلةٍ متصلةٍ.
الكثير من العادات اليومية نجدها تتغيّر بشكلٍ تلقائي بدخول شهر
الصيام، فمواعيد النوم تتغيّر، وعدد ساعاته تقلّ، ومواعيد الوجبات
تتغيّر أيضاً ونوعها يختلف وعددها يقلّ، ومواعيد الأعمال والمدارس
تتغيّر وساعاتها تقلّ أيضاً. نستشعر التغيير في السلوكيات الإجتماعية
من حولنا، فيتم ابتكار طقوس مقترنة بشهر الخير، كالدورات والمحاضرات
والختمات والمسابقات الرمضانية، ونرقب أكشاك بيع البطاطس المقلية
والكبدة تُزيّن الشوارع، ونشهد الأطفال في ليلة الناصفة منبثين في
الشوارع والأزقّة كحبات اللؤلؤ المنثور التي تزيّن معالم هذا الشهر.
من فضائل الله سبحانه وتعالى على عباده أنه ساوى بينهم في أدق
التفاصيل ووحّد بينهم في كل الواجبات، مهما دفع خُيَلاء البعض منهم
بصاحبه لأن يرى نفسه مختلفاً أو فوق العادة. فالحج واحد والصوم واحد
والصلاة واحدة، فلا تفرقة بين غني أو فقير ولا فضل لأبيض على أسود.
فنجد الناس بإختلافاتهم يجتمعون على موائد الإفطار في رمضان، سواء في
المساجد أو المخيمات الرمضانية، حيث يبدأ الغني الذي تغصّ موائده
بالخيرات افطار بتمرة، وكذلك الفقير الذي لا يجد قوت يومه، ويأكلون
أكلاً واحداً ويرتوون من شربٍ واحدٍ، ويحمدون الله الذي إليه صاموا،
وعلى رزقه أفطروا.
حريَّاً بنا في شهر الصيام أن نتذكر الجوعى الذين يرزح الفقر تحت
وطأتهم، ونتذكر الذين يعملون تحت أشعة الشمس الحارقة، فرمضان فيه إحساس
بالجوع والعطش، وفيه تذكير بأولئك المستضعفين. شهر رمضان يحمل في طياته
رسائل إنسانية وبواعث نبيلة تدعو للألفة والتفكّر والتدبّر، فعلينا
الخروج من أي بوتقةٍ ضيَّقةٍ تعيق عنّا نعمة التفكّر، وتحجب عنّا متعة
التأمّل.
رمضان خط فاصل بين كل سنة وسنة، نقف عليه جميعاً، ونعيد الكثير من
الحسابات، ونقوم بالكثير من التغييرات في حياتنا وحياة مَن هم حولنا.
رمضان نقطة إنطلاق مضيئة، ننبثق منها جميعاً لعيد فطرٍ سعيدٍ، نلبس فيه
أزهى الثياب، ونتزيّن فيه بأروع الأمنيات. أمنيات نحلق بها بعيداً جداً
دون الخوف من السقوط، لأننا نطير بأجنحةٍ مصنوعةٍ من الأمل. رمضان
بداية الإنطلاق لماراثون حياةٍ جديدةٍ، نقيمُ من خلاله الأَوِد،
ونَرأَبُ الصَّدع.
على الرغم من أن رمضان شهر صيام، إلا أنه شهر خير وإحسان أيضاً،
فالكل يتنافس لإفطار الصائمين، والكل يتسابق لإيصال المُؤَن لمستحقيها،
فمن مظاهر التغيير الإيجابي في السلوك الرمضاني، والتي عشتها طيلة فترة
اقامتي في الرياض لتسع سنوات هي انتشار الشباب والأطفال عند الإشارات
الضوئية قبيل أذان المغرب، وتوزيعهم أكياس صغيرة تحمل وجبات بسيطة
تتكوّن من الماء واللبن وبضع حباتٍ من التمر تحت شعار (افطار صائم). يا
له من سلوكٍ عظيم، يجلب ثواباً عظيماً.
(حجاب رمضان) ظاهرة منتشرة في العالم العربي، وهي أن ترتدي المرأة
الحجاب في شهر رمضان، وتتجرَّد منه بمجرد انقضاء الشهر، وطغت هذه
الظاهرة على السطح وبشكلٍ ملحوظٍ في الوقت الحالي بسبب قنوات التواصل
الإجتماعي، والتي تعمل عمل المجهر في ايضاح الظواهر، ورصد السلوكيات.
في الحقيقة، لا أعلم في أي قالب أضع هذه الظاهرة، لكنها لفتت نظري
وأردت التطرّق لها دون أن أذيلها بتعليق. ربما احتراماً لرمضان، أو
احتراماً للحجاب، أو لكليهما مجتمعين.
ختاماً.. كل عامٍ وأنتم بألف خير، وتقبَّل الله أعمالكم.
[email protected] |