الحياد والموضوعية في الاعلام حقيقة أم خرافة؟

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لم يسقط الاخوان المسلمون لوحدهم في مصر، ولم يكن حدث السقوط الاخواني فقط منذرا بسقوط الاسلام السياسي الذي تعارفت عليه بلدان الربيع العربي تسلقا الى اعلى مراكز السلطة، بل تبع ذلك سقوط من نوع اخر، وهو سقوط قناة الجزيرة الفضائية، والتي تأخر اعلان سقوطها كثيرا، وهي التي فشلت في اكثر من امتحان سابق على صعيد تغطياتها الاعلامية للكثير من الاحداث في المنطقة.

كأننا كنا ننتظر سقوط مرسي، احد القلاع الاخوانية في مصر، لتسقط معه قلعة اعلامية اخرى، شاءت الصدف (المدبرة) ان تكون هي والامارة التي اسستها من الداعمين للربيع العربي بتوجهه الاسلامي الاخواني.

في منتصف تسعينات القرن الماضي، اخترق الفضاء العربي صوت الجزيرة القطرية، وحققت بعد وقت قصير من ظهورها نسب مشاهدة عالية بسبب من الاختلاف في طبيعة خطابها السياسي الذي خرق احد التابوات الثلاثة الشهيرة في المجتمعات العربية (الجنس – السياسة – الدين) مقارنة بمحطات تلفزيونية مملوكة للدولة العربية، والتي بقي خطابها متكلسا يدور حول نفس الموضوعات في اجترار ممل وسخيف.

لم يطرح المشاهد العربي سؤالا من قبيل المهنية او الموضوعية او الحياد في اخبار وتقارير القناة، وهو سؤال يفترض ان يطرح منذ الانتباهة الاولى لظهور القناة الفضائية.. الجميع كان ماخوذا بكشف الملفات التي برعت فيها الجزيرة، وخاصة ما يتعلق منها بالدول التي كانت على خلاف مع الجزيرة – الامارة.

صوت الاختلاف والافتراق عما هو موجود كرس لهذه القناة حضورها لدى المشاهد العربي، وكانت صوتا منحازا لما يريده هذا المشاهد لعدد من قضاياه في كل بلد من البلدان العربية، الا قطر لم يعرف احد عنها شيئا من خلال تلك القناة، رغم وقوع بعض الاحداث فيها، ترشحها ان تكون في مقدمة نشرات الاخبار، على سبيل المثال انقلاب الامير على والده، وقضية القطريين البدون الذين قامت قطر بطردهم، وهم عدة الاف.

في سنوات لاحقة اختارت القناة القطرية ان تكون منبرا لكل حركات الاسلام السياسي، المتطرفة منها والمعتدلة، وكانت تبث رسائلهم واشرطتهم الفيديوية، رغم احتوائها على الكثير من دعوات التطرف والتحريض.

الجزيرة الفضائية هذه الايام سقطت من عرشها، والسبب السقوط المدوي للاخوان المسلمين في مصر، وما تبعه من انحياز كامل لفصيل من المتظاهرين في تغطيتها الاعلامية للحدث المصري، وهو فصيل الاخوان المسلمين.

بعد ساعات على عزل الرئيس المصري محمد مرسي في 3 تموز/يوليو في اعقاب ايام متواصلة من الاحتجاجات الحاشدة توجهت الانظار نحو وسائل الاعلام التي تدعم جماعة الاخوان المسلمين. ودهمت قوى الأمن المصرية مكتب قناة (الجزيرة) القطرية في القاهرة مع قنوات اسلامية أخرى. وبعد ثلاثة ايام تحدثت قناة الجزيرة عن عملية دهم أخرى، بتهمة تهديد السلم الأهلي والأمن القومي ببث اخبار تحريضية.

وكانت قناة الجزيرة قدمت تغطية على مدار الساعة لانتفاضات الربيع العربي عام 2011. ولكن ما ان انقشع الغبار حتى تعرضت القناة الى اتهامات بالتحيز الى جانب الاسلاميين. ونقلت مجلة فورين بولسي عن الباحث المختص بمتابعة الاعلام العربي في دبي فادي سالم قوله (ان العديد من محرري الجزيرة ومذيعيها في الواقع متعاطفون مع جماعة الاخوان المسلمين وان هذا التعاطف انعكس في تغطية القناة المؤيدة للاسلاميين على امتداد العامين الماضيين معتمدة اعتمادا كبيرا على صيغة تجمع بين التحريض والمشاهد الدموية والخطباء الاسلاميين والمعلقين الاعلاميين).

واشارت المجلة الى رصد أمثلة على تغطية الجزيرة المنحازة التي وصل بعضها الى حد يثير السخرية عندما كان صحفيوها يسارعون الى خطف الميكرفون بعيدا عن فم المصري الذي ينتقد مرسي على الهواء.

وكانت قناة الجزيرة مباشر مصر تغطي الاحتجاجات لكنها لا تُشاهد إلا في مصر وهي منحازة بالقدر نفسه الى جانب الاخوان المسلمين حتى ان المتحدث باسم الاخوان جهاد الحداد أوعز على تويتر الى اتباع الاخوان بأن يشاهدوا هذه القناة بعد حادثة دار الحرس الجمهوري ومقتل 51 شخصا ، بحسب مجلة فورين بولسي.

 وكثيرا ما يكون انحياز الجزيرة مبطنا غير مباشر ، كما يتضح من اعلان مدير مكتبها في القاهرة في اليوم الثاني على تولي مرسي مهام الرئاسة ان معبر رفح الحدودي قُلب (رأسا على عقب) ، وهو قول فيه كثير من المبالغة. ولكن انحيازها يكون سافرا في احيان أخرى ، كما في حزيران/يونيو 2012 عندما بثت تقريرا يدَّعي ان مرسي يستحق تحية عسكرية لأن زوجته طلبت ان تُعرف باسم أم احمد بدلا من السيدة الأولى. وزادت الجزيرة من مشاعر النقمة عليها بين المصريين من غير الاخوان المسلمين بتقرير مثير للجدل قبل ايام بثته بعنوان يفيد ان الولايات المتحدة مولت ناشطين مناوئين للرئيس المعزول.

ورد المصريون بغضب على تغطية الجزيرة المنحازة للأحداث. ففي 8 تموز/يوليو أُلقيت خارج مكتب القناة في القاهرة منشورات رُسمت عليها يد تقطر دما. وسخر المنشور من موقف الجزيرة بعبارة (الفتنة والفتنة الأخرى) ردا على شعار الجزيرة (الرأي والرأي الآخر). وقالت مجلة فورين بولسي ان منشورا آخر وُزع قرب مكاتب الجزيرة جاء فيه (ان رصاصة قد تقتل انسانا ولكن كاميرا كاذبة تقتل امة).

وان تكون قناة الجزيرة منحازة لجماعة الاخوان المسلمين فان هذا بات حقيقة مسلَّما بها. وفي كانون الثاني/يناير هذا العام وجهت مجلة الايكونومست البريطانية انتقادات لاذعة للقناة بسبب دعمها جماعة الاخوان المسلمين في مصر بلا تحفظ. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2012 كتب العالم السياسي الن غريش ان قناة الجزيرة (فقدت الكثير من بريقها وعددا من خيرة صحفييها واصبحت بوقا للاخوان المسلمين). وقال عادل اسكندر الباحث المختص بالشؤون العربية في واشنطن (ان قناة الجزيرة بتطبيلها للاخوان عمليا فقدت سوقها في اكبر بلدان المنطقة سكانا واصبحت منبوذة في المجتمع).

وبعد عزل مرسي بُث شريط فيديو يظهر فيه احمد منصور ، وهو صحفي معروف آخر في قناة الجزيرة ، ينصح الاخوان المسلمين واتباعهم كيف يُعيدون مرسي الى الرئاسة داعيا الى رفع الاعلام المصرية مثلما رفعها (من سرقوا الثورة)، على حد تعبيره.

واعتبر الباحث اسكندر في واشنطن ان فيديو احمد منصور (تطور مقلق) يشير الى انه حتى صحفيون متمرسون في الجزيرة (تخلوا عن دورهم كمهنيين وتحولوا الى كوادر سياسية).

يعيدنا ما حدث مع قناة الجزيرة، الى التذكير بمؤتمر (إعلام الأزمات وأزمة الإعلام) الذي انعقد قبل شهور قليلة بالقاهرة، وقد أوصى الخبراء والأكاديميين الإعلاميين بضرورة الفصل في الأداء الصحفي بين العمل المهني والسياسي فيما يتعلق بمواثيق الشرف في العمل الصحفي، حيث ينبغي على الصحفي أن يفصل بين مهنته الصحفية واتجاهه السياسي. فالصحفي أو المراسل الذي يعمل في مجال الخبر والتحقيق هو الذي يجب ألا يقوم بدور الناشط إن كان يسعى للمهنية والموضوعية الصحفية، بينما كاتب الرأي له الحق أن يكون ناشطا كما يحلو له فهو صوت عقله وليس صوت الواقع لإن الواقع هو صوت الصحفي بلا منازع، أما “الناشط” فله أن ينادي بما يؤمن به دون أن يلبس ثوبا صحفيا ليوهم المتلقي بالموضوعية.

وتظهر بعض استطلاعات الرأي أن المتابع العربي يفضل أحيانا القنوات التي توصف بالانحيازية في تغطيتها على غيرها من القنوات.

ويفسر من ينتمي لتلك الفئة بأنه يفضل القناة التي تنحاز إلى المظلومين وأصحاب الحق من وجهة نظرهم.

حياد وسائل الاعلام يرتبط ايضا بالجهة المالكة لها. اذ تخضع وسائل الإعلام المملوكة للدولة في كثير من الأحيان لسيطرة الحكومة المباشرة، وبالتالي تميل لصالح الحزب الحاكم. كما أن وسائل الإعلام المملوكة ملكية خاصة تخدم أيضا المصالح السياسية لأصحابها.

المهنية والحياد والموضوعية التي اختفت من العمل الاعلامي، والتي لا تقتصر على قناة الجزيرة فقط، تعود الى عدة اسباب حسب المتابعين للشأن الاعلامي:

1 - ظهور مصادر جديدة عبر الانترنت لا يمكن حصرها ولا التحقق منها كما كانت الحال مع وكالات الأنباء العالمية.

2 - ظهور وسائل جديدة جعلت من المتلقي مرسلاً أيضاً، يتحول من مجرد متلقٍ سلبي للأخبار إلى مرسل إيجابي لديه في هاتف ذكي صغير الحجم كل ما يحتاج إليه كي يؤدي دور الصحفي البديل، في غياب الصحفي المحترف، فاختلطت الأدوار بين متلق ومرسل، وأصبح المتلقي يشعر بأن لديه سلطة على المرسل تسمح له بالتشكيك في كل شيء والتدخل في أي لحظة عبر وسائل التواصل المتاحة له، مع أنه ليس صحفياً حرفياً وقد لا يمتلك قدرات الصحفي المطلوبة لأداء العمل الصحفي بمهنية. وأحياناً هو يعطي لنفسه حق التلاعب بالمعلومات والصور كي يقحم فكرته أو وجهة نظره.

3 - انتشار التعددية وحرية التعبير دون أي نشر لثقافة التعددية وثقافة الحرية، مما يفسح المجال لكثير من الانفلات والفوضى في ممارسة حرية التعبير ليس فقط في فكر المتلقي والصحفي البديل بل أيضاً على مستوى الصحفيين المحترفين الذين أصبحت لديهم توجهات سياسية يعبرون عنها بشكل صريح حتى لو أثر ذلك على تغطياتهم الصحفية.

4 - انتشار جو من المنافسة الإنتاجية يجعل وسائل الإعلام تشعر بأنها دائماً تحت ضغط الخروج بشيء جديد، فعليها دائماً أن تقدم عناوين ساخنة وتبحث عن مواضيع ساخنة، وتكون سباقة في نشر الأخبار مهما كان الثمن

سقطت قناة الجزيرة سقطة مهنية كبيرة في أحداث مصر، حيث أصبح المذيعون - معظمهم - وقبل المعدين والقائمين على القناة طرفا مباشرا في النزاع، يبحثون في أسئلتهم عن ما يدعم وجهة نظر واحدة فقط.. ويتم إيقاف أو تحويل الحوار أو وقف الاتصال عندما يعرض لوجهة النظر الأخرى.. ويرتفع صوت المذيع أو المذيعة ويعلو صوت الضيف عندما لا يتفق مع وجهة نظر القناة في تبني موقف التظاهرة.. كما ابتدعت القناة أسئلة إيحائية متكررة لمصادرها في الشارع أو مكاتبها أو في مقرها أو مع مراسليها.. والجميع بدأ يتفهم موقف القناة، ولهذا أصبحوا يؤيدون اتجاهات الجزيرة، وتغذيتها بما تريده من تحليلات ومواقف وآراء مساندة.. كما عملت الجزيرة على استقطاب أصحاب الرأي الواحد، وأصحاب المواقف العدائية من أجل تأكيد ودعم مواقفها المساندة لطرف ضد طرف آخر.

وعلى حد تعبير احد الباحثين العرب: لقد اصبحت الموضوعية والحيادية المهنية أسطورة لا وجود لها فى العمل الإعلامى، وعلينا الاعتراف بهذه الحقيقة دون خجل، لأننا أصبحنا ننتهكها كل يوم فى صحفنا وقنواتنا التلفزيونية ومواقعنا على شبكة الإنترنت، ومن ثم بات علينا بدلا من أن نعلم طلابنا الموضوعية، وكيفية تحقيقها وممارستها، علينا أن نعلمهم التحيز وفنونه.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 15/تموز/2013 - 6/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م