شبكة النبأ: فيما التقدم العلمي يطوي
المسافات البعيدة الى الامام وبسرعة هائلة، ويتعرف الانسان يومياً على
وسائل جديدة في عالم التقنيات، ويكتشف الكثير مما يوفر له الراحة
والرفاهية وايضاً المال الكثير، نجد أن هذا الإنسان يبتعد عن ذاته
ونفسه، الى درجة الجهل بها والشعور العميق بالغربة والوحشة، بمعنى تكون
علاقته وثيقة مع وسائل الاتصال الحديثة، وعلوم الطب والهندسة والقانون
والفضاء وغيرها، لكن نفسه التي بين جنبيه، لا علاقة له بها.
وبما ان التسمية التي أطلقها عليه رب العزّة والجلالة (إنسان)،
توحي الى سمة "الأنس" و"الألفة" فيما بينه وبين نفسه، وايضاً ما بينه
وبين الناس، نجد حصول التقاطع والاصطدام بين النفس، التي هي موجودة
بالفعل، وبين ما يخوضه الانسان من مشاغل وملاهي في حياته.
ذلك عندما يحصل التناقض بين سلوكيات وأعمال ومالآت الواقع الخارجي،
وبين النفس التي خلقها الله تعالى لتكون هي القاعدة للنمو والتطور
الانساني، "ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها". لنلاحظ التقدم
والتطور الهائل في عالم الاتصال، والنقل والتجارة، ثم لنلاحظ السرعة
الهائلة ايضاً في انتشار الامراض العجيبة والفتّاكة، وانتشار الفقر
والبطالة والتحلل الخلقي والتفكك الأسري في مختلف انحاء العالم.
الى هذه النقطة يضيئ سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد
صادق الشيرازي – دام ظله- ويؤكد أن غياب العقيدة الصحيحة، هي التي تدفع
بالانسان الى متاهات الغربة والوحشة مع نفسه.. حيث يقول: "إن المؤمن لا
يستوحش أبداً، لانه يؤمن أن الله تعالى معه أينما حلّ وارتحل، ومن
تبعات الفراغ الروحي والامراض الروحية والإحساس بالوحشة والغربة، اصابة
الانسان بمرض الكآبة..".
هذه الحالة الشاذة، من شأنها ان تترك أثرها الخطير على المجتمع في
اتجاهين: الاول: في العلاقة بين الانسان ونفسه، والاتجاه الثاني: في
علاقته مع مجتمعه وأمته..
في الاتجاه الاول: عندما يشعر الانسان بالغربة مع نفسه، وعدم وجود
المؤنس والرفيق، ينتابه شعور – ربما لا إرادي- بحالة من السبعية
والوحشية في تعامله مع الناس، فتغيب عن تصرفاته وتعاملاته، المعايير
الانسانية والاخلاقية، ويذهب الوجدان والضمير الى إجازة مفتوحة، فيبدأ
التطاول على حقوق الآخرين، والتجاوز والاعتداء، كأن يكون على الجار، أو
خلال البيع والشراء، او حتى التطاول على أعراض الناس. فهو يجد كل شيء
مباح له ومتاح، ولا أحد يمنعه أو يقوّم عمله.
اغتراب الحكام
وفي الاتجاه الثاني: تتمثل الغربة مع النفس، في الحاكم وقمة الهرم
في الدولة، كأن يكون رئيساً او وزيراً او قائداً عسكرياً، فانه يملأ
فراغ نفسه بالاستئثار بالاموال العامة، والسيارات الفارهة والقصور
والامتيازات الفاحشة التي تقتطع من أفواه الجياع واصحاب الدخل المحدود.
ولا داعي لتصفح التاريخ القديم، وما فعله الحكّام الذين رفعوا شعار
الدين والإسلام كذباً وزوراً، ثم نهبوا وأجرموا وانتهكوا، بما تعجّ به
صفحات التاريخ وتأن من وطأتها، إنما نلفت نظر القارئ الكريم الى تجارب
الحكومات التي زماننا الحاضر، والتي طالما تشدقت ليس بتبني الاسلام
وأحكامه وتعاليمه، إنما لحفظه وصيانته وخدمته و....!، وفي خطوة اكثر
تطوراً، بدأنا نشهد تيارات فكرية، وليس أشخاص يرفعون شعار الإسلام
وقراءة الدين بالمنظار الذي يريدونه ويحقق طموحاتهم واهدافهم.
هؤلاء؛ إن بحثنا في أعماق نفوسهم، نجد الخواء والفراغ العميق روحياً
ونفسياً، فلا عقيدة يتمسكون بها، ولا إيمان حقيقي يجعلهم مصونين من
الانحراف والجنوح الى الجريمة والاعتداء على حقوق الآخرين. نعم؛ يوهمون
أنفسهم، أنهم افكار حديثة ونظريات جديدة قادرة على تحقيق طموحات الناس
وتلبية احتياجاتهم. لكن لا تلبث الأيام إلا وتكشف زيفها وفشلها.
مقارنة نفسية
واذا أجرينا مقارنة بسيطة بين الحالة النفسية والروحية للإنسان الذي
يعيش في دوامة الحياة المادية، وبين نظيره الذي يعيش في كنف الحالة
المعنوية مع تمتعه بالإمكانات والفرص الموجودة في الحياة. نجد الفارق
الكبير، لنلاحظ الاعداد الهائلة لمستشفيات الامراض العقلية في الغرب،
وايضاً لعدد الأطباء الاختصاص بالأمراض النفسية والروحية هناك، ثم لنرى
العدد في البلاد الاسلامية، أو بالأحرى، لنرى حاجة الانسان المسلم في
أي مكان بالعالم، الى هكذا اماكن.
هنالك إحصائية قديمة من الولايات المتحدة تقول إن عدد المرضى في
مستشفيات الأمراض العقلية بلغ (750) ألفاً، وهم يشغلون 55% من جميع
أسرة المستشفيات في اميركا. أما عدد المستشفيات للأمراض الجنسية فيبلغ
(652) مستشفى. أما في السويد، التي تعتبر من أرقى بلدان العالم من
ناحية دخل الفرد والضمان الاجتماعي، ففيها أعلى نسبة للأمراض النفسية
والعقلية، فقد بلغت (25%) من سكان السويد، وتنفق الدولة (30%) من
ميزانيتها على علاجهم.
ولا أعتقد أننا بحاجة الى كثير من الارقام والاحصائيات، حيث متابعي
الانترنت، امامهم الارقام الحديثة والمهولة وهي تتحدث عن أدنى ما وصلت
اليه الشعوب التي تعاني من الفراغ الروحي، حيث انتشار الشذوذ الجنسي،
والتفكك الأسري، وانتشار مرض الكآبة لدى الكبار، و"التوحّد" لدى الصغار،
وهو المرض الغريب الذي لم يألفه عالم الطفولة من قبل. والذنب ليس من
الطفل الصغير، إنما من الكبير الذي يجد نفسه حائراً بينه وبين نفسه
وحالته المعنوية، فكيف يتسنّى له التفرّغ لطفله وبناء شخصيته الداخلية،
كأن يمنحه الثقة بالنفس، ويحسسه بالاحترام والتبجيل والقيمة بوجوده في
الحياة.
تكريس العقائد الحقة
هنا؛ لابد ان نتذكر أن المسلمين في كل مكان، حتى في أقدس الاماكن في
البلاد الاسلامية، لن يكونوا مصونين من حالة الفراغ الروحي والنفسي،
إذا لم نفكر في تدعيم وتكريس العقائد الحقّة في نفوسنا، وهو ما يشير
اليه سماحة المرجع الشيرازي، في كتابه "المرأة والعائلة" حيث يقول: "ان
تأصيل المعتقدات الدينية وتعميم الثقافة الاسلامية بين الناس، وبالأخص
بين الشباب، تعد أفضل السبل للحدّ من الجرائم الفردية والاجتماعية،
فالشاب الذي ينشأ على الاعتقاد بأن الله ناظر اليه، وانه جلّ شأنه يعلم
بما يخفيه وما يعلنه، لن تزل قدماه، ويكون مصوناً من الذنب والظلم.
مما نستوحيه من كلام سماحة المرجع، أن العائلة والأسرة المسلمة، تعد
اليوم المسؤولة الأولى في البناء الروحي للإنسان، وأي خلل او ظاهرة
شاذّة نجدها في المجتمع، لابد ان نجد جذورها في الأسرة، هذا الى جانب
العوامل المساعدة الأخرى خارج محيط الأسرة، مثل المؤسسات الدينية
والحوزة العلمية، والمؤسسات الحكومية، ودور الدولة في هذا المجال، حيث
يكون للإمكانيات المالية والتخطيط، دور فاعل ومؤثر في تكريس حالة
التديّن وإبعاد الشباب وجميع افراد المجتمع، عن كل ما من شأنه تقويض
الحالة المعنوية والروحية في داخل الانسان، وتحسيسه باللا مسؤولية
والفوضى والعبثية.
وبما نحن في شهر الصيام؛ شهر رمضان المبارك، حريٌّ بنا أن نستثمر
هذه الفرصة، لأن نعرض أنفسنا لنسمات القرآن الكريم، الذي يكون في مرحلة
"الربيع" في هذا الشهر الفضيل. فالمداومة على تلاوته والتدبر في آياته،
تفتح أمام الانسان آفاق واسعة لا نهاية لها، بحيث تجعل الانسان قادراً
على أن يملك العالم، وليس نفسه وحسب.. علاوة على ذلك، فان القرآن
الكريم، بحق؛ عامل شفاء وبلسم للروح والنفس الانسانية؛ "يَا أَيُّهَا
النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا
فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ"، [يونس: 57]، وقال
تعالى أيضًا: "وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا" [الإسراء:
82]. |