شبكة النبأ: الإنسان كائن ذو قدرات
وامكانيات عديدة، منها الذهنية وايضاً العضلية.. وبما انه دائم البحث
عن الأفضل والأسرع والأكثر، فهو يسخّر هذه القدرات والامكانيات لتحقيق
مراده، وفي هذا المسير تعترضه عقبات وشدائد يسعى لاجتيازها. وهذا
الاندفاع المشحون بالغرور والاعتداد بالنفس، هو الذي يجعله يتجاهل
الخطأ، سواءً كانت بحق نفسه، أو الآخرين. مثال ذلك القائد العسكري في
ساحة المواجهة، فان ثقته المفرطة بنفسه و شعوره أنه المنتصر لا محالة،
لن يترك له المجال لرؤية الجرحى والقتلى في صفوفه بسبب أوامر خاطئة
أصدرها، أو ملاحظة المخاطر التي يزجّ فيها قواته. هكذا قائد وإنسان،
يطلق عليه على الأغلب "المغامر الفاشل".
هذه الحقيقة يشير اليها القرآن الكريم في عبارة بليغة ورائعة في
الآية الكريمة (206) من (سورة البقرة): "واذا قيل له اتق الله اخذته
العزّة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد". فاذا راجعنا النصوص الدينية
بشكل عام، نجد الحرص الشديد على تجنب الخطأ والزلل في الحياة، وإن حصل
ارتكاب الخطأ – أي خطأ كان- بالامكان معالجته والتحوّل الى الطريق
الصحيح. وهذا يؤكد حقيقة أخرى، أن "الانسان خطّاء"، وليس من معصوم في
الحياة، سوى الامام الثاني عشر عجل الله فرجه، الحاضر بيننا، وإلا فان
ارتكاب الخطأ او الانحراف والزلل من شيم الانسان، مهما كان وبلغ. لذا
فان الحديث عن مسألة الخطأ في حياة الانسان، ليس في موضوعه ومنشأه
ودوافعه، إنما في الطريقة الفضلى للتصحيح والإصلاح، بدل الإصرار
والاستنكاف والعناد.
والخطأ؛ نراه في درجات ومستويات، كما نراه في مجالات عديدة في حياة
الانسان، فهنالك الاخطاء البسيطة، ولنسمّها الهفوات التي قد تصدر بحق
أفراد العائلة أو الجار، أو الصديق في محيط العمل وهكذا.. وهذا ما يمكن
تلافيه والتغاضي عنه بفضل خصال التسامح والعفو وسعة الصدر وغيرها من
الفضائل. كما يمكن ان تكون هنالك أخطاء بسيطة في محيط أوسع يعني بجماعة
واسعة من المجتمع والأمة، كأن يكون المخطئ وزيراً او محافظاً او رئيساً
للدولة او نائب في البرلمان، فهو ايضاً معرضاً كأي انسان آخر للخطأ
والسقطات هنا وهناك.. فلا يجب ان تكون المحاسبة على الصغيرة والكبيرة،
وإلا لما ترشح انسان لمنصب حكومي او تصدّى لمسؤولية ادارة البلاد.
لكن عندما ترتفع درجة الخطأ وتكون ذات تأثيرات وانعكاسات على الواقع
الاجتماعي والاقتصادي والامني والسياسي، بل الحياة بشكل عام، هنا يتحول
الخطأ الى لغم خطير لا يجوز التهاون بأمره وإهماله. وهذا ما نراه في
الحكومات والانظمة السياسية في بلادنا، فالاخطاء بالجملة، في مجالات
الخدمات والصناعة والزراعة والأمن والسياسة الخارجية وغيرها من مرافق
الدولة. وبما ان السياسي قد حصل على منصبه بشقّ الأنفس، وهو يحمل كماً
هائلاً من الطموحات والمصالح الشخصية والفئوية، لن يكون عليه سهلاً
التراجع عن قرار اتخذه او عمل قام به، لأنه قام بالأول بعمل خطأ أولد
خطأ آخر.. فهو رهن ثقة الناس وتأييدهم له وثقتهم به، بشخصيته الظاهرية،
وما يمتلك من لباقة اللسان وقوة الشخصية، يضاف اليها شيئاً من
الاختصاصات الاكاديمية، كأن يحمل اسم "دكتور" أو "استاذ"، وفي العراق،
بدأت تقليعة جديدة في الظهور حول شخصنة المسؤول الحكومي، بإطلاق تسمية
"الحجي" على المسؤول المتنفذ، فيما اذا اراد المراجع أن يضمن القدر
الأكبر من فرص تمشية المعاملة وقضاء الحاجة. فاذا اراد – والحال هكذا-
ان يعلن للناس ولمؤيديه أنه أخطأ في توزيع الامتيازات او أخطأ في قرار
إحالة عدد من الكفوئين الى التقاعد، او منع الكفوئين من تسنّم مسؤوليات
كبيرة – مثلاً- فان تلك الصورة ستفقد الهالة التي وضعها هو حولها،
وستكون معرضة للاهتزاز دائماً ، ولن يجد اتباعه فيه ذلك الشخص القوي
المعتد بنفسه. وربما يشعر أنه اصبح ضعيفاً امامهم، والنتيجة تكون
خسارته سياسياً ومعنوياً وربما حتى مادياً ايضاً.
هذا الشعور بحد ذاته، سيكون وبالاً على صاحبه، حتى ولو بعد حين،
فالبعض ممن يتسنّمون مناصب في الدولة، ويرتكبون الاخطاء والسقطات،
يعتبرون انهم يقومون بعمل عظيم، متشبثين بمفردات من قبيل "التحديات" و
"المؤامرات" وغيرها مما لا تصمد ابداً في الوقت الحاضر امام الحقائق،
حيث الامكانيات المتوفرة وفرص النجاح والتطور المهدورة، بل يحاول البعض
عدّ اصراره على الخطأ، بأنه نوع من تحدي الضغوط، وأنه يعمل الصواب، وما
فيه "مصلحة الوطن والمواطن"..! بينما أثبتت التجارب أن الاعتراف بالخطأ
في عالم السياسة اليوم، هو قارب النجاة من الازمة للمسؤول وللبلد في
وقت واحد، وهو السبيل ايضاً لخلق فرص نجاح اخرى، لأن الانسان بذلك قد
اكتشف مواطن الخلل والخطأ، فيتجاوزها بسهولة. والى هذه الحقيقة يشير
الكاتب الامريكي "ديل كارنيغي" في كتابه "دع القلق وابدأ الحياة"، بأن
"أي شخص يمكنه الدفاع عن اخطائه، ولكن مما يضيف لقيمة الشخص ويعطيه
شعوراً بالنبل والبهجة أن يعترف بأخطائه".
لنلاحظ الدول التي يرتكب فيها المسؤولون الأخطاء والسقطات، كيف أنهم
يعترفون بأخطائهم على مسمع ومرأى من شعوبهم، وعلى وسائل الاعلام، ليس
هذا وحسب، وإنما يدفعون ضريبة خطأهم بالاستقالة من منصبهم، على أن
الخطأ الذي يرتكبه مسؤول كبير في الدولة، لن يحتمله المنصب الذي
يتسنّمه، حتى وإن كان الخطأ "كذبة" أطلقها، وهي في بلداننا ربما أسهل
من شرب الماء وتنفّس الهواء..! فما بالنا بالأخطاء الفادحة مثل التورط
في عمليات فساد اداري أو اتخاذ قرارات خطيرة ذات تأثيرات سلبية على
المجتمع والدولة، مثل إعلان الحرب أو التصرف بالأموال العامة لشؤون
خاصة وغيرها، ولذا نلاحظ التماسك والديمومة والاستقرار في الأنظمة
السياسية في هذه الدول، ولا فرق في أن تكون هذه الدول في الغرب، او في
الشرق، فالعبرة بالنتائج، ولكم الخبر الذي انتشر مؤخراً عن حكم الاعدام
بحق مسؤول صيني ارتكب جريمة فساد اداري..! أما الدول التي تستهل الخطأ
وحتى الجريمة التي ترتكب ضد الناس، فانها امام حالتين لا ثالث لهما:
إما السقوط والخزي لذلك المسؤول المفسد والمخطئ، وإما السقوط والانهيار
لنظام الحكم الذي يحتضن ويحمي هكذا مسؤول. و"التجارب خير برهان". |