{يا أيها الذين آمنوا! كتب عليكم
الصيام، كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون}.
(سورة البقرة: الآية 183)
لا يطرح الصيام على من يعرف أن الإسلام دين واقعي حياتي، إلا
ويتساءل:
(ما هي حقيقة الصيام، التي جعلته ركناً من أركان الإسلام، ومن أركان
الأديان ـ كما يقول القرآن ـ؟).
(هل الصيام هو مجرد الامتناع عن الممارسات الحيوانية الترابية، من:
الأكل، والشراب، والجنس... أم الصيام شيء آخر؟؟).
لايمكن أن يكون الصيام مجرد الكف عن الممارسات الجسدية، لأمرين:ـ
1ـ أن طبيعة الصيام ـ في ظاهر التشريع ـ طبيعة سلبية، لا يمكن أن،
تكون هدفاً من أهداف شرائع السماء الإيجابية. لأن كبح نداءات الجسد ـ
ولو لفترة الصيام ـ عملية هدم، وليست عملية بناءٍ، فهو عملية سلبية، لا
ينسجم مع طبيعة الأديان، وخاصة مع طبيعة الإسلام، الذي هو حضارة الروح
والجسد معاً، والذي اهتم برعاية الجسد كما اهتم برعاية الروح، فقال:
{وابتغ ـ فيما...الدنيا... }(1).
وقال ـ على لسان الإمام علي بن الحسين (ع) ـ : «ليس منا من ترك
آخرته لدنياه، ولا من ترك دنياه لآخرته»(2) وقال ـ على لسان معصوم آخر
ـ: «.... وإن لجسدك عليك حقاً»(3).
2ـ إن طبيعة الصيام ـ في ظاهر التشريع ـ محاولة لإلغاء رغبات الجسد
ـ ولو فترة الصيام ـ. وإلغاء رغبات الجسد لا يمكن ما دام الجسد، إلا
إذا كان حلقة في سلسلة أعمال تصفوية تمارس لإلغاء الجسد أو تذويبه.
والإسلام عمل لصيانة الجسد وترتيبه، واعتبر أي عمل يؤدي إلى إهلاك
الجسد ـ أو طرف من أطرافه ـ من أكبر المحرمات، وألغى أي حكم يؤدي
الالتزام به إلى إهلاك الجسد، أو طرف من أطرافه.
والإسلام احترم رغبات الجسد، واعتبرها أمانة الله لدى الإنسان، وشرع
الأحكام لتقنينها.
فكيف يكون إهمال رغبات الجسد، عبادة تقرب إلى الله، والاستجابة لها،
معصية تبعد عن الله؟؟!!
فلا بد أن نفترض الصيام، أحد شيئين لا ثالث لهما:ـ
1ـ شيء مركب له جانبان: جانب سلبي وجانب إيجابي وجانبه السلبي،
تجاهل نداءات الجسد ـ فترة الصيام ـ. فيكون التساؤل:
(إذن: فما هو جانبه الإيجابي؟).
2ـ شيء بسيط، يمهد له تجاهل الجسد ـ خلال فترة الصيام ـ كالبناء
الذي يمهد له الهدم. والصيام، يؤدي دور الهدم. فيكون التساؤل:
(إذن: فما هو الصوم الحقيقي الذي يمهد له الصيام الظاهري؟).
ففي الفرضية الأولى، يكون التساؤل بحثا عن الجانب الإيجابي للصيام.
وفي الفرضية الثانية يكون التساؤل بحثاً عن حقيقة الصيام.
ويمكن الجواب على هذا التساؤل بما يلي:ـ
1ـ إن حقيقة الصيام ـ كلها ـ هي ما يبدو من ظاهر التشريع، وهو إيقاف
الغرائز ـ فترة الصيام ـ. وليس إيقاف الغرائز لفترة محددة، عملاً سلبياً،
إذا كان من مصلحة الغرائز أنفسها، وفي صالح الجسد ذاته. لأن الإيجابية
بالنسبة إلى أي شيء، لا تعني العفوية والاسترسال، وإنما تعني الالتزام
وفق التقييم الواقعي المدروس.
والتقييم الواقعي المدروس، دل على: أن الاسترسال العفوي مع الغرائز
إلى منتهى طغيانها واندفاعها؛ يودي إلى استنفادها الباكر، وتبكيت الجسد
من ورائها. وأن ترويضها، يساوي احترامها وصيانة الجسد من ورائها.
وقد أفاد الطب: أن الصيام ـ بظاهره الوارد في نصوص الشريعة ـ يؤدي
إلى تربية الجسد، وتخليصه من الرواسب المتطفلة عليه، والزوائد العالة
التي تشل نشاطه واستقامته. وقد أفاد الطب أن الصيام ـ بظاهره الوارد في
نصوص الشريعة ـ يؤدي إلى تنشيط الغرائز، وإنقاذها من الرهق الكابي.
فهو عمل إيجابي، رغم ظاهره السلبي.
لأن واقع كل شيء لا يقاس بظاهره، فرب شيء ظاهره سلبي وواقعه إيجابي:
فالنوم ـ في ظاهره ـ عمل سلبي، لأنه يعطل الجسد عن ممارساته الحيوية، و
ـ في واقعه ـ إيجابي، لأنه يهدىء الأعصاب ويريحها، فيهيىء الجسد
لمواصلة ممارساته الحيوية.
وتشذيب الشجر ـ في ظاهره ـ عمل سلبي، لأنه تنقيص لحجمه، وبتر
لأغصانه، وتحديد لامتداده، و ـ في واقعه ـ إيجابي، لأنه تطهير له من
عفويته، وإنقاذ له من الفروع المحسوبة عليه، التي تعيق فيه نشاط
الإثمار ووفرة الغضارة.
* من كتاب خواطري عن القرآن |