حول القرآن الكريم: يقظة الغرب وتخلف المسلمين

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

 

حتى نهاية القرن الثامن عشر من الميلاد، بقيت الأمة الاسلامية القمة والقدوة للأمم جمعاء. وكانت مؤهلاتها كثيرة تحفظها في هذا المركز، أهمها مبادئها المتمثلة في القرآن، وتاريخها الضخم من خلال فتوحاتها.

ورغم القرون العديدة التي مضت على ترهل الأمة الاسلامية، إلا أن أحداً من القادة ـ في العالم ـ ما كان يسمح لنفسه بالتفكير في تحدي الأمة الإسلامية، إذ لم يكن في استطاعة أحد أن يقنع نفسه بتخلي أمة القرآن عن القرآن، أو بعجزها عن الاحتفاظ بأمجادها العظيمة.

أقصى ما كان المفكرون يحاولونه، تقليد المسلمين في مسلكيتهم. وهذا التقليد قادهم إلى دراسة حياة قادة الاسلام، ابتداءً بالرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم وانتهاء بآخر المعروف من الحكام الأمويين والعباسيين والعثمانيين. فكانت الظاهرة التي تبرز في الساحة هي (الواقعية) التي تطبع حياة الرسول الأكرم بشكل ملفت.

وقد استخدم العرب هذه (الواقعية) في الثورة على خرافات الكنيسة، ابتداءً من (فكرة التثليث) التي تعطل (العقل) وانتهاء بالأخلاقيات الكنسية التي تعطل (العلم). فأعاد الاعتبار إلى (العقل) و(العلم).

وقد استخدم المسلمون هذه (الواقعية) في استيراد الفلسفات الأجنبية، واحترامها كمدارس علمية تنشط (العقل) و(العلم). ولم يحسنوا هضمها والاستفادة من تجربتها، فابتعدوا بها عن (الدين).

وهكذا.. التقى الغربيون والمسلمون على نقطة واحدة هي (الواقعية)، غير أنهم اختلفوا في توظيفها: فوظفها الغربيون في الثورة على الكنيسة، التي كانت عقدة تخلفهم. ووظفها المسلمون في الثورة على الإسلام، الذي كان سر تقدمهم. فكانت (حرية العقيدة) ـ التي هي من الأفكار الإسلامية ـ علة ارتفاع الغربيين إلى القمة، وانحدار المسلمين منها.

وهكذا.. عرف الغربيون شيئاً من الإسلام فتقدموا به، وعرف المسلمون شيئاً من الإسلام فتأخروا به.

لقد عرف الغربيون الإسلام متأخراً، ولكنهم عرفوه أخيراً. وعرف المسلمون الإسلام مبكراً، ولكنهم ألحدوا به أخيراً. فكان من الطبيعي أن تنقل المعادلة.

وإن كان من المؤسف أن الغرب عجز عن الأخذ بالإسلام ككل، تحت ضغط الكنيسة التي تلقت ضربات الحرية بمرونة كبيرة، فلم تلبث أن لملمت أنقاضها بسرعة، واستعادت هيبتها وسيطرتها، بإعادة تحالفها مع القوة السياسية الحاكمة، إن لم تكن بشكلها السابق كقوة قائدة، فبشكلها المعاصر كقوة معاصرة في مجرى الأحداث.

ولو استطاع الغرب أن يتخلص من سلطة الكنيسة تماماً، ويأخذ بالإسلام ككل ـ كما كان يحلم به بعض المفكرين ـ لأنقذ العالم من ويلاته المعاصرة، وقاده إلى السعادة المثالية كما قاده المسلمون من قبل، ولأخذ دور المسلمين بجدارة. ولكن صعقة قادة الكنيسة تحت ضربات الحرية، ومخاوفهم التاريخية من الإسلام؛ أدتا إلى وقوفهم ـ بحزم ـ ضد تيار الفكر الإسلامي. فأسفرت الثورة ضد الكنيسة، عن مقايضة من ثلاثة بنود هي:

1ـ تخلي الكنيسة عن احتكار العلم ومحاربة العلماء.

2ـ خروج الكنيسة عن الساحة السياسية كقوة قائدة.

3ـ بقاء المسيحية ديانة رسمية، وبقاء الكنيسة ممثلها الشرعي الوحيد.

واليوم، وقد انجلى دخان المعركة، واطمأن كل فريق إلى موقعه، نستطيع أن نوجه نداءنا إلى الغرب:

(إن الإسلام ليس ديننا ـ نحن المسلمين ـ فقط، وإنما هو دين الله على الأرض، فليس أحد أولى به من أحد إلا بمدى التمسك به ونحن المسلمين تحلينا عنه واقعياً ـ وإن بقينا متمسكين به رسمياً ـ فتبنوه أنتم اليوم، لا لمجرد كونه ديناً سماوياً صحيحاً، وإنما لكونه قادراً على إنقاذ العالم من مآسيه أيضاً).

وهذا.. نداء أطلق للتاريخ وللحق، وإلا فإن المسلمين يخسرون الكثير إذا أخذ الغرب بالإسلام ونجح في إنقاذ العالم، بعد أن تركه المسلمون رغم تجربتهم التاريخية العظيمة.

العقل والعلم لا يكفيان:

إن الغرب ـ اليوم ـ ليس مستعمراً لدول عظمى تحجب عنه حرية الديانة، ولكنه مكبل ـ من داخله ـ بالكنيسة التي تمنعه من الإسلام. والديانة المسيحية، الموجودة اليوم، ليست قادرة على هدايته إلى السعادة.

والمسلمون ـ اليوم ـ مستعمرون ثقافياً واقتصادياً، فليسوا قادرين على العودة إلى الإسلام، الذي هو قادر على هدايتهم وهداية العالم ـ من ورائهم ـ إلى السعادة. ولذلك: بقي العالم ـ بشقيه الغربي والإسلامي ـ متمسكاً بما هو متاح له، وكل ما هو متاح يتمثل في أمرين لا ثالث لهما، وهما: (العقل) و(العلم).

وقد حرك المفكرون عقولهم ما وسعهم تحريكه، وأرخص العلماء التضحيات ـ ما وسعهم التضحية ـ في سبيل المزيد من العلم، ولا زالوا يواصلون التضحيات، ولكنهم لم يستطيعوا تأمين حاجات البشرية حتى اليوم، ولا توجد في الأفق بوادر تؤمل بإمكان ذلك في وقت قريب ـ على الأقل ـ.

كل ما يستطيع (العقل) و(العلم) أن يقدماه للبشرية، يتلخص في تأمين (الخدمات) لها بشكل أفضل، من: تحسين وسائل المواصلات، ومكننة الزراعة، وتصنيع البلاد، وتسخير المزيد من طاقات الأرض والجو لخدمة الإنسان... وبعبارة واحدة: (ترفيه حياته المادية). وهذا.. ما يشك في كونه خدمة حقيقية للإنسان، لأن الرفاه المادي أدى إلى ضعف بنيته الجسدية.

وإذا استفتينا مليون مفكر:

(هل الإنسان القوي غير المرفه أفضل أو المرفه الضعيف)؟

لم يصوت الجميع إلى جانب الثاني، وربما تحيزت الأكثرية إلى جانب الأول. وإن كان من الصعب على المرفهين أن يتركوا الرفاه، لأنهم ـ بعد أن ضعفوا بالرفاه ـ يعجزون عن ممارسة الحياة بدونه.

وكل ما قدمه (العقل) و(العلم) لتأمين السعادة للإنسان، هو نبش الأجداث القديمة عن (الديمقراطية). وإذا استفتينا ألف مفكر: (هل الديمقراطية ـ كنظام حاكم للدنيا ـ أفضل أو الديكتاتورية الملتزمة)؟ فإن نسبة عالية منهم تصوت إلى جانب الديكتاتورية الملتزمة وتستشهد بأن الديكتاتورية كانت أفضل للصين، ولروسيا، ولكثير من البلاد؛ يمارس حكامها الديكتاتورية باسم الثورية أو في ظل ديمقراطية شكلية. مع العلم بأننا لو استفتيناهم بالصيغة التالية:

ـ (هل الديمقراطية أفضل أو الديكتاتورية الملتزمة)؟

فسيختارون الديمقراطية، خوفاً من الديكتاتورية أن لا تبقى ملتزمة.

إذن: فتجارب القرنين الأخيرين، تدل ـ بوضوح ـ على أن (العقل) و(العلم) لا يستطيعان تأمين حاجات الإنسان، فلا بد أن يدخل الساحة عنصر آخر يكمل هذين العنصرين.

يقول آينشتاين: «إن العلم يدلنا على ما هو موجود، ولكن الدين ـ وحده ـ هو الذي يدلنا على ما ينبغي أن يكون»(1).

ويقول بوسويه: «إن الناس يزعمون أن السعادة هي الوصول إلى الآمال، فيما السعادة ليست الوصول إلى الآمال. إن الركن الأهم للسعادة هو أن يعلم الإنسان ـ أولاً ـ ماذا ينبغي أن يريد وأن يتمنى؟ فإذا عرف ماذا ينبغي أن يريد وأن يتمنى، فإن الوصول إليه سعادة. وأما إذا لم يستطع أن يحدد مصلحته، وأن يسيطر على نفسه، فإن كثيراً مما يتمناه خاسر وخطير.»(2)

إن تجارب القرنين الأخيرين، تثبت أن المفاسد والجرائم والأمراض النفسية والجسدية، وسائر مظاهر الشقاء؛ ترتفع في خط متواز مع ارتفاع خط مظاهر التقدم العلمي. وهذا... ما أدى إلى يأس المفكرين من (العقل) و(العلم) أن يؤمنا شيئاً من سعادة الإنسان، فأخذوا يزجون إلى الرأي العام مئات الكتب والمقالات معلنين حاجة الإنسان إلى السماء. وإن كانوا لا يجدون نبرات السماء في المذاهب والأديان المطروحة عليهم، ولا يجرؤون على التحدث باسم الإسلام، فإنهم يحاولون الإيحاء به. ولكنا قد نجد الجرأة لدى بعضهم على الحديث باسم الاسلام، مثل برنارد شو حيث يقول:

«في رأيي: إن رجلاً: مثل محمد لو ملك زمام الدنيا الجديدة، لعالج مشاكلها بشكل يؤمن السعادة المنشودة».

ويضيف: «في رأيي: إن الإسلام هو المذهب الوحيد، الذي يملك القدرة على السيطرة على المتغيرات الحياتية، ومواجهة القرون المختلفة».

ولكن مثل هذا الرأي يضيع بين ضجيج الآلة وصخب المصالح الكبرى، التي لا تتردد لحظة في تعريض العالم كله للدمار، إذا هددها بشكل من الأشكال.

الملجأ الوحيد:

ومهما يكن موقف العالم السياسي، ومصالحها الكبرى، لا ملجأ للعالم ـ من الدوامة الرهيبة التي يدور فيها منذ قرنين ـ غير الالتجاء إلى الدين الصحيح، المنزه من ضباب التقاليد والعادات، والأفكار التجارية التي يروجها سماسرة الأديان وسدنة المعابد.

ومن حسن الحظ، أننا نجد مثل هذا الدين في القرآن الذي حفظه الله من الدس والتحريف، فبقي ـ على أصالته وصفائه ـ قادراً على كشف الزيف، وإنارة الطريق، كما قال هو عن نفسه:

{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم...}(3).

وكما قال عنه الرسول الأعظم:

«.. فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن... وهو الدليل يدل على خير سبيل»(4).

إنه.. الملجأ الوحيد. وإذا تغافله الغربيون ـ اليوم ـ مهما كانت المبررات، وإذا اكتفى المسلمون ـ اليوم ـ بتلاوته وبلاغته، أو تفسيره وتأويله في أفضل الحالات؛ فإنه لن يكسد ولن يبور، وستتجه إليه الدنيا ـ غداً ـ تحت ضغط مشاكلها المتصاعدة، لأنه الملجأ الوحيد.

***

القرآن ليس معجزة واحدة فحسب، وإنما هو (موسوعة معجزات): فاجتماعياته معجزة لعلماء الاجتماع، وسياسياته معجزة للسياسيين، وأخلاقياته معجزة للأخلاقيين، وعسكرياته معجزة للعسكريين، واقتصادياته معجزة للاقتصاديين، وتربوياته معجزة للتربويين، وأداؤه معجزة للأدباء.. ولكل اختصاصي معجزة في اختصاصه، فهو يفهم جانب اختصاصه أكثر من بقية جوانبه.

بل: إن القرآن معجزة لكل إنسان، في الجانب المنسجم مع أوليات ذلك الإنسان. فهو معاجز بعدد الخلائق. أوليست (الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق)؟! فهو معجزة للناس أجمعين.

وفوق ذلك: إنه معجزة الفلسفة، فهو كتاب أعطى الفلسفة الكاملة الصحيحة للبشر. فهو (كتاب الكون)، بل هو (عدل الكون). فالكون كله كلمة من كلمات الله، فأمر الله ـ إذا أراد شيئاً ـ أن يقول له: (كن) فيكون، والقرآن كلمة أخرى من كلمات الله. فهي... وتلك.. كلمتان مترادفتان: (الكون قرآن) ولكن بشكل، و(القرآن كون) ولكن بشكل آخر. ولا نعلم: أيهما أثقل في الميزان؟ لأننا لا نستوعب: لا هذه.. ولا تلك.. فنحن جزء من تلك = الكون، ونحن تحت ضوء هذه = القرآن.

فالقرآن ليس مجرد كتاب أخلاق، أو مجرد كتاب اجتماع، أو مجرد كتاب اقتصاد، أو مجرد كتاب عسكرية، أو مجرد كتاب فلسفة.. وإنما هو هذه.. جمعاً، وفوق هذه جمعاً. وإنما هو كتاب فيه من كل أصناف علوم البشر شيء يعلو ويزيد، أوليس الكتاب الذي جمع فأوعى؟! فهو كتاب دين.

وليس القرآن مجرد معجزة خاتم النبيين، وإنما هو ـ في الوقت ذاته ـ معجزة لخاتم النبيين. فهو يدل على أن من هبط على قلبه خير من اتصل بالسماء، لأنه أكرم بحمل أكبر الهدايا إلى الأرض. أوليس هو (الثقل الأكبر)،، الذي من أجله ضحى كل (المعصومين) عليهم السلام؟!

***

القرآن ليس كتاباً يؤخذ، ويستوعب، لأنه تناول مواضيع من خارج ثقافة البشر، وخارج محيط فكر البشر، من المعنويات والروحانيات وفلسفة الماديات، {من أنباء الغيب}(5) ـ كما أسماها ـ؛ وأخضعها للغة البشر الجامدة القاصرة. فأصبح أشبه بالتعبير الرمزي، الذي يحاول أن يعطي كل الحقيقة، ولكن بلغة لا تستوعبها ولمن لا يستطيع استيعابها. فعندما يتحدث عن: الله، والملائكة، والروح، والشيطان، والجان، والجنة، والنار، والقيامة... وحتى عندما يتحدث عن: فكرة الكون، وخلق السماوات والأرض... وحتى عن: {مرج البحرين}(6)، و{مد هامتان}(7) المردف بـ{ فبأي آلاء ربكما تكذبان}(8)...

يبدو ـ جلياً ـ أنه يشير إلى ما لا نستطيع استيعابه بثقافتنا المعاصرة، فيتحدث كل عن مسبقاته الشخصية وهو يفسر القرآن، ويبقى القرآن فوق كل ما نقول باسم تفسير القرآن. إنك لو أردت أن تفسر: معاني الجنس، أو لذة العلم، أو الرئاسة... للطفل، تجد نفسك مضطراً إلى استخدام تعبيرات وأمثلة طفولية، لا تستوعب الواقع الذي تحاول تصويره، ويأخذ الطفل عنه انطباعاً مختلفاً تماماً، رغم عدم قصور اللغة عن هذه المفاهيم.

ومشكلة القرآن: أنه محاولة لإعطاء صور غير مادية بلغة مادية، ولأشخاص ماديين. وقوة مصدر القرآن، تعوض كثيراً عن عجز اللغة، ولكن ليس لها أن تعوض عن عجز الوعي البشري.

انظر إليه وهو يتحدث عن الجنة، إنه يصورها مرتعاً مادياً خصباً. ولكن هل الجنة مرتع مادي أو نوع من التنعم الروحاني؟ ففي عز الاسترسال مع التصوير المادي للجنة، تأتي الصدمة القوية:

{... ورضوان من الله أكبر}(9). إذن: ليست الجنة مجرد مرتع مادي.

ويأتي الحديث عن الخمر المفضلة، بالشكل المترف:

{.. وأنهار من خمر لذة للشاربين..}(10)، ولا تتملى من نشوة خمرة الجنة حتى توقفك المفاجأة:

{لا فيها غول...}(11). إذن: ليست خمرة الجنة بمفهومها الدنيوي.

وتستمع إلى الحديث الرقيق عن الحور العين:

{كأمثال اللؤلؤ المكنون}(12) و{كواعب أتراباً}(13)...

فلا تتأهب لاستقبالهن بفكرك.

أولم يقل الإمام الصادق عليه السّلام لمحدثه: «... أتزعم أن محمداً كان يكلم الناس بحاق عقله؟! لا والله، ولا يوماً واحداً»(14)؟! فكل الصور الموجودة في القرآن والحديث صور رمزية، قد نفهم منها أشياء ـ تساعدنا على الاتجاه المستقيم ـ ولكنها تبقى فوق مستوى ثقافتها.

ضع أية صورة قرآنية أمامك، تجدها بعد دراسة ساعات، ومداولة أيام، وتأمل أشهر أو سنوات... تجدها تمنحك معطيات بقدرك، وفي الوقت ذاته: تطلك على آفاق بعيدة لست مجهزاً لاقتحامها. تماماً.. كما أن دراسة المجرة ـ بكامل الأجهزة العلمية ـ تمنحك معطيات بقدرك وفي الوقت ذاته: توضح أمامك أبعاداً لست مهيئاً للدخول فيها.

من هنا.. قد نجد بعض الأمل في الأحاديث المبشرة بظهور الإمام المهدي ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ : «يضع يدهم على الرؤوس فتكتمل العقول..»(15) أي: يرفع الثقافة العامة، «يأتي بدين جديد»(16)؛ وهو يبشر بشريعة جده الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم. ولكنه عندما يصعد المستوى العام، يؤهل البشر لاستيعاب الحقائق، فلا يضطر إلى الأحاديث الرمزية، وإنما يكلم الناس بحق عقله، فينسف التصورات المادية الطفولية التي نتصورها ـ اليوم ـ كل الحقيقة.

***

من المفاهيم الحديثة، الشائعة في الأوساط الإسلامية، التي لم أجد من أشبعها أو ناقشها ـ مفهوم يقول: (القرآن دستورنا).

فهل: (القرآن دستورنا)؟

وقبل الاجابة على هذا السؤال لا بد من تحديد معنى الدستور، فمفهوم الدستور أحد أمرين:

أ ـ (الصيغة القانونية لإرادة شعب).

ب ـ (إطار يجمع الخطوط الرئيسة لقانون، ويكسب شرعيته من موافقة شعب).

والقرآن ليس دستوراً بالمفهوم الأول، لأن: ـ

1 ـ القرآن ليس صيغة قانونية، وإنما هو كتاب كوني، يغمر الإنسان ـ جزء من الكون ـ بكل أبعاده، ويقتحمه من كل مداخله.

ولهذا: فرغ القرآن للأحكام الشرعية(520) آية فقط، من آياته البالغ عددها (6666) آية، والتي تعرض: قصصاً، وأمثالاً، ونصائح، وكونيات، وماورائيات...

2 ـ القرآن ليس تعبيراً عن إرادة شعب، وإنما هو تعبير عن إرادة الله، الجامعة للمصلحة الدارينية للإنسان.

والقرآن ليس دستوراً بالمفهوم الثاني، لأن: ـ

1ـ القرآن ليس إطاراً يجمع الخطوط الرئيسة لقانون، فهو كتاب واسع، يضم نظاماً كاملاً للإنسان ـ كجزء من الكون ـ بجوانبه العديدة، التي منها الجانب القانوني ـ إن صح إطلاق (القانون) على الأحكام الشرعية ـ.

2ـ القرآن لا يكسب شرعيته من موافقة شعب، وإنما شرعيته نابعة من: تقرير الله أولاً، وواقعيته ثانياً.

وأوضح دليل على أن القرآن ليس (دستوراً) ـ بالمفهوم المتداول للدستور ـ أنك لو وضعته إلى جانب أي دستور تجده يختلف عنه تماماً.

سؤال:

إذن: فأين يقف القرآن من الدستور الاسلامي؟

جواب: ـ

القرآن مادة الدستور الاسلامي: فالقرآن معدن، يمكن أن تكرر آيات منه في صيغة الدستور، لتشكل إطاراً يجمع الخطوط الرئيسة لقانون اجتماعي. تماماً.. كما يمكن أن تكرر آيات أخر منه في صيغة روحية، لتشكل إطاراً يجمع الخطوط الرئيسة لقانون روحي. وكما يمكن أن تكرر آيات ثالثة منه في صيغة كونية، لتشكل إطاراً يجمع الخطوط الرئيسة لقانون كوني، يعبر عن العلاقات الكونية ـ بما فيها الإنسان ـ.

فالقرآن كتاب دين جامع، وليس دستوراً أو أي شيء آخر على انفراد.

***

القرآن دستور دين اسمه: (الاسلام)، وليس دستوراً مدنياً، وإنما هو مادة للدساتير المدنية.

والقرآن ليس كتاباً اقتصادياً، ولا كتاباً سياسياً، ولا كتاباً اجتماعياً، ولا كتاباً عسكرياً، ولا كتاباً علمياً...

1ـ لأن القرآن لو كان أحد هذه الكتب، لما كان بقية هذه الكتب. ولو كان كل هذه الكتب على وجه الجمع بينها، لم يكن كتاب تخصص، وإنما هو كان أشبه بـ(الكشكول) الذي تجمع فيه أشتات من كل علم وفن.

2ـ لأن القرآن لو كان أحد هذه الكتب ـ أو كل هذه الكتب ـ لكان كتاب علم، ولم يكن كتاب دين..

صحيح أن العلم يدعو إلى الدين والدين يدفع إلى العلم، ولكنهما أمران متغايران:

فالدين تقنين لاتجاه الإنسان إلى الله، والعلم تقنين لتصرف الإنسان في اتجاه الحياة، ابتداءً بنفسه وانتهاء بآخر ما يستطيع التصرف فيه من مواد الحياة.

فليس الدين ذات العلم، وليس العلم ذات الدين. فالماهيتان مختلفتان، وبينهما (عموم وخصوص مطلق):

فالدين كله علم، وليس العلم كله دين، والعمل الديني علمي دائماً، والعمل العلمي ليس عملاً دينياً دائماً، وإنما بعضه ديني وبعضه غير ديني.

والعالم بالدين لا يشترط أن يعلم كل العلوم حتى يكون عالماً بالدين، والعالم بأحد العلوم لا يشترط أن يكون عالماً بالدين حتى يكون عالماً بما تخصص به.

3ـ لأن القرآن يعالج كل ما يعالجه من زاوية توجيهه إلى الله، وهذه الكتب تعالج ما تعالجه لا من زاوية توجيهه إلى الله، وإنما من زاويته المحايدة، سواء أكان متجهاً إلى الله أو إلى الشيطان.

4ـ لأن القرآن ـ كدستور دين ـ ليس أياً من هذه الكتب على انفراد، وليس كل هذه الكتب على اجتماع، وإنما هو يصلح لأن يتخذ مادة لهذه الكتب ومهيمناً عليها. كما أن أي دستور، ليس أياَ من هذه الكتب على انفراد، وليس كل هذه الكتب على اجتماع، وإنما يصلح أن يتخذ مادة لهذه الكتب ومهيمناً عليها.

فمهمة القرآن، هي تقنين اتجاه الإنسان إلى الله، بصرف اتجاهه عن المعبودات التي لم ينزل بها من سلطان، وتكريس اتجاهه العبادي إلى الله وحده، وتوسيع هذا الاتجاه بحيث يشمل كل الإنسان، حتى يتجه إلى الله في تفكيره، وفي تعامله مع الحياة، ابتداءً بتعامله مع نفسه وانتهاء بآخر ما يمكنه التعامل معه من مواد الحياة.

القرآن مجموعة من آيات كونية، وآيات فقهية، وآيات عقيدية، وآيات عسكرية، واقتصادية، وسياسية، واجتماعية... وهو لايريد أن يكون كتاباً كونياً، أو فقهياً، أو عقيدياً، أو عسكرياً، أو اقتصادياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً.. وإنما يريد أن يكون كتاب هداية، يضع الهندسة لفهم: الكون، والفقه، والعقيدة، والعسكريات، والاقتصاد، والسياسة، والاجتماع... فلذلك: لا يستكمل حتى الخطوط العريضة لهذه المواضيع، لأنه لا يحاول أن يعطي للإنسان هذه المواد، وإنما يحاول أن يعطي أسلوب تناوله لهذه المواد، ثم على الإنسان ـ نفسه ـ أن يتابع الخط الطويل.

وهكذا... كان الأنبياء وأوصياؤهم عليهم السّلام يعملون، فلم يؤلفوا أي كتاب متخصص في أي موضوع من المواضيع، لأن هدفهم توجيه طاقة الإنسان إلى الخطوط العامة للحياة والكون والإنسان، ولم يكونوا أساتذة كلاسيكيين يقفون أمام تلاميذهم لشرح آية معينة، إلا مادة التوجيه العام نحو الفهم الصحيح والتناول الصحيح، لكل موضوع يمكن أن يحتاجوا إليه، وتدفعهم الحاجة إلى فهمه وتناوله.

* قسم من مقدمة كتاب خواطري عن القرآن

........................................

 (1) كتاب: (الثقافة الإسلامية)، نقلاً عن مقالة للدكتور ميلر بروز بعنوان: (العلاقة بين العلم والدين في الإسلام).م.

(2) آئين سخنوري، تأليف: فروغي، ج2.م.

(3) سورة الإسراء: 9.

(4) أصول الكافي ج2 ص599ح2.

(5) سورة يوسف: 102.

(6) سورة الرحمن: 19.

(7) سورة الرحمن: 64.

(8) سورة الرحمن: 65.

(9) سورة التوبة: 72.

(10) سورة محمد: 15.

(11) سورة الصافات: 47.

(12) سورة الواقعة: 23.

(13) سورة النبأ: 33.

(14) بحار الأنوار ج1 كتاب العقل والجهل ص85 ح7.

(15) بحار الأنوار ــ ج52 ــ باب(26) ـ ص329.

(16) بحار الانوار ـ ج52 ـ باب(26) ـ ص338.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 22/تموز/2013 - 13/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م